الخميس  21 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

مجزرة جنين.. الثمن الذي دفعه نتنياهو والسياسات المتوقعة

2023-02-09 05:43:16 AM
مجزرة جنين.. الثمن الذي دفعه نتنياهو والسياسات المتوقعة
من تشييع شهداء مجزرة جنين

 خاص الحدث

لم يكد يمضي يوم واحد على المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال في مخيم جنين وراح ضحيتها تسعة فلسطينيين بينهم سيدة مسنة، حتى وكان الرد حاضرا في القدس المحتلة بعملية هي الأكبر منذ سنوات، نفذها الشاب المقدسي خيري علقم 21 عاما من سكان الطور وقتل فيها 8 مستوطنين في مستوطنة النبي يعقوب التي تعتبر من أشد المستوطنات تأييدا للصهيونية الدينية التي يتزعم تيارها الفكري إيتمار بن غبير وبتسليل سموتريتش.

مخيم جنين يشكل محورا مهما في الاهتمام الأمني الإسرائيلي في السنة ونصف الأخيرة، ليس فقط بسبب زيادة عدد المقاومين فيه، والذين ينتمي غالبيتهم لكتيبة جنين التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، وإنما لقدرة حالة المقاومة فيه من تطوير عملها في اتجاهين مهمين: الأول؛ الانتقال من الدفاع إلى الهجوم عبر تنفيذ عمليات ضد حواجز ومواقع ومستوطنات الاحتلال وتوسيع جغرافيا الاستهداف لتضم مناطق بين جنين ونابلس وجنين وطولكرم. الثاني، العمل على استخدام أدوات مقاومة جديدة كالعبوات الناسفة وإنشاء معامل للمتفجرات وهذا بحد ذاته مقلق بالنسبة للإسرائيليين على المدى القريب.

هذه المتغيرات في جنين، بالإضافة لإمداد كتيبة جنين لمناطق أخرى بالسلاح والشباب وخاصة في نابلس وطوباس وريف جنين، فتحت باب المناقشات الإسرائيلية على مصراعيه بهدف الخروج باستراتيجية عمل قادرة على إنهاء حالة المقاومة في مخيم جنين بدون أثمان كبيرة. ولعل المفارقة أن معركة جنين في 2002 كانت بالنسبة للإسرائيليين النقطة الفارقة في تلك الانتفاضة، سواء من ناحية الخسائر أو حتى الإنجازات وبكل تأكيد الذاكرة. فهناك كانت المعركة الأخيرة والأهم في الضفة، لكن المعركة في جنين اليوم هي الأهم لكنها الأولى.

في سياق كل ذلك، بدأت الخشية تتسلل للمستويات العسكرية والسياسية في إسرائيل من توسع بقعة الزيت في الضفة الغربية انطلاقا من جنين، وكان الاستنتاج المرحلي بأن الأسلوب الأنجع في محاربة المقاومة هناك هو تنفيذ عمليات خاطفة بهدف إحباط عمليات مهمة في مرحلة التنفيذ وكذلك إشعار المقاومين بعدم الأمان حتى وإن كانوا في منطقة محصنة نسبيا، وكذلك تحجيم الحالة وتقليل أثرها وامتدادها وتصفية الكادر البشري المهم القادر على تطويرها والنهوض بها.

في بداية العام 2022، بدأت إسرائيل بتطبيق سياسة الضغط المركز في مخيم جنين، وأصبحت عمليات الاغتيال شبه أسبوعية إن لم تكن يومية، وقد حاز عدد من شهداء تلك الفترة على اهتمام عال كما في حالة الشهيد عبد الله الحصري. لكن الأمور لم تكن بالسهولة التي توقعتها إسرائيل، فقد ضربت موجة عمليات لاحقة مدن الداخل الفلسطيني المحتل. عملية تل أبيب على سبيل المثال نفذها رعد خازم من مخيم جنين، أما عملية إلعاد فقد نفذها شابان تفيد رسائلهما التي نقلها محاميهما من السجن أنهما نفذا العملية ردا على اغتيال الحصري.

تنبهت المنظومة الأمنية الإسرائيلية في تلك الفترة (3،4،5 من العام 2022) إلى حقيقة مفادها أن عمليات الاغتيال المكثفة والمتقاربة زمنيا، قد تؤدي إلى نتائج عسكية وتنقل المعركة للعمق. بناء على ذلك، أشارت التقارير الإسرائيلية إلى أن جيش الاحتلال قرر تقليل نطاق نشاطه في مخيم جنين مع مراعاة الحالات التي تستوجب التدخل السريع وفق توصيفه وتقييمه. ظلت الأمور كذلك، إلى أن جاءت الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي يتزعمها بنيامين نتنياهو ويشاركه فيها إيتمار بن غبير وبتسلئيل سموتريتش.

المحددات التي كانت المناقشات الإسرائيلية تجري وفقها حول إمكانية تنفيذ عدوان واسع على مخيم جنين، ضمت عدة محاذير: إمكانية اندلاع مواجهة شاملة في الضفة الغربية على نقاط التماس وكذلك تنفيذ عمليات إطلاق نار في محيط المدن الفلسطينية كافة. عودة العمليات في الداخل الفلسطيني المحتل والقدس. إدانات واسعة قد تعرقل مشروع التطبيع مع السعودية. دخول غزة على خط المواجهة وإمكانية توسع المواجهة لتشمل ساحات أخرى. وقف السلطة الفلسطينية لكل أشكال التنسيق الأمني.

هذه المحددات أو المحاذير كانت تقابلها بعض الاستنتاجات المطمئنة بالنسبة للإسرائيليين: المقاومة في قطاع غزة لم تتحرك حتى في ظل انتهاكات شديدة ونوعية في المسجد الأقصى وبالتالي فإن التقدير أنها لن تتحرك خاصة بعد معركة شهر أغسطس 2022. حالة المقاومة المسلحة في الضفة الغربية لم تشهد نقلات نوعية في المدن الأخرى -باستثناء نابلس- وبالتالي فإن إمكانية انخراطها في مواجهة مسلحة إذا تم تنفيذ عدوان واسع في جنين تبدو ضئيلة. السلطة الفلسطينية في حالة ضعف شديد ولم تلجأ لخطوة وقف التنسيق الأمني رغم العقوبات التي فرضت عليها والانتهاكات المستمرة في الضفة والقدس والمطالبات الشعبية والفصائلية بذلك. أما عمليات الداخل المحتل فإنها لا تبدو كخطر فوري بعد عام تقريبا من حملة واسعة ضد النشطاء والأشخاص المرشحين لتنفيذ عمليات.

الاستنتاجات السابقة دفعت الإسرائيليين للمغامرة بعملية واسعة في قلب مخيم جنين، إلى جانب أهدافها العملياتية المعلنة بالقضاء على خلية عسكرية تابعة للجهاد الإسلامي، كان هناك توجه لاختبار مستويات وحجم التحرك الفلسطيني والعربي وحتى الدولي في حال تنفيذ عدوان واسع على مخيم جنين. خلفت المجزرة 9 شهداء وعشرات الإصابات ومشاهد قاسية. جثث متفحمة وأجساد دعستها الآليات العسكرية ومسنة اختار قناص أن ينهي حياتها لمجرد أنها نظرت من نافذة منزلها لترصد ما يحدث في المحيط.

انتهت العملية في مخيم جنين، وبدأت إسرائيل بانتظار تداعياتها. كانت الأنظار تتجه بشكل أساسي نحو قطاع غزة، وانتشرت تقارير تشير إلى نية حركة الجهاد الإسلامي إطلاق الصواريخ نحو مستوطنات غلاف غزة، ورضى حركة حماس ومباركتها للخطوة لكن دون المشاركة فيها. بالنسبة للجهاد الإسلامي فإن مسألة التحرك من أجل مجموعاتها بالضفة تعتبر مسألة غاية في الحساسية، أما حماس فهي الأخرى مستفيدة من حالة الاشتباك بالضفة وتهتم بتطويره وتحاول الموازنة بين الحفاظ على حالة الهدوء في غزة لكن دون إخراجها من دائرة الصراع لأسباب وطنية استراتيجية عامة وكذلك خاصة بها كحركة تحاول الحفاظ على رصيد جماهيري.

ولم يكد يمر يوم على مجزرة مخيم جنين، حتى وكانت الجهاد الإسلامي قد نفذت عملية إطلاق صواريخ باتجاه عسقلان، وبالتالي فإن الرسالة كانت لإسرائيل بأن الرد ما بين رمزيّ وجديّ، فقد استهدف الرد مدينة عسقلان وليس مستوطنات غلاف غزة، لكنه في نفس السياق لم يستهدف مدن المركز والتي يعد استهدافها إشارة إلى بداية تصعيد كبير. وعلى غير العادة، أعلنت الجهاد مسؤوليتها عن القصف بينما اعتبرت حماس أن هذا بمثابة حق ورد طبيعي وقامت كتائب القسام بالتصدي للطائرات الإسرائيلية.

في ضوء تدخل غزة المعلن والمباشر، وصلت الإشارة التحذيرية الأولى لإسرائيل بأن التقديرات التي على أساسها نُفذ الاقتحام الواسع في مخيم جنين وما رافقه من مجزرة، لم تكن دقيقة، ويبدو أن التقارير الإسرائيلية اللاحقة التي أخذت طابع التسريبات وكان مفادها وجود قرار لدى جيش الاحتلال بتقليص العمليات في جنين إلى الحد الأدنى، كانت جزءا من استخلاص العبر من فشل التقديرات ومحاولة لتقليل رد الفعل على كل المستويات.

الضربة الأخرى التي تلقتها إسرائيل كانت من السلطة الفلسطينية التي أعلن المتحدث باسم الرئاسة فيها نبيل أبو ردينة عن وقف كل أشكال التنسيق الأمني كرد على المجزرة التي وقعت في جنين. حاولت إسرائيل التقليل من شأن الخطوة ومن سقفها الزمني رغم أنها كانت قبل أشهر فقط تصرح بأن التنسيق الأمني مهم جدا بالنسبة للإسرائيليين. بعض التقارير الإسرائيلية حاولت الإشارة إلى أن هذه الخطوة ستنتهي قريبا، وستعود السلطة للتنسيق الأمني. لكن يبدو أن الإسرائيليين وصلوا لقناعة أن القرار في هذه المرحلة على الأقل جدي، لذلك وفق بعض التقارير طلبوا من الأمريكيين والأوربيين التدخل، لكن الرئيس محمود عباس رفض الاستجابة لهذه الضغوط.

إذن، كان قرار السلطة نسفا لتقدير إسرائيلي آخر، وهذا ما عمّق أزمة الخيارات عند كل المستويات الإسرائيلية التي أصبحت ترى في كل المشهد وحتى الحلول أزمة. فهي إن لم تنفذ عدوانا واسعا في جنين فإن المقاومة ستتمدد وتطور من أدواتها، وإن نفذت فإن هناك ثمنا سوف تجنيه، وإن عادت لسياستها بالاغتيالات المركزة والمتباعدة زمنيا فقد ثبت لها أنها لم تكن ناجحة ولم تستطع القضاء على حالة المقاومة في شمال الضفة الغربية.

ورغم كل هذه الثغرات في التقديرات إلا أن الأمور لدى الإسرائيليين ظلت في نطاق المعقول، لكن ما لم يتمناه ولا يتخيله من اتخذ قرار اقتحام مخيم جنين، قد حدث. عملية في القدس المحتلة تؤدي لمقتل 8 مستوطنين وهي العملية الأبرز التي تقع في السنوات الأخيرة. وفق التقارير الإسرائيلية هتف المنفذ خيري علقم بـ"الله أكبر" وهتافات لجنين ومخيمها ثم بدأ بإطلاق النار على المستوطنين المتواجدين في المكان وتحديدا في مستوطنة أو حي "النبي يعقوب". وبهذه العملية حضر الكابوس الذي ظل الاحتلال يهرب منه منذ عام تقريبا.

كانت عملية القدس إيذانا لموجة من العمليات، فقد تلتها عملية إطلاق نار في سلوان بفارق ساعات وأدت إلى إصابة اثنين من المستوطنين، ومن ثم عملية في أريحا. لم يكن التقييم الإسرائيلي لعملية القدس أقل من حجمها، فقد وصفها القادة الإسرائيليون بالصعبة والتحول الخطير والمهم، وبأنها الاختبار الأول والأخطر والأهم بالنسبة لحكومة نتنياهو. لكن مستويات هذا الاختبار أصعب من سابقاته وذلك لأسباب عدة.

منفذ العملية في القدس هو مقدسي من الطور، سبقت استشهاده عمليات استهداف واسعة أيضا للشبان المقدسيين في الأحياء المقدسية وهو ما بدا وكأنه تغيير في السياسة حتى على مستوى إطلاق النار. يدرك الإسرائيليون أن المعركة مع المقدسيين هي أخطر المعارك التي يمكن أن تقع. يعاني المقدسي يوميا من قهر الاحتلال وفي أي مواجهة فإن كل القهر الكامن فيه قد يتفجر بكل أدوات المقاومة.

هذا الفهم بخطورة وتعقيد المعركة في القدس، ليس فهما أيدولوجيا، وإنما فهما يتعامل الإسرائيليون على أساسه. محلل إسرائيلي مهم ومختص في الشؤون الفلسطينية يدعى أهود بن حمو قال إن توصيات بتسليل سموتريتش بمحاصرة أحياء شرق القدس هو دليل واضح على أنه لا يقرأ التاريخ جيدا، فآخر حصار تعرض له حي أو حيز جغرافي مقدسي (مخيم شعفاط) كان قبل عدة أشهر وانتهى بموجة من العمليات التي اضطرت الجيش لفك الحصار. يواصل بن حمو هجومه قائلا إن هذه الطريقة ستزيد من العمليات لا تقللها، وهذه الشعارات قد يكتبها سموتريتش على حسابه في تويتر فقط لكنها غير مجدية على أرض الواقع.

في ضوء هذه التعقيدات والخشية من استمرار موجة العمليات، يمكن التقدير أن الاستهداف الإسرائيلي في القدس سيطال عائلات منفذي العمليات على وجه التحديد مع الأخذ بعين الاعتبار أن توسيع دائرة العقاب يعني جني ثمن خطير وكبير. أما فيما يتعلق بالضفة الغربية فإن إسرائيل قد تعود لسياسة الاغتيالات المركزة والمتباعدة زمنيا دون اللجوء لعملية عدوانية واسعة. بينما في غزة، فقد فهمت إسرائيل أن ما قدمته من "تسهيلات" كما تصفها، لا يمكنها أن تنزع غزة من السياق الفلسطيني اليومي. ولذلك، فإن من المتوقع أن تتقلص حدة الانتهاكات في المسجد الأقصى أيضا.