الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

لقاء مع أحد صانعي الانطلاقة 1/1/65 (نحن ننتظر القمر)

رسالة خرجت من القدس وفلاح فلسطيني رائع من (إذنا) تلقى الرسالة.. وكانت الثورة

2023-01-22 01:52:35 PM
 لقاء مع أحد صانعي الانطلاقة  1/1/65 (نحن ننتظر القمر)
إحياء ذكرى الانطلاقة في غزة

أجرى المقابلة

سامي سرحان

في ذكرى انطلاقة الثورة، وفي ذكرى الرحيل الأولى لسامي سرحان نعيد نشر هذه المقابلة، التي كان قد أجراها عندما كان يعمل في صفوف الثورة الفلسطينية. وذلك، عندما انتقل سرحان عام 1974 إلى العاصمة اللبنانية بيروت، ليتولى مهام مدير التحرير في وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"، ومن ثم سكرتيراً للتحرير في مجلة "فلسطين الثورة"، الصحيفة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية. أشرف سامي سرحان على إصدار جريدة "فلسطين الثورة" اليومية حتى الخروج من بيروت إلى تونس، حيث تولى هناك مهام النائب الأول لمسؤول الإعلام الموحد حتى العودة إلى أرض الوطن عام 1994، إذ عين مديراً عاماً لوكالة الأنباء الفلسطينية "وفـا"، ليصبح بعدها وحتى تقاعده، رئيسا لوكالة الأنباء الفلسطينية "وفا". ومن ثم تولى مهمة رئيس مجلس إدارة صحيفة الحدث الفلسطيني في عام 2013، حتى وفاته في عام 2022. نُشرت هذه المقابلة في العدد الخاص من مجلة "فلسطين الثورة" الذي صدر في 29 كانون الأول/ ديسمبر 1974.

(نحن ننتظر القمر)

صورة جميلة في غاية الشفافية المشوبة بالدقة الكبيرة في التطابق بين المشبه والمشبه به في جميع أوجه الشبه.

نحن ننتظر القمر.. ترنيمة وصفية في منتهى الجمالية المضمخة بكل صيغ وتعابير إيحاءات الرومانس، والعذوبة والرقة، ففيها تستشف أشياء كثيرة وكثيرة، الانتظار والأرق الناجم عنه، الاستعداد للترقب والجلد، التهيؤ للقاء الحبيب، القدرة على الانتظار الطويل من أجل استقبال الفرح الآتي، وثمة أشياء أخرى كثيرة.

(فالقمر) ما عنى في يوم من الأيام أكثر من الجمال والنور، من صيغ وصفية للحبيب، وتشبيهه بالجمال كالقمر، والأمل أيضا يوصف بجمال القمر. و(القمر) لفظ كان استعماله طيلة الوقت السابق حكرا على الشعراء والمتعاملين بصناعة الفن، وعلى الهائمين في الحب في لحظات معينة من عمر حبهم، لكنه اليوم دخل أبوابا أخرى، وتقاسمه آخرون مع الشعراء والمحبين وصانعي الأدب والفن، فالقمر دخل منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية لغة علم الثورة، وأصبح أحد مفرداتها.

(نحن ننتظر القمر)، هذا هو نص الرسالة الحاسمة التي خرجت من القدس، إلى القيادة العامة لقوات العاصفة، التي كانت تنتظرها بين لحظة وأخرى وعلى أحر من الجمر، ومعنى الرسالة (أن الأمور تسير بشكل جيد، وأننا ننتظر فجر 1-1-1965) فالقمر المنتظر هو الحبيب الذي يتلهف للقائه كل فرد ممن أمضوا كل هذا الوقت، وبذلوا ما بذلوه من أجل وصوله واستقباله وعناقه في (الدقيقة البكر من الساعة البكر من اليوم البكر من عام 1965)، القمر المنتظر هو أغلى الأحبة، إنه بداية التفجير الثوري، بداية الانطلاقة الثورية الفلسطينية المسلحة.

بداية نسف وتدمير المنشآت الصهيونية التي قامت على حساب محاولة هدم كل الصيغ الكيانية الإنسانية والحضارية لشعبنا الفلسطيني.

وبعد أن أنجز عضوا القيادة العامة لقوات العاصفة، حركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح – اللذين أوفدا للإشراف على تنفيذ الانطلاقة... كل الترتيبات المكلفين بها، وأبلغا القيادة من خلال... (نحن ننتظر القمر)... قاما بوضع اللمسات الأخيرة لعملية بدء التفجير الثوري الفلسطيني، حيث تقرر أن يشارك في الانطلاقة الأولى اثنان وثمانون مقاتلا فلسطينيا من الطلائع الأوائل الذين أخذوا على عاتقهم صياغة التاريخ النضالي الفلسطيني وفق المنظور القائم اليوم.

لقد قسم الرجال الأبطال إلى عشر مجموعات وزعت على النحو الآتي:

1.           مجموعتان إلى منطقة دير نحاس.

2.           مجموعتان إلى المنطقة الشمالية في فلسطين.

3.           مجموعة إلى بيت جبرين ودورا.

4.           مجموعتان إلى منطقة طولكرم.

5.           مجموعة إلى منطقة القدس (عرتوف).

6.           مجموعتان إلى المنطقة الجنوبية من فلسطين.

وكانت جميع الأسلحة المتوفرة لديهم لا تتعدى في تنوعها السينوبال، ستين إنجليزي، بندقية 303 إنجليزية، بندقية ألمانية، ألغام ومتفجرات صناعة يدوية استعمل في صنعها ملح البارود وعبوات مادة ت. ن. ت. وكان جميع الرجال يرتدون ملابسهم المدنية، وقد وفروا احتياجاتهم من الطعام من بيوتهم، وقلة منهم كانوا يحملون مطرات الماء.

العملية الأولى

وللقاء (القمر المنتظر) فقد صدرت الأوامر بالتحرك قبل فجر الأول من كانون الثاني 1965 بيومين، وذلك لكي تتمكن المجموعات من القيام بعمليات الاستطلاع الأخيرة لأهدافها.

على سفح الجبل الأجرد الواقع إلى الجهة الشرقية من مستنبت العروب، وعلى كتف منحنى الطريق الممتدة بين الانبساط السهلي بين الجبلين يقع (مخيم العروب) في عناق واحتضان مع امتداد الوادي الذي يرتدي حلة خضراء يانعة من أشجار الصنوبر. وقد كان مخيم العروب تحت إجراءات أمن السلطة الهاشمية المشددة دائما، والتي تتغير بشكل فوري يوميا لمواجهة احتمالات الاصطدام بين ممثلي (!) السلطة وبين الجماهير الشعبية في العروب، ولكن رغم كل تلك الإجراءات، فقد كان مع حلول ظلام ليل 30- كانون أول – 1964 وفي الوقت الذي آوى فيه سكان المخيم إلى أكواخهم وخيامهم، كان أربعة رجال في رفقة مع الظلام الحالك الكشح بنسمات البرد القاسية المسماة في بلادنا (برد العروب). كانوا أربعة يتسللون سيرا مع أزقة المخيم وهم يتهامسون (نحن لا نكره الأرض التي أقيم عليها هذا المخيم، فهي أرضنا، أرض فلسطين، لكننا نكره الحالة التي نعيشها فيه.

ومعناها سياسيا، وخطورة هذا المعنى على كل أرض فلسطين والوطن العربي قاطبة، نكره الحالة التي نعيشها في المخيم، وخطورة ما تعنيه إنسانيا، إنها تستهدف إنهاء الإنسان الفلسطيني. ونكره، ونحذر من خطورة هذا المعنى على مستقبل الشعب الفلسطيني، والأمة العربية كلها، ومن هنا كان واجبنا أن نغادر هذه الأرض الفلسطينية إلى الأرض الفلسطينية الأخرى من أجل أن نضع مقدمات العودة إليها بشكل نهائي أخيرا.

1-1-65 (نحن ننتظر القمر) رسالة خرجت من القدس

وفلاح فلسطيني رائع من (إذنا) تلقى الرسالة.. وكانت الثورة

ساروا مع أزقة المخيم حتى خرجوا إلى الطريق العام، وقبل الدخول إلى غابة الصنوبر، ألقوا نظرة وداع مشوبة بالفرح لا الحزن على المخيم، وثرثروا داعين للسكان النائمين بالسعادة والفرح. توغلوا في الغابة الخضراء التي أضفت إلى ظلام الليل الحالك حلكة أخرى، خرجوا منها لتستقبلهم أودية قرية (بيت امر) التي تحتضن برفق أواخر مقاثي البندورة والزهرة في مثل هذا التاريخ، وساروا برفقتها بعض الوقت، حتى مروا بالقرية نفسها، ثم ودعوها إلى الطريق الموصل للهدف.

أبو إبراهيم؛ أحمد إبراهيم الشمالي، الفلاح الفلسطيني البسيط، الرائع، كان واحدا من أولئك الأربعة الأبطال.

أبو إبراهيم، فلاح فلسطيني ينتمي بعمق انتماء فلسطين إلى الوطن العربي ينتمي إلى الأمة العربية، فهو (حارثي) من بلدة (إذنا) قضاء الخليل، ولد فيها (جد عن جد) ولم يسمع (أن أحدا من أهل إذنا – مثل باقي الفلسطينيين – قد فارقها بلا عودة منذ أيام الحوارث).

(أحمد إبراهيم الشمالي) كما يسمى عند أهل بلدته أو (أبو إبراهيم ) كما يعرف به ويسمى عند رفاقه في قوات الثورة الفلسطينية في الوقت الذي يبلغ فيه عمر الثورة عشر سنوات يكون قد أزف على الوصول إلى الخمسين عاما، هو من أوائل الذين حققوا مجيء (القمر).

في إحدى قواعد الثورة الفلسطينية، في مكان ما، وقبل أن تتوقف فرامل السيارة، أشار الأخ (....) آمر القوة العسكرية التي تتبع لها القاعدة والذي كان يرافقني إلى هناك إلى الجهة اليمنى قائلا: أنظر! أنظر إن العم (أبو إبراهيم) قادم! إنك جدا لمحظوظ، لقد كنت على الرغم من مجيئي معك أتوقع أنه ربما يكون في إجازة، وتوقفت فرامل السيارة على مقربة من القاعدة في مكان غير مرئي، وتقدمنا نحو الشباب، سلمنا بأحر ما يكون فيه السلام، رحبوا بمجيئنا كثيرا، ودخلنا في أحاديث متعددة.

وبعد (الشاي الفلسطيني) أشرت إلى الأخ (......) ليعلن عن طبيعة المجيء. ابتسم قليلا، ثم تنحنح وقال:

 يا أبو إبراهيم: أخوك سامي يريد منك حديثا (لفلسطين الثورة) في الذكرى العاشرة لانطلاقة الثورة.

فأجاب على الفور:

                        (يا خوي إنت بتعرف، أنا لا بقرأ ولا بكتب، إبراهيم بسلامته بيقرأ لي (فلسطين الثورة) وأهم ما في الصحف عندما أكون في البيت، والشباب بسلامتهم بيقرأوها لي في القاعدة أو في أي موقع عسكري آخر، ورجال في مثل هالحالة ما بيقدر يعطي لا حديث ولا غيره، وحتى لو بدو يعطي، إيش بدو يقول، وقديش بدو يفيد حديثه).

تدخلت على الفور مبادرا بسرعة، وفي الوقت الذي كنت أحضر فيه أوراقي وقلت:

        يا أخ أبو إبراهيم نحن جئنا من هناك، إلى هنا، فقط منشان نأخذ منك حديث، منك تحديدا في ذكرى مرور عشر سنوات على أول عملية اشتركت أنت فيها، كيف تمت العملية؟؟

حسر أبو إبراهيم الحطة قليلا وتربع في جلسته، وقال بهدوء:

ما أجمل الأيام، والذكريات، على الأخص عندما تكون في الوطن وبين الأهل. لا تؤاخذني (أنا بحكي وأنت بتزبط الحكي علشان أنا رجل أمي).

أول عملية اشتركت فيها هي عملية (ماتور الماء) في (أم القطن) بالقرب من دير نخاس. لقد تم إعداد المواد المتفجرة محليا وفي مخيم العروب، وقد كان ملح البارود وكمية الـ ت.ن.ت، هي المواد الأساسية في العبوة المتفجرة. كانت العبوة على شكل (نصف جريكان) ممتلئ ويقدر وزنها بثمانية كيلوغرامات. ونظرا لأن التدريب كان أوليا؛ فقد كنا نشك بفعالية العبوة وللتأكد من ذلك أخذنا عينة من المواد المتفجرة التي استعملناها في العبوة، وجربناها في (أحراج العروب) ولا تتصور كم كانت فرحتنا عندما دوى صوت انفجارها على الرغم مما كان يعنيه ذلك من خطر علينا من قبل السلطة الأردنية. تم نقل المواد المتفجرة (الجريكان العظيم) من العروب إلى بيت امر فسكة وادي القف، ثم إلى ترقوميا. وأخيرا إلى بلدة إذنا. وبعد وصول المواد المتفجرة بيومين، بلغنا أمر القيادة بواسطة الأخ (الشهيد وديع) بضرورة تنفيذ (عملية نسف موتور أم القطن) بعد يومين (أي في ليلة يوم 31-12).

وقبل المغيب وقد لبست الشمس ثوبها الأصفر الذهبي، قامت (أم إبراهيم) – زوجته – بنقل الجريكان على اعتبار أنها ذاهبة إلى العين لجلب الماء، وأوصلته إلى الحدود – نقطة الانطلاق –  سرنا أنا وعبد العزيز جبران، والمرحوم الشهيد وديع، وموسى محمود حوالي التاسعة من ليل 31-12-1964، وسلكنا طريق (بيت علام) ثم (وادي أبو الخيل) ثم (خلة النعجة) من أراضي (قرية دير نخاس)، ثم إلى (دير نخاس) نفسها، ثم إلى أم القطن (حيث ماتور الماء) هدف العملية التي يفصلها عن دير نخاس واد صغير.

وصلنا الهدف، كانت غرفة الموتور مغلقة، وخلة (أم القطن) تنام حالمة في وهدة الليل، والسكون مطبق تماما على الموقع، وكان الموتور محاطا بكمية كبيرة من براميل الوقود، وضعنا الجريكان في الموقع، وكان الموتور محاطا بكمية كبيرة وأوصلنا به فتيلا بطيئا طوله حوالي المتر، وأوصلناه بالصاعق، وأشعلنا الفتيل. أخذت أفئدتنا تخفق بشدة، ونحن (ننتظر القمر)، وكنا نوجس خيفة في أن لا تنفجر على الرغم من التجربة التي أجريناها.

(وارتفعت درجة حرارتنا على الرغم من البرودة الشديدة التي كانت تلفح أجسامنا فقد كان البرد شديدا، وكان كوب الشاي بالنسبة لنا يشكل شيئا عظيما، وكنا قد اضطررنا إلى تناول كمية إضافية من التمر الذي كانت توزعه وكالة الغوث لمقاومة البرد، كانت ساعات الانتظار تبدو قاتلة، مع أننا مارسنا الاستطلاع عدة مرات). كان اثنان منا ينتظران خارج مبنى الموتور للحراسة، واثنان توليا تثبيت العبوات الناسفة، ساعة التثبيت كانت مثبتة على الدقيقة البكر من الساعة البكر من عام 1965. ومضت ربع ساعة كانت من أدق اللحظات في تاريخ العمر، تدمرت البناية، اشتعلت النيران في المبنى والموتور والبراميل التي تحوي محروقات الموتور. (كان صوت الانفجار شديدا إلى حد أن أم إبراهيم – التي كانت تنتظر رجلها سمعته) وسمعه غيرها من الناس في بلدة إذنا (كما أخبرونا عندما عدنا).

 ومع سماع صوت الانفجار سجل تاريخنا الانطلاقة، في تلك الدقيقة كانت جماهير شعبنا الفلسطيني المنتشرة في كل أرض بتشردها وبانتظار يوم آخر جديد ولكنه في هذه الليلة كان يحمل مولد يوم جديد آخر.

ولدى سماع صوت الانفجار الذي هزنا طرنا في الهواء ولا ندري من الفرح أم من قوة الانفجار وغادرنا موقعنا في أرض الوطن لننتقل إلى موقع آخر (وفي طريق العودة شاهدنا سيارات العدو تتحرك من بيت جبرين إلى دير نخاس، وهي تطلق نيران غزيرة، في العروق والوديان وعلى رؤوس الجبال، وسيارات أخرى تتحرك مسرعة من (أم القطن) إلى حيث يقع الموتور).

استأنفنا رحلة العودة ونحن في أكثر ما يكون المرء إشراقا وفرحا، لم يكن من أهل القرية أحد يدري إلا أربعتنا ورجلان آخران و(أم إبراهيم)، وفي الصباح شاركنا أهل إذنا تساؤلهم عن الانفجار القوي الذي حدث في منتصف الليل، وقال وديع رحمه الله (يمكن بيتدربوا)!.

هكذا كانت العملية الأولى، وهكذا تمت الانطلاقة، وبنفس هذه الكيفية والوسائل والإمكانيات اشتعلت فتيلة الثورة التي هي الآن مستمرة، (رغم أنف كل الناس اللي بيريدوا واللي ما بيريدوا).

 يا أخ (أبو إبراهيم) ما دمت ممن أسهموا في خلق الانطلاقة، فمتى انضممت إلى حركة فتح؟ وكيف؟ ولماذا؟
أنا لا أقرأ ولا أكتب، ولهذا لا أعرف تاريخ انضمامي إلى الحركة بالضبط، أما لماذا فالعمل الوطني لا يسأل عن أسباب الانضمام إليه (صحيح أنا غير متعلم لكني أعرف أنك لا تقدر على أن تسأل الإنسان ليش هو وطني أو ليش صار وطني) المهم أنني انتسبت بشرف إلى حركة فتح في وقت مبكر جدا.

 واستطرد: كان بعض الأخوة وعلى الأخص الأخ (...) يعرف بهذا القدر أو ذاك أنني إنسان وطني، أحب وطني وشعبي، فقدم لي بشكل مبطن نبذة عن وجود تنظيم، عرفت فيما بعد أنه "فتح"، وقبلت بالفكرة ومنذ ذلك اليوم أصبحت عضوا في حركة فتح.

  وهل من عمليات أخرى شاركت فيها في شهر الانطلاقة؟؟
نعم، في نفس الشهر، قمت (أنا وعبد العزيز) بعملية نسف جسر الدوايمة – قبيبة بني عواد، بواسطة فتيل وصاعق ولغم، وكان لهذه العملية ميزة خاصة، فقد حدثت فيها مفاجأة غريبة، إذ تبين لنا ونحن نجهز للعملية أن الفتيل كان مكسورا، وقفنا مندهشين، ماذا يمكننا أن نعمل؟، وعلى الأخص ونحن نعرف أن المسؤولية التاريخية تحتم قيامها، نفذنا العملية على الرغم من كل هذه المحدودية جدا في المعدات (لما لقينا الفتيل مكسور، طلعنا على الجبل، وجمعنا حطب، ورجعنا عالجسر، وولعنا النار، بعد ما حطيناها حول اللغم والفتيل والصاعق، وانسحبنا إلى إحراج (أبو جاعد) اللي بيبعد 2 كيلومتر عن الجسر، وانتظرنا أكثر من 40 دقيقة، حتى انفجر اللغم، ودمر الجسر). كان صوت الانفجار عاصفا في هدأة الليل، وتحركت على الأثر سيارات الصهاينة من (الدوايمة) إلى (الجسر)، وألقت أضواء كاشفة على المنطقة، وأخذت تطلق النيران في كافة الاتجاهات وبدون هدف. إن هاتين العمليتين هما من العمليات التي (ليس لأنني شاركت فيهما) تعتبرا إلى جانب العمليات الأخرى التي نفذت وفق نفس المخطط المتمثل في إعلان الانطلاقة تشكل نقاطا مضيئة على طريق صياغة مسيرة الثورة الفلسطينية. في بداية عملنا الثوري كنا نشعر براحة نفسية كبيرة بعد تنفيذ كل عملية، وقبل تنفيذ العملية كان ينتابنا بعض التردد حول فعالية السلاح الذي بأيدينا (خصوصا مع عدو مثل إسرائيل) لكننا عندما كنا نرى نتيجة أعمالنا وعلى الأخص ونحن نعرف أن سلاحنا البسيط (اللغم، الشمايزر والكارلو، و...) يؤثر كل ذلك التأثير، بدأت تترسخ عندنا قناعات أننا سنؤثر في العدو.
أخ أحمد، وأنت تقلب سجل الذكريات الذي أصبح ملكا للتاريخ الثوري لشعبنا، ماذا يمكنك أن تضيف أيضا؟؟
صحيح أن الحديث ذو شجون، والذكريات ما أكثرها، وما أكثرها والحديث عنها يطول ويطول، أذكر أنه في الشهر البكر من عمر الثورة جاءنا مع المرحوم (الشهيد وديع) أمر خطي بالتحرك لضرب (هدف حيوي)، في الأرض المحتلة. على إثر ذلك قمنا برصد واستطلاع الهدف لأكثر من مرة، وعرفنا أن هناك سيارة (نصف كمر عسكرية) تتحرك مساء كل يوم على الطريق لتوزيع الكمائن بين (بيت جبرين) و(دير نخاس)، قررت (أنا وموسى وعبد العزيز) نصب كمين لها شرق (بيت جبرين) قرب (المغيطية)، ولسوء الحظ فقد تأخرت عن الموعد المعتاد، فأشار علينا الأخ موسى بالتوجه والإكمان في بلدة (دير نخاس) الليلة الثانية لأنه اعتقد أن السيارة قد سبقتنا قبل الإكمان إليها. وعندما هممنا لمغادرة الكمين ووقفنا، فاجأتنا الدورية. ( كنا واقفين في وسط الخط، ومع ذلك تشاورنا، لم يكن هناك من مسافة بيننا وبينها)، (ملنا قليلا، وكمنا في عَذَقَه نُصها أو ثلثها في نص الطريق) ووصلت السيارة إلى (جنبنا) ماذا نعمل؟ على الفور مد عليها الأخ موسى ليطلق النار، إلا أنني منعته، لأن الضوء كان في وجوهنا، فأشرت عليه بأن ينتظر حتى تصبح على برانا، ولما زَلَفَتنا بمتر واحد كان الأخ موسى في نص الطريق يطلق النار.. فأطلقنا أنا وعبد العزيز أيضا، وكانت هناك كوربة فمالت السيارة وتدهورت فأكملنا إطلاق النار ثم قذفناها بقنبلة ملز، وهكذا نجونا من موت محقق، لا بل وقتلنا الأعداء أيضا).
 وماذا بعد؟؟

وقبل أن يجيب على سؤالي ألقيت نظرة على من حولي، كان الجميع جالسين يصغون بانتباه شديد، وكأنهم لم يسمعوا مثل هذا الحديث من قبل، مع أنني عرفت فيما بعد أنهم سمعوا حتى الجزيئات منه، اعتدل أبو إبراهيم وخلع حطته بعد أن تربع ثم قال:

جاءني بعد ذلك أمر خطي من القيادة يقضي بتحركي فورا من إذنا إلى العروب لكي أقيم هناك بشكل دائم، حتى تبعد عني الشبهة في البلدة. وعلي أن أتدبر شؤون سبب تواجدي في العروب، فعملت في مطعم صغير للتغطية على عملي الوطني والثوري وكان هناك رجل من مخابرات الملك يمر من باب المطعم الذي أعمل فيه يوميا، ويتريث (كل ما مر من قدام المحل) فاكتشفت أمره وأبلغت الإخوان، وتقرر أخيرا أن أنتقل إلى (بيت ريما) في منطقة (رام الله)، واشتغلت في (جد الزيتون)، وعملت تنظيميا مع شخص من أهل (بيت ريما)، وكتبت مكتوبا إلى الأخ (أبو ...) لأن التنظيم كان سريا، وأخبرته بعنواني الجديد، وبعدها بثلاثة أيام وفي أثناء قيامي بعملي (يا خوي وأنا بَجد في الزيتون وحالتي حالة وإلا الأخ (أبو ...) بقول الله يعطيك العافية، فانتبهت، وطار صوابي بعدما عرفته، فقلت خيرا، فقال انمسكوا الجماعة، والآن الكل في السجن، وأنت يبحثون عنك، وعمموا عليك كل المنطقة الشمالية)، تضايقت كثيرا واتجهت إلى قرية (عين عريك) عند صديق من القرية، وفي ثاني يوم اتجهت إلى رام الله ثم إلى القدس، وكفار عصيون، حيث نزلت فيها، ودخلت المنطقة الحرجية المحيطة بالعروب، واتصلت بواسطة أحد الأخوة يسكن في طرف المخيم، وسألته لكي يبعث لي أحد أفراد العائلة لأستطلع الأمر منه. انتظرت (وإذا بزوجتي طالعة الجبل إلى عندي، وتحدثت معها حول التنظيم، وعن موسى وعبد العزيز، فقالت انمسكوا كلهم، وعن الآخرين قالت ألقي القبض عليهم).

وقبل أن يكمل الحديث سألته:

 وهل اعتقلوك أخيرا؟
اعتقلوني في أواخر 1965 وأرسلوني إلى العمارة – سجن الخليل – وهناك طلبوا مني تسليم السلاح، فأنكرت وسألوني عما إذا كنت منظما في فتح وعندي أسلحة فأنكرت أيضا، فنقلوني إلى عمان (مغمغما)، وكان معي في السيارة اثنان عرفت فيما بعد أنهما من الحركة. أنزلوني أمام المخابرات في العبدلي، فتعرفت على الأخوة (أبو رمزي وجابر) وبدأوا في تعذيبنا، ثم أدخلوني إلى الضابط، فبادرني بقوله (يا بني لا تنجر وراهم، هذول عملاء، بدهم يجروك للهاوية. قول إلنا كل اللي عندك وإحنا بنعطيك فلوس وبنرجعك إلى بيتك هذه الليلة). ماذا تتصوروني أجبته، لقد قلت له إن الوطن والشعب أكبر من أن يباع، وأكبر منى أن يقدر بثمن، (أنا فلاح وحالي على قد الحال وما بعرف أي شيء)، ثم انهال علي بالضرب. وضعونا في زنازين انفرادية، وفي أثناء وجودي في الزنزانة لم أكن أسمع ألا الصراخ. ( إيه يا أخي شُشفنا الأمرين على أيدي مخابرات الملك).

 استدعيت بعد يومين إلى التحقيق، كانت الغرفة مليئة بضباط النظام، كان من بينهم العملاء أحمد عبيدات، رجاء الدجاني وآخرون سألني العميل عبيدات بلؤم وحقارة:

هل أنت من فتح ؟؟
أجبته: لا

ثم عاود السؤال نفسه ثانية، وأجبته بنفس جوابي الأول، فانهال علي بالضرب، وشاركه في ذلك العميل (رجائي الدجاني) والعميل (قاسم فراية)، (وما صحيت على حالي إلا في ساعة متأخرة من الليل إلا وأنا في الزنزانة).

بقيت على هذا الحال تسعة وعشرين يوما (آكل نفس العلقة كل يوم) ولم أعترف بأي  شيء  على الرغم من مجابهتهم لي ببعض المعلومات.

وانهارت حالتي الصحية، فخف الضرب عني واستبدل بالشتيمة والبهدلة يوميا. وفي أحد الأيام استدعاني العميل الجاسوس (رجائي الدجاني) وسألني عن أملاكي وعقاراتي، وأولادي وأقاربي ثم سألني عن العميل (أحمد) الذي كان قد جند للعمل ضد حركة فتح، فأنكرت أي معرفة به، فصفعني، ثم سبني بأقذع الكلمات، وطلب عسكري (وقال له خذ هالحيوان اللي ما بيعرف مصلحة نفسه). 

أرجعت إلى الزنزانة، وبعد أقل من ساعة استدعيت ثانية، فحاول العملاء ملاطفتي بافتعال، وأدخلوا العميل (أحمد) لعندي وسألوني عما إذا كنت أعرفه أم لا، فأنكرت (وأقسمت يمين شرع الله ثلاثا أنني لا أعرفه). نقلوني بعد ذلك إلى سجن الزرقاء، وأدخلوني غرفة وجدت فيها كل من عرفتهم من حركة فتح ما عدا القلة القليلة جدا، وبعد أن أمضيت شهرا في سجن الزرقاء نقلونا بسيارات زنزانة إلى سجن الجفر، ومكثنا هناك إلى جانب القوى الوطنية والتقدمية الفلسطينية والأردنية حتى ثاني أيام حرب حزيران 1967، وعدنا أثناء حرب حزيران إلى الوطن الأم على أمل المساهمة في الدفاع عنه، لكننا وصلناه في الوقت الذي سلم فيه للكيان الصهيوني، عدت بعدها إلى القرية، وتنقلت إلى كل الأماكن التي كان يتواجد فيها الإخوان، ثم حزمت أمري للاتصال بالمسؤولين في قيادة حركتنا ووضعت نفسي تحت تصرف الثورة منذ ذلك اليوم وحتى الآن.

 أخ أبو إبراهيم.. بعد هذه الرحلة الطويلة من النضال والمطاردة والسجن من قبل العملاء والعمل الثوري الذي واكب الرصاصة الأولى وحتى الآن، ما هو شعورك الآن كمقاتل من أوائل المقاتلين في الثورة، وأنت ترى م.ت.ف وهي تحقق كل هذه الانتصارات، وعلى مختلف الأعداء، وفي مختلف المحافل والمجالات؟؟
لست أدري كيف يسأل المنتصر نفسه عن انتصاره، شعوري هو نفسه شعورك الذي هو نفس شعور كل فلسطيني يحب وطنه وشعبه، وهو نفس شعور كل إنسان في الوطن العربي وفي العالم، يناضل من أجل قضية النضال والتحرر. ( يا خوي بصراحة شعوري، فرحان.. منتصر.. مين كان بيصدق من (الجريكان) لثورة كبيرة وسلاح كثير ومشكل... ومن ثورة إلى دخول الأمم المتحدة، ومن دخول الأمم المتحدة إلى الاعتراف الكامل من كل العالم بحقنا في إقامة دولة لشعبنا، وبقول الحمد لله اللي ثورتنا كبرت وتعاظمت، واليوم تظهر في هيئة الأمم المتحدة، وصار إلها الكثير من الأصدقاء، ودم الشهداء ما ضاع سدى، وأبو الشهيد صار يفتخر بإبنه الشهيد، وهالوقت تأكد أكثر فأكثر إنو شهيدنا بيستشهد منشان قضية ومنشان شعب، والصهيونية وإسرائيل انهزمت أمام ثورتنا وشعبنا وجماهيرنا الصديقة في العالم كله، واللي بدا (بالجريكان) والاستعمار والملك محوطينه وحارمينه حمل السلاح، وتحدى كل الصعاب والعقبات، وناضل حتى وصل لهذه النتائج وحقق جزء من النصر؛ إيش اللي بدو يمنعوا عند دخوله فلسطين، إيش بدو يمنعه من أنه يحرر الجزء الآخر، فالدرب اللي سرنا عليه ووصلنا للضفة وغزة والقدس، رايحين نسير عليه، ورايح يوصلنا إلى تحرير كل فلسطين، أكتب هالحكي بلكي الناس اللي مش مستعدة تفهم.. تفهم.

ودّعت الأخ أبو إبراهيم والشباب وكلي دهشة من صمود هذا المناضل، واستعداده للاستمرار في العمل الثوري، ودعته وكلي إعجاب بهذا المستوى من الوعي الذي يمتلكه، من كان في مثل سنه، وله مثل هذه التجربة النضالية الرائعة. ودّعته ولسان حالي يردد معه: الثورة التي حققت كل هذه الانتصارات لا يمكن إلا وأن تستمر حتى التحرير والنصر.