الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

يحيى رباح| بقلم: نبيل عمرو

2023-02-08 09:56:57 AM
يحيى رباح| بقلم: نبيل عمرو
نبيل عمرو

 

كل يوم.. وإذا ما تباطأ الزمن.. فكل أسبوع – يفارقنا واحد من الأوائل الذين كتبوا لفلسطين بحبر أقلامهم الحار. وليمتزج الحبر بالدم في نسيج عبقري.. سجله التاريخ في كل مكان.. قاتلت فيه بندقية الثورة العادلة.

القلم.. والميكرفون.. والكاميرا.. أضلاع المثلث الإعلامي الذي واكب المسيرة الملحمية منذ خطواتها الأولى، أبطاله.. لم يكونوا من ساكني الغرف المغلقة، ولا من الجالسين على المقاعد الوثيرة وخلف المكاتب ذات السطح المخملي.. فلو كانوا هكذا..لما أنتج أبو الصادق ومهدي سردانة.. طل سلاحي، ولما نقل الميكرفون ما كتبه يحيى رباح من قاعدته العسكرية في الجبل والجنوب، وأداه رسمي أبو علي.. بصوته المتفرد الذي لا شبيه له، ولما اختلط لحم ودم وعظم هاني جوهرية مع شظايا كاميرته التي حطمتها قذيفة أو عدة قذائف انهمرت من الأرض والبحر والجو.. ولكي لا يفوت اللقطة الحية.. سقط شهيداً..

كانت الفرقة المعنوية فرقة الإعلام التي تؤدي عملها تحت خطر الموت المباشر.. وكان قادتها وجنودها.. لا يملكون أقل المساحات للاختباء والنجاة.. كانت المهمة الملقاة على عاتقهم تُحتِم نقل الصوت والصورة من قلب الانفجار، لم يكن أبطال الكتيبة المعنوية، مجرد ناقلين لما يحدث، بل هم

كتاب تاريخ نابض لملحمة كبرى تؤديها ثورة شعب وطليعة أمة.

  • يحيى رباح -

كان واحداً من قادة هذه الكتيبة،  شجرة وارفة الظلال، يانعة الخضرة، غزيرة الثمر.. جذورها في عمق غزة وفروعها في كل مكان من أصقاع الأرض طلب إليه أن يعمل فيه .

كان في الإذاعة كاتباً مبدعا، وفي القوات مفوضاً سياسياً، يبيتُ مع المقاتلين في خيمة غمرها الثلج.. وفي الدبلوماسية سفيراً لدى من كان يسميه الرئيس الراحل ياسر عرفات الشطر الثالث. ذلك حين كان اليمن شطرين شمالاً وجنوباً، وثالثه فلسطين.

لم يخلو تاريخه منذ اليوم الأول حتى اليوم الأخير من حضور قوي وفعال حيثما وجد، وحين عادت الشجرة المهاجرة إلى جذرها الأصلي اختارته حركته قائداً لساحتها في غزة وحين تعذرت عليه المواصلة، بفعل مأساة الانقسام تموضع في الضفة، فملأ قلمه بالحبر وظل يكتب كل يوم.. وكأنه كان يكتب بنبض قلبه فتوقف القلم وتوقفت الكلمات وجف الحبر مع توقف القلب.

ذكرياتي الشخصية معه بدأت منذ أن قدم لي أول نصيحة في أول يوم دخلت فيه عالم الإذاعة، ذلك حين كنت متدربا في صوت العاصفة.

كان المؤسسون الأوائل فؤاد ياسين قائد الفرقة، وخالد مسمار المذيع الأول

والطيب عبد الرحيم وبركات زلوم وعبد الشكور التوتنجي وعارف سليم وأرجو المعذرة ممن لم تسعفني الذاكرة بذكرهم.

كانوا جميعاً باستثناء قائدهم فؤاد طلبة في الجامعات المصرية وبعد تدريبهم المتعجل، صاروا صناع الخبر الأول والتعليق الأول والنشيد الأول. لم يعمل أي منهم في أي إذاعة من قبل، لذا كان أداؤهم جديداً، يحمل ذات الإيقاع الذي يحمله الفدائي، ومثلما لم يكن يعلن عن اسم الفدائي إلا بعد استشهاده لم يكن يعلن عن اسم الإذاعي إلا بعد وفاته حفظاً للجميل ووفاءً للعطاء

التوأم الذي بهر كل من كان يصلهم إرسال إذاعة العاصفة يحيى رباح ورسمي أبو علي، خلدهم إلى جانب عطائهم الذي لم ينقطع، ذلك البرنامج الذي كان ينتظره عشاق فلسطين، لم تكن مدته لتزيد عن عشر دقائق، إلا أنه كان يجهد المعتقلين وهم يستمعون إليه عبر الراديوهات المهربة ويفرغونه كل يوم وينسخون كلماته على ما تيسر لهم من ورق لتتبادله السجون، وحين زارنا أحدهم في الإذاعة طلب لقاء رسمي ويحيى، وقال لهم.. أبلغ جملة في وصف برنامجهم حيث قال.. كان غذاءً فكرياً وروحياً لنا وداعماً نفسياً قوياً لتحملنا وصبرنا وأملنا.

في يوم شتائيِ انهمر فيه مطرٌ غزيرٌ بعد انحباسٍ طويلٍ،  أسلم يحيى روحه ولا تصدق عليه كلمة مات.. فمن كتب ملايين الكلمات من فلسطين إلى فلسطين، ومشى ملايين الخطوات من ساحة خطرة إلى ساحة أخطر، وعمل بلا توقف من اليوم الأول حتى اليوم الأخير لا يموت.. بل يظل حياً.