عندما يسقط إنسانٌ بقرار شخصي بحت، إياك أن تحاول التقاطه، دَعْهُ يرتطِم حتى يُسمعَ دويُّ ارتطامِهِ من مكان بعيد. السقوطُ الفطريُّ أو الاختياري، سمةٌ قديمةٌ في الإنسان، لكن السؤال الأهم:
لماذا أدعوكَ إلى عدم التقاطه؟
أنت قد تقرر أحيانًا التقاط شيءٍ سخيف سقط منك على الأرض؛ عملة نقدية من عيار (شيقل/ خمسة، خمسون/ أكثر أو أقل) في وسط شارعٍ عام، وأنت تحاول التقاط هذه العملة، بحجة أنَّ لها قيمة، قد تُعرضُ نفسك للخطر، فقد تدوسك عجلات سائق متهور، ناهيك عن أنَّ الانحناء لالتقاط ذلك الساقط أرضًا بِحدِّ ذاته فيه مَضرَّةٌ كُبرى، فتخيّل نفسك منحنيًا في شارع عام، وهذا يكفي، هل نظرتَ إلى بعضِ تفاصيل جسدكَ وأنتَ توجِّهُ أشياءك وجهاتٍ غير صحيحة، يعني عندما ( تدومِح، تدوبح/ تطوبز/ تبوبز) كلها مصطلحات تصلح في شأنٍ لا يمكن إصلاحه. هل خطرَ ببالك وأنت بهذه الحال أن يستفزَّ الأمرُ مراهقًا ما. وهذا ما سيحصل معك بالضبط، لو انحنيت لالتقاط (إنسانٍ) قرّرَ أن يُسقِطَ نفسه من حساباتِه وحساباتك، ستهشِّم روحك، وستجعله ثقيلًا على الأرض أكثر، وفي أثناء محاولاتك وأنت (مدوبِح)، محاولًا رفعه إلى حيث يجب أن يكون الإنسان، مع اشتغال قانون الجاذبية، فقد يجذبك للسقوط، وقد تسقط فعلًا، فماذا لو أُصِبتَ بشدٍّ في عضلاتِ المُخّ، وماذا لو أصابكَ (فْتاقْ) في مجاري التفكير العليا؟ هل أنت مستعدٌّ للسير بعدها على عكّازَتين؟ هل سيقدر ذلك المتهاوي على إسنادك بعد سقوطه؟ لا أظن ذلك. لهذا وذاك، اعتمد على قدراتِك، وشنِّفْ أُذُنَيْكَ بصوتِ الارتطام، وأشعل سيجارتك وأنت تترنم على هذا المدوّي الجميل، وانفض ثيابك بعدها، وتحسس خطواتك الخفيفة، وقد أنزلتَ عن كاهلك ثقلًا لا يجرُّ عليك سوى تقوُّس الظهر، وقلة القدر، فلماذا لا تجرب الآن هذا الجريَ خفيفًا وأنتَ بلا عكاز؟
هناك سقطات كثيرة نحبها، بل إننا نسعى لها، فأنت قد تقف أمام المرآة صباحًا ومساءً، تتحسس الزوائد الدهنية في أسفل الكرش، والأرداف، واللغاليغ، وتدفع أحيانًا مبالغ محترمة بهدف إزالة تلك الزوائد، عندما يتكاثف شعرُ رأسك أو ذقنك، ماذا تفعل؟ عندما تتراكم الفضلات في أمعائك الدقيقة والغليظة، بل عندما تشعر أنَّ البيت امتلأ بمتعلقات الأثاث الزائدة، وعندما تتكدس القصاصات الورقية في حقيبة الجيب، عندما، وعندما…. والأمثلة كثيرة، عندما تحتفظ بأشياء مستعملة استغنيت عنها واستبدلت بها أشياء جديدة، لماذا تحتفظ بها وقتًا من الزمن؟ بل لماذا تُسقِطُها من الخدمة، ولكنّك لا تتخلى عنها مباشرة؟ لأنك ببساطة اعتقدتَ أنها ستنفعك يومًا ما، لتكتشف بعد حين من الدهر، أنك احتفظت بشيءٍ لا قيمة له، فتسارع لقذفه في الحاوية، وهذا هو حال البشر، قد تحتفظ بعلاقة مجمّدة، أو في طريقها للذوبان، ولكنّك تكتشف بعد فترة أنها لم تعد صالحة، لأنَّ الأشياء المادية تسقط منك ومن حساباتك تحت عوامل الاستهلاك، وهي بحد ذاتها لم تقرر أن تسقط، فلذلك أنت تحاول التمسك بها، أما السقوط الاختياري، فهو فعلٌ مبرمج، يقدم عليه أصحاب النفوس المريضة، الذين اعتلَّت عندهم عدادات الكسب والخسارة، فهم لا يؤمنون بالعطاء، بل إنَّ إيمانهم بالأخذ قاطعٌ، لا تدنِّسُهُ مغريات العطاء، ولا تُشعرُ أتباعه بأنّ هناك حلاوةً في هذا الأمر، وهذا الإيمان الراسخ يمثل عقيدةً ثابتة في مناهجهم، إلى أن يحين ذلك اليوم الذي يتفجَّرُ فيه نور هذه العقيدة، فإذا به سوادٌ يزيدُ قلوبهم غمًّا وظلامًا، فيسقطون، وهنا، لا تتبع خطواتهم، ولا تراقبها، ولكن كُنْ حاضرًا للاستماع فقط، استمع واستمتع بدويِّ السقوط، وقل: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيرًا من عباده، وفضَّلنا على كثيرٍ من العالمين.
ولكن كيف يسقط الإنسان؟ هذا سؤالٌ كبيرٌ عريضٌ، وفي استعمالات السقوط إشاراتٌ كثيرة صار فيها لغطٌ وجدلٌ، فالناس والمذيعون منهم يقولون: (سقط شهداء) وهذا تجنٍّ كبيرٌ على مَن رفعهم الله إليه، وكرَّمهم برفع مراتبهم إلى مصافّ الأنبياء والصالحين. فالشهداء لا يسقطون، وكذلك، فإنَّ معظم الموتى لا يسقطون. وإنما الأحياء أجسادًا هم الذين يسقطون أو يسّاقطون دون أن يهزَّهم أحد، والسقوط قد يكون في الكذب، وربما يكون باللؤم والأنانية، والجشع والطمع، والغدر والخيانة، وربما بالبخل، فالبخلاء لهم صفاتٌ مركبة، يستأثرون لأنفسهم ولو لم يكن بهم خصاصة، قنّاصونَ فرصًا، حتى لو كانت الفرصة قطعة من المعجنات، أو فنجان قهوة، (مش مهم)، فهذه فرصة مناسبة لإعلان انتصارهم، وقد تكون الفرصة (سيجارة)، وكل ذلك في اتجاه واحد، فهم يأخذون دائمًا، أو (يتسلبطون) ولكن إن وقعت الفاس بالراس، فإنّهم يعلنون الإفلاس، والعبارة المشهورة (معيش فراطة، مش حامل مصاري، نسيت الجزدان…) وإن حصل ولم يجدوا مخرجًا، فإنَّ المقنّع الكندي يجلد سقوطهم بهذا الوصف الذي ما رأيتُ أجمل منه:
"والمَالُ يَرفعُ مَن لَولا دَراهمُهُ… أمسَى يُقَلِّبُ فينَا طَرفَ مَخْفوضِ
لَن تَخرُجَ البِيضُ عَفواً مِن أكفِهمُ…. إِلَّا عَلى وَجَعٍ مِنهم وتمريضِ
كأنَّها مِن جلودِ البَاخِلين بِها…. عِندَ النَّوائبِ تُحْذى بالمقاريضِ"
فهل هذا هو السقوط الوحيد؟ بالطبع لا. فهل رأيتم أشدَّ سقوطًا من رجلٍ سقط من رحمِ أُمِّهِ إلى الحياة، فرفعته الأم إلى صدرها، ثم على كتفيها، ثم على روحها وقلبها، فقرر بعد ذلك أن يسقط بالعقوق، وأكل الحقوق؟ ولكن هذا السقوط لا يفعله إلا بخيلٌ ظالم لنفسه، فيكون كمن سقط من الجنة إلى الأرض، وهنا تتعاظم الخطيئة، فهذا السقوط ربما هو من أبشع أشكال السقوط وأشدها ارتطامًا، لأنَّ كل علماء الفيزياء ومن لفَّ لفيفهم، لم يجدوا حتى الآن قانونًا يقيس سرعة هذا السقوط؛ نظرًا لأنّ قياس المسافة بين جنّة الأم وجهنم العقوق أمرٌ يتعذَّرُ على الفيزيائيين حسابه. فكيف تقرر أن تسقط؟