شهداء بالعشرات في عدوان صهيوني في وضح النهار على المخيم ومقاومته. ماذا تريد إسرائيل وماذا تريد المقاومة؟ وماذا تريد السلطة الفلسطينية وماذا تريد سلطة غزة، وماذا تريد المنظمات الأهلية وماذا يريد "اليسار"؟ أسئلة أساسية لرسم خريطة السياسية الفلسطينية في زمن الانكشاف التام لوجه المشروع الصهيوني بفضل بن غفير وسموترش والمايسترو القدير بنيامين نتانياهو.
بداية يجب أن نقول بدون تمويه أن المقاومة في الضفة تقبض على الجمر بالمعنى الحرفي للكلمة، وأنها تواجه وحيدة مشروع التصفية النهائية لما تبقى من فلسطين. وفي هذا السياق تنضم دويلة غزة لأسباب سياسية واقتصادية واضحة إلى منظومة الشجب والفرجة العربية. تثبت دويلة غزة نظرية الواقعية السياسية الأمريكية التي تنص على أن أي كيان يشبه الدولة يتصرف في ضوء مصالح الحفاظ على تلك الدولة بأي ثمن. لذلك يبدو وكأن استقرار "دولة" غزة بدأ يكتسب أهمية فعلية لدى القيادة هناك إلى درجة تجنب التورط في أية معارك قد تؤثر سلبياً على نمو الدولة ورفاهها واستقرارها. وإذا صح ما قلناه عن دويلة غزة، فلا بد أنه ينطبق بشكل أوضح وأدق على دويلة رام الله التي تعلن منذ ثلاثين عاماً عن مشروع لا يكل ولا يمل لبناء الدولة الفلسطينية على هذا الجزء من الأرض الذي سمحت به اتفاقية أوسلو. بالطبع يتماهي في هذا الفهم "المشروع الوطني" الفلسطيني مع إنشاء هذه الدولة بأي شكل من الأشكال. هل نستدعي توماس هوبز ليخبر دولتي غزة ورام الله أن المهمة الأولى للدولة هي الدفاع عن حدودها وسيادتها وأمن مواطنيها في وجه الاعتداءات الخارجية؟ إذا فعلنا ذلك، فإننا نجازف بتقويض وجود الدولة، لأن الرجل سيزعم أن ترك جنين تواجه مصيرها، مع العلم أنها جزء من دولة الضفة، يعني أن هذه الدولة تفتقر إلى جوهر الدولة الأساس.
من ناحية أخرى ننهمك في فلسطين أكثر مما يجب في مناقشة التعليم، والصحة، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وحقوق الإنسان، والجندر،والمجتمع المدني، والحوكمة. ربما ننهمك في ذلك أكثر من اهتمامنا بمناقشة السياسة ذاتها.
توحي تلك المناقشات بأننا نعيش أوضاعاً طبيعية، وأن إنجاز المهام المتصلة بتلك الأشياء ممكن فعلاً.
حتى أنا، ناجح شاهين، على وجه التحديد أدخل هذه "اللعبة" كثيرا، وأوحي لمن يقرأ كتابتي أن التفكير العلمي وتطوير المشفى والجامعة والمصنع هي أمور على أجندة التاريخ هنا والآن في فلسطين.
بالطبع هذا ليس صحيحاً. ما هو على أجندة التاريخ فعلياً هو الاحتفاظ بما تبقى من فلسطين مقدمة لتحرير البقية الباقية، أو فقدان الأمتار القليلة المتبقية والتشرد النهائي في المنافي.
في هذا السياق لا يمكن أن تسمح لنا قوة الاحتلال ببناء أي شيء.
ألم يتم تدمير العراق الذي كان مستقلا بدرجة كبيرة لأنه حاول البناء؟ فكيف يمكن لعاقل أن يتوهم أن دولة الاحتلال الصهيوني الذكية، بكل ما لديها من خبرات سابقة، يمكن أن تسمح للشعب الذي تحتله بأن ينمو على أي نحو يرسخ بقاءه في وطنه؟
على الرغم من ذلك تبذل القوة المحتلة جهدها لكي تعيش نخبنا السياسية والمالية والثقافية في بحبوحة تهدئ من إيقاع الصراع ريثما ينتهي وجودنا في هذه البلاد.
ولا مانع لدى الاحتلال من أن يكون جزء كبير أو يسير من أبناء النخب مؤمنا حقا بالنمو والبناء في قطاعات التعليم والصحة والاقتصاد وكل ما يتصل بالحياة الطبيعية، فذلك مهم وحاسم في إشغال النخبة ومن يهتدي بهديها ويستنير بنورها عن الصراع "الحقيقي" والجوهري الوحيد، ونعني به دحر الاحتلال واستعادة الوطن.
بالطبع يظل الكلام كله سابحا في الهلام والمشاريع كلها أوهاماً فوق أوهام ما دام تراب الوطن ذاته في قبضة العدو.وهذا الذي قلناه أخيراً لا يغيب عن فطنة فصائل اليسار من قبيل الجبهة الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب والمبادرة وما لف لها. لكنها لا تمتلك على الأرجح أية قوة فعلية باستثناء الكلام ذاته الذي يتكرر منذ تدشين أوسلو.
تحتم اللوحة المبتسرة المرسومة أعلاه أن يشرع الجميع في تقييم المخاطر الفعلية التي يمثلها مشروع المقاومة المسلحة في الضفة على مشروع الدولة وتنميتها في غزة والضفة. ولا بد أن الكثير من المترددين سيكتشفون أن دول الضفة وغزة لا تمتلك من مقومات الدول شيئاً، كما أنهم سيكتشفون بجهد أكثر قليلاً أن التنمية وهم لا يجوز التغني به تحت حراب الاحتلال. وإذا توصل "الفرقاء" إلى هذه النتيجة فقد يدركون قبل فوات الأوان أن الحفاظ على جذوة المقاومة متقدة في جنين ونابلس والضفة كلها هو الأمل الوحيد للضغط على الاحتلال بغرض ردعه عن المضي في مشروعه الماضي قدماً لتصفية الوجود الفلسطيني نهائياً، لكن ذلك يتطلب تضحيات جسيمة تتصل بالنفوذ والقوة والمال والمنافع والامتيازات التي تتمتع بها النخب الاقتصادية والسياسية والثقافية وقادة المؤسسات والمنظمات الأهلية في الضفة وغزة على السواء.