كل ما يجري في الحالة الفلسطينية يُغري الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة على المضي في مشروعها التاريخي لتصفية الحقوق الوطنية ومعها القضية الفلسطينية. إلا أن مخططات التصفية تلك طالما اصطدمت بارادة الفلسطينيين على البقاء، و بمدى عنصرية واستعلائية المشروع الصهيوني ذاته، حيث لم تُبقي تلك العنصرية من خيارٍ أمام الشعب الفلسطيني غير رفضه ومقاومته للاحتلال والمشروع الصهيوني .
هذه المقاومة طالما شهدت مداً وجزراً وهبوطاً وصعوداً، وقد توقفت على أمرين أساسيين فرضتهما طبيعة المشروع الصهيوني الإحلالي الكولونيالي، وهما صلابة الارادة الشعبية ومدى القدرة على صون الوحدة الوطنية للجماعة الوطنية الفلسطينية في كافة تجمعاتها، باعتبارها الركيزة الاساسية لمدى اتساع المشاركة الشعبية في النضال الوطني . حيث أن غياب أو تغييب تلك الوحدة،التي طالما تم التعبير عنها بأشكال مختلفة، لم يجلب سوى انكماش تلك المقاومة سيما طابعها الشعبي العريض وما كان يوفره ذلك من سمات ديمقراطية ساهمت دوماً في النهوض الوطني الشامل.
منذ أن تحولت منظمة التحرير الفلسطينية من مشروع عربي إلى ائتلاف وطني عريض، تمكنت من انجاز الوحدة الوطنية، وأعادت تدريجياً بناء الهوية الوطنية الجامعة، التي حاولت اسرائيل منذ النكبة طمسها و تذويبها بمساندة حلفائها على الصعيدين الاقليمي والدولي . وقد شكل الكفاح المسلح منذ معركة الكرامة حتى صمود بيروت المحرك الرئيسي لتلك الوحدة والالتفاف الشعبي حول المنظمة التي تمكنت من تكريس شرعيتها لتمثيل الفلسطينيين، وباتت المؤسسة الجامعة لأوسع ائتلاف وطني وللشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، وكانت قادرة على استيعاب التعددية السياسية والفكرية.
النهوض الوطني خاصة داخل الأرض المحتلة بدأ يتبلور تدريجياً منذ أن تسلحت المنظمة ببرنامجها الوطني المرحلي، وقد تزامن ذلك مع تأسيس الجبهة الوطنية ومعركة انتخاب البلديات، ثم تأسيس لجان التوجيه الوطني التي ضمت رؤساء البلديات المنتخبة وممثلين عن كافة أطياف الحركة الوطنية لمواجهة سعي السادات للتسوية المنفردة بعد زيارته إلى الكنيست الاسرائيلي. إلا أن هذا النهوض بلغ ذروته إبان الانتفاضة الأولى، والتي نقلت مفهوم الجبهة الوطنية إلى جبهة شعبية عريضة تضم شبكة من اللجان الشعبية والأطر الكفاحية والوظيفية على كافة الأصعدة وفي مختلف المدن والبلدات والقرى والمخيمات. وهذا ما جعلها تمثل الحالة الأكثر تميزاً ونجاحاً في مسار وتاريخ الحركة الوطنية .
لو دققنا اليوم في واقع الحركة الوطنية، نجدها أبعد ما تكون عن أية طبيعة ائتلافية، كما أنها تعاني من العزلة الشعبية، ويعود ذلك بشكل أساسي إلى فشل برنامج التسوية عبر مسار أوسلو، وإلى اختزال المنظمة إلى مجرد هيئات بيروقراطية لا تعكس الارادة الشعبية وهموم الفئات الاجتماعية العريضة . فقد باتت المنظمات الشعبية والمهنية ،التي كانت تشكل القواعد الاساسية لمنظمة التحرير، معزولة تماماً عن قطاعاتها الاجتماعية، ويقتصر وجودها على مجرد تمثيل بيروقراطي في هيئات المنظمة لاستخدامه في الانفراد بالقرار بالقرار الوطني العام . ناهيك عما تعاني منه السلطة المنقسمة على ذاتها من مظاهر الأنظمة الشمولية، وحكم الحزب الواحد وما يولده من أمراض تعاني منها دول العالم الثالث المستقلة، فكيف الحال وشعبنا يرزح تحت سطوة سياسات الاحتلال من ناحية، وبيروقراطية وفساد وهيمنة وتفرد السلطة الحاكمة المنقسمة والمتنافسة فيما بينها على استرضاء الاحتلال للاستحواذ بالوكالة الأمنية التي تمكنها من الهيمنة على الموارد وعلى بقايا شرعية التمثيل التي باتت محكومة لسياسات الاحتلال، ومدى استعداده لمدها بشريان البقاء في موتها السريري لضمان استمرار الانقسام .
محاولات بلورة بديل وطني ديمقراطي
رغم هذا الواقع المأساوي الذي تمر به الحركة الوطنية من مخاض، فقد شهدت السنوات العجاف الماضية مبادرات هامة وحراكات جدية جوهرها البحث عن مخارج ملموسة، ليس فقط لمواجهة الاحتلال، بل، ومحاولة البحث عن رؤى جامعة واجتهادات عملية لاعادة بناء الحركة الوطنية إلا ان هذه المحاولات ظلت، بالاضافة لعدوى الشرذمة وغياب الرؤية الجامعة، غير قادرة على الخروج من شرنقة الانقسام واستقطاباته . صحيح أن العامل الاسرائيلي هو الأكثر تأثيراً في ادامة هذا الانقسام ، وأن مسألة التغلب عليه واسقاطه تبدو مستعصيةً، إلا أنه من الصحيح أيضاً أن مقاومة مخططات الاحتلال لا بد وأن تشمل مواجهة حالة الانقسام والانقساميين، والتوصل إلى حل لهذه المعضلة. قد يبدو للبعض وكأن هذا الأمر غير ممكن، رغم موقف الأغلبية الساحقة على أن استمرار الانقسام هو مصلحة اسرائيلية بحتة ولا يوجد أي سبب وطني لاستمراره .
نحو جبهة وطنية عريضة
لقد بات واضحاً أن مهمة اعادة بناء الحركة الوطنية ومشروعها الوطني التحرري، تتطلب بلورة رؤية بديلة، وفي نفس الوقت جامعة، تربط بين مواجهة الاحتلال و رفض واسقاط الانقسام، وفي نفس الوقت تربط بين مهمات التحرر الوطني والبناء الديمقراطي الاجتماعي الذي يتلخص في بناء مؤسسات كفؤة ومحترمة وقادرة على تلبية احتياجات المواطنين وتعزيز قدرتهم على الصمود . هذه الرؤية باختصار تستدعي بلورة اجابات عملية كفيلة باستقطاب الفئات الشعبية العريضة والمتضررة من سياسات الاحتلال، ومن حالة الانقسام وما تولده من كوارث وطنية واقتصادية واجتماعية .
مقاربة الحالة الراهنة مع التجارب الائتلافية السابقة للحركة الوطنية، تُظهِّر أمامنا سؤالاً جوهرياً، وهو : طالما أن الفئات المتضررة من الاحتلال تتسع بفعل شراسته غير المسبوقة ومسابقته الزمن لحسم الصراع على حساب الحقوق والمصالح الوطنية لشعبنا، فما الذي يمنع المبادرة الفورية للتقدم نحو بناء جبهة وطنية عريضة تضم المؤسسات والشخصيات واللجان الشعبية والحراكات الوطنية والاجتماعية والمدنية والنقابات المهنية ومجالس الطلبة والأندية والمبادرات والملتقيات والمنظمات الشبابية والنسوية المستعدة للمشاركة في هذا الجهد على أساس القاسم المشترك العريض الذي يستجيب للأهداف الوطنية والحقوق المدنية ومتطلبات العدالة الاجتماعية لشعبنا ومصالح هذا الطيف العريض من المتضررين من الواقع المأساوي الراهن؟ إن الاجابة على هذا السؤال تستدعي المسارعة لالتئام حوار وطني واجتماعي واسع النطاق من هذه الفئات، وبما يفضي إلى التوافق على تأسيس نواة جبهة وطنية مفتوحة لكل من هو مستعد للانضواء تحت لواء أهدافها، وجوهر وظيفتها الرئيسية اعادة بناء الحركة الوطنية ومؤسساتها الجامعة، وبنيتها الجماهيرية التحتية، ومشروعها الكفاحي على أسس وطنية ديمقراطية، وبما يُمكن من اعادة بناء الهوية الجامعة وصون الحقوق والمصالح الوطنية لمختلف تجمعات الشعب الفلسطيني، وتصويب بوصلة النضال الوطني برمته نحو الأولوية العليا التي توحد الشعب الفلسطيني وفي مقدمتها انهاء الاحتلال وهزيمة مخططاته وانجاز حقوق شعبنا بالعودة وتقرير المصير. قد يبدو هذا الكلام طوباوياً أو حتى حالماً، ولكن هل أمامنا ونحن نرفض الاستسلام من طريق آخر ؟!