كان لافتاً، أن ترى فأساً مؤطرةً في برواز خشبي، وتتدلى منها بطاقة كتِب عليها التالي: "السيد محمد هاجر عبد الله.. وجدها في زواريب شاتيلا ملطخة بالدماء.. سبتمبر 1982/ استعملت في مجازر صبرا وشاتيلا". تلك الفأسُ، والتي يُحافظُ عليها الدكتور محمد الخطيب، في متحفه الذي أسسه بمجهودٍ ذاتي في واحد من أزقة مخيم شاتيلا في بيروت، تُقدم عملياً قراءةً مختلفةً لعلاقةِ الضحيةِ بأداةِ قتلِه، بكيفية اشتغالِ ذاكرتهِ بين ما يُرى ويُروى، بحيث تفقدُ محاججةُ خذلان الذاكرة لنا مصداقيتها عندما تواجه يومياً بأداةِ القتل التي تستفزها.
لا يبدو الخطيب، الذي يعلو الغبار مقتنياته التي يعود تاريخ معظمها إلى ما قبل النكبة وإلى فترات أبعد منها، وكأنه يُريدُ إعادة بناء الماضي، فكما هو واضح في زوايا متحفه الصغير، هنالك شيء من الحميمية التي تتجاوز الفكرة الممجوجة بفقداننا لصلتنا بالماضي لنختزلها بحمى التجميع المتحفية. يُصبح المتحفُ غير ذي صلةٍ في العلاقة ما بين الخطيب وما بين حديثه عن الماضي والدليل عليه، فيستفزنا للتوقف طويلاً أمام فكرةِ المتحف، والحاجةِ إلى المتاحف فلسطينياً. ما بين سؤال أولوية التصاق الذاكرة براهنية الآن وهنا، وبأن حضور الماضي في حياتنا لم يتوقف ففقدنا صلتنا به، أو أننا بدأنا بالتعامل معه كفلكلور احتفائي يجسد مشهدية ثقافية متعبة ومتشرذمة.
الفرق بين متحف الخطيب وأي متحف آخر دخل في طور المأسسة، هو في فكرة التخلي عن المتحفية، بحيث تظل قيمة العلاقة الإنسانية بين المُجمَّع من مقتنيات وما بين مُجمِّعها علاقة إنسانية تكوينية، تُكَوِّن هذه المقتنيات أجزاء من شخصيتهِ مثلما يُحافظُ هو عليها وينفخُ فيها الحياة من حياته ويومياته وذكرياته، فيبني لها حياتها إلى جانب حياته. هنا تكون العلاقة متبادلة، غير مصطنعة، قريبة من التصاق الشخص بكل قطعةٍ من قطعه. يستطيع أن يسرد الخطيب قصة كل قطعة منها، بحيث تتحول كل قطعه إلى كائن حي، تستطيعُ أن تشعرَ به، وترى مسارات حركته حتى وقع بين يدي الخطيب، فوضعها بطريقةٍ عفوية في إحدى زوايا متحفه الصغير، ليستطيع مناولتك إياها من مكانها مغمض العينين، ولا يخشى أن تتكسر، ولا أن تهترئ، ولا يأبه إن كان هناك من يرممها، أو إن فقدت للأبد، فكما قال، هنالك العديد من القطع الثمينة التي سرِقت من متحفه غير المتكلف أمنياً، إذ يغلقه بقفلٍ صغير ويصعد إلى بيته في نفس المبنى المتداعي في المخيم. بالنسبة للخطيب ما يسرق لا يتمم شيئا في حياة السارق، بل يتمم فعل سرقة كبرى: سرقة فلسطين. فتستمر حكاية السرقة والسلب، فلا تخلق حالة قطعٍ مع ماضيك الحاضر اليوم.
يُرتب الخطيب المتحف مثلما يُرتب البيت، يدخن ويحتسي القهوة، ويستقبلُ أصدقاءه في المساء يلعبون الشطرنج أو الدومينو. عشوائية المتحف، الفوضى المترامية من بعثرة المقتنيات، المكتبةُ الصغيرة، التلفاز الذي يبث أخبار إحدى القنوات الفضائية، أجواء تحول المتحف إلى لا متحف. يُصبِحُ المتحف بيتاً. بيتاً ينقصه أن تقوم ربَّة المنزلِ بترتيبه قليلاً، فتنفض الغبارَ هنا، وترفع كوب الشاي عن الطاولة القديمة هناك، وتخفض صوت التلفاز، ليجلس الجميعُ متحلقين حول الدكتور الخطيب وهو يروي حكاياته وحكاية فلسطين التي تدخل مع الروائح المختلطة من أزقة المخيم إلى داخل البيت- المتحف، رائحة الخبز، ورائحة الفول والذرة المسلوقين في طاسٍ كبير من الماء المغلي على عربة أحد أبناء المخيم، وقليلٌ من الكالمنتينا التي أكلنا شيئاً منها بعد أن اشتريناها من بائع متجول لم يتجاوز الثالثة عشرة يبيعها أول مدخل المخيم. المخيم في المتحف أم المتحف في المخيم، لا يعود هناك من فارقٍ لتداخل المكان مع ناسه مع حياتهم مع ماضيهم الذي هو حاضرهم.
تختفي المتحفية المتكلفة والممأسسة من حياة شاهد على زمن النكبة المستمر، ليختلفَ معنى السلب والفقد، وتحديداً فكرة سلب "الفردوس المفقود" التي تدخلُ طوراً من التخلخل لتصبح أكثر واقعية عندما يطل من متحفه على أزقة المخيم، فتختلفُ القيمة الاستعماليةُ لمقتنياته التي تخرجُ عن العرف السائد في تعريفها والذي يرى فيها قيمة وظيفةً لإرث الحداثة. يخلق الخطيب قيمة استعمالية روحية، حيزاً في مجالٍ روحي يحيى، فلا تعود مقتنياته سلعةً للعرض، أو للنوستالجيا الفارغة من المعنى، بل تعيد تحفيز الشعور بالألم والمرارة المستمرين الذين لا ينطفئان ولا ينضبان طالما ما زالت فأس المجزرة معلقةً أمام عينيه.
وبعيداً عن ضوضاء السياسيين، والجهات المانحة، والداعمين، والمؤسسات غير الحكومية، يعمل الدكتور الخطيب وحده؛ فيختلفُ شكل المتحف عنده عن شكل المتاحف التي نزورها في فلسطين. المتحف في المنفى صيغةُ بقاء وحضور، في فلسطين صيغةُ نفي وتغييب.
يتحسر الدكتور الخطيب على شيء واحد فقط، وهو: أن الذي جلب له الفأس من أزقة مذبحة شاتيلا، كان قد نظفه وأزال الدماء عنه. عند سؤاله لماذا كان يريدُ آثار الدم على الفأس، أجاب: لأننا كنا سنعرفُ من الذي قتلته هذه الفأس، كنا سنعرِفُ القتيلَ، الذي هو أهم من معرفَةِ القاتل! سؤالٌ يحاولُ متحف الخطيب الإجابة عليه.