خاص الحدث
لم تتوقف المظاهرات المعارضة للتعديلات القانونية أو الإصلاحات القضائية في إسرائيل حتى بعد موجة العمليات التي بدأت الجمعة الماضية، وكأن السبب الذي يدفع الإسرائيليين للتظاهر يوازي بحجمه التهديد الأمني الذي بدأت وتيرته تتزايد بعد المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال في مخيم جنين. ورغم المخاطر الأمنية المترتبة على خروج المتظاهرين في هذه الظروف إلا أنهم قرروا الخروج للشوارع، وهو ما يكشف عن حجم الأزمة الداخلية في إسرائيل بسبب هذه الإصلاحات.
محور الإصلاحات القضائية الإشكالية
تهدف خطة الإصلاحات القضائية التي يروج لها وزير القضاء في حكومة الاحتلال ياريف ليفين إلى الحد من سلطة المحكمة العليا في إبطال القوانين، وتمكين الكنيست من إعادة سن أي قانون أبطلته المحكمة العليا وذلك بأغلبية بسيطة، وأيضا منع محكمة العدل العليا من التدخل في القوانين الأساسية، فيما تبقى ضمن صلاحياتها مناقشة القوانين العادية فقط مع هيئة كاملة من 15 قاضياً، وإبطال قانون عادي يحتاج لأغلبية استثنائية لا تقل عن 11 قاضياً.
وفق التعديلات التي يسعى لها ليفين، سيتم تغيير تشكيل لجنة اختيار القضاة بما يقلل من سلطة ممثلي المحكمة العليا فيها ويزيد من سلطة السياسيين. تضم اللجنة اليوم تسعة أعضاء: ثلاثة قضاة من المحكمة العليا، وممثلين اثنين عن نقابة المحامين، ووزيرين وعضوين في الكنيست. مطلوب أغلبية سبعة أعضاء في اللجنة لتعيين قاض في المحكمة العليا، حتى يتمكن القضاة من الاعتراض على التعيينات. وفقًا لخطة ليفين، سيزداد عدد أعضاء اللجنة من تسعة إلى 11، وستشمل "التمثيل المتساوي لجميع السلطات": ثلاثة قضاة من المحكمة العليا، وثلاثة وزراء، وثلاثة أعضاء كنيست. سيتم استبدال ممثلي نقابة المحامين بممثلين عامين يختارهم وزير القضاء، مما يزيد من تأثير الوزير على هوية القضاة المعينين. كما أن زيادة عدد أعضاء اللجنة ستحرم القضاة من القدرة على عرقلة التعيينات.
من المهم الإشارة إلى أن هناك إجماعا في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي على معظم بنود خطة ليفين. على سبيل المثال، تسعى أحزاب الليكود والصهيونية الدينية و"قوة يهودية" إلى إعادة سن القوانين التي ألغتها محكمة العدل العليا للمساعدة في توسيع المستوطنات وترحيل طالبي اللجوء، بينما تدعم الأحزاب الحريدية الخطوة أيضًا بسبب رغبتها في إعادة سن قانون يعفي طلاب المدرسة الدينية من الخدمة في الجيش.
أثارت هذه التغييرات التي اقترحها ليفين انتقادات من كبار القانونيين في إسرائيل، بمن فيهم الرئيس السابق للمحكمة العليا، أهارون باراك. في مقابلات مع وسائل الإعلام، قال باراك إن خطة ليفين تشكل "خطرا واضحا وملموسا على الديمقراطية الإسرائيلية". وبحسب قوله، "إذا طبقت هذه المخططات، ستكون لدينا ديمقراطية رسمية، لا توازنات. في الواقع ستكون لدينا سلطة واحدة فقط، وهي ليست ديمقراطية، وسينتهك نظام الضوابط والتوازنات الذي يقوم عليه الفصل بين السلطات، وسيحرم المحكمة العليا من قدرتها على حماية حقوق المواطنين والناس في إسرائيل بشكل فعال".
المستشارون القانونيون.. صفر لا قيمة له
الخطر الذي تشكله تعديلات الحكومة الجديدة، لا يقتصر فقط على المحكمة العليا، وإنما يطال مستشاريها القانونيين، وهو السبب الذي دفع المستشار القانوني للكنيست الإسرائيلي إلى التحذير من عواقب تمرير مشروع قانون "المستشارين القانونيين" من قبل الائتلاف الحالي، قائلا إن النقطة الرئيسية في مشروع القانون هي أن "الحكومة ووزرائها هم الذين سيقررون بأنفسهم ما إذا كانت أفعالهم تلبي متطلبات القانون أم لا".
التعديلات على عمل المستشارين القانونيين وصلاحياتهم، تشير إلى أن "الوزير سيكون قادرًا على أن يقرر بنفسه ما إذا كان عمله قد تم في حالة تضارب في المصالح، بينما يتجاهل المستشار القانوني، والذي لن يكون ملزمًا على الإطلاق، وسيكون الوزير قادرًا على تحديد ما إذا كان تحويل الأموال إلى الجهات القريبة منه شخصيًا قد تم بطريقة قانونية أم لا؛ وسيكون الوزير قادرًا على تحديد ما إذا كان قد استوفى المتطلبات القانونية لإجراء إداري مناسب.
وينص مشروع قانون المستشارين القانونيين على أن الحكومة ورئيس الوزراء وكل وزير من الوزراء مخولون بتحديد وضعهم القانوني وهم غير ملزمين بالمشورة القانونية المقدمة لهم ويجوز لهم رفضها أو التصرف على نحو مخالف لها. ويأتي مشروع قانون "المستشارين القانونيين" في الوقت الذي يخشى كبار المسؤولين في النظام القانوني الإسرائيلي ونقابة المحامين الإسرائيلية ووزارة القضاء أن يتهرب وزير القضاء ياريف ليفين من مشورتهم.
القلق لدى المستشارين القانونيين أيضا يتعلق بصلاحيات وزير القضاء ليفين الذي سيصبح قادرا على تقديم المقترحات القانونية نيابة عن لجنة الدستور، المسؤولة عنها عضو الكنيست سمحا روثمان، بطريقة تسمح "بتجاوز" السلطات القانونية خلال مرحلة صياغة الاقتراح. المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية غالي بيهاريف ميارا قال إن "المستشارة القانونية للحكومة لم تشارك في عملية صياغة مشاريع القوانين قبل إعلانها في وسائل الإعلام".
الاقتصاد الإسرائيلي في خطر
لا تقتصر أزمة ما يسمى الإصلاح القضائي لحكومة بنيامين نتنياهو على الشأن القانوني فقط، بل تمتد إلى قطاعات أخرى من بينها الاقتصاد، فقد حذر مسؤول في شركة “S&P- Global Ratings-“ وهي أكبر شركة تصنيف ائتماني في العالم من أن التصنيف الائتماني لإسرائيل قد يتضرر إذا تمت بالفعل التعديلات الخاصة بالقضاء. وقال مكسيم ريبنيكوف إن تضرر التصنيف الائتماني سوف يكون بسبب عدم تمكن المستثمرين من معرفة ما إذا كانت الأموال التي يوجهونها إلى"إسرائيل" في مأمن أم لا، لأنه لن تكون هناك جهة من شأنها تقييد وتنظيم سلوك حكومة نتنياهو.
وريبنيكوف مسؤول كبير في شركة “S&P”، وأي قرار يتخذه هو أو الشركة التي يعمل بها، سيكون له تأثير كبير على الاقتصاد الإسرائيلي، وقد يؤدي قرار من شركة بهذا الحجم على الفور إلى نقل الأموال من مكان إلى آخر، وكذلك انخفاض أسعار الأسهم وكذلك زيادة مدفوعات الفائدة الحكومية على ديونها، ورحيل كبار رؤوس الأموال الأجانب من "إسرائيل". وفي حال غادر المستثمرون الأجانب من "إسرائيل"، فإن هذا يعني عددا أقل من الوظائف وتسريح العمال، وإذا ارتفعت الفائدة على السندات التي ترفعها حكومة نتنياهو بعد هذا التحذير، فهذا يعني أنه سيتم توجيه جزء أكبر من الميزانية لسداد الديون.
إلى ذلك، وقع أكثر من 270 عضو هيئة تدريس في مجالات الاقتصاد والإدارة من جامعات وكليات في "إسرائيل" وحول العالم على وثيقة توضح الضرر المتوقع للاقتصاد الإسرائيلي نتيجة تنفيذ التعديلات المخطط لها في النظام القانوني.
وجاء في الوثيقة التي نشرتها صحيفة يديعوت أحرونوت: "نحذر بشدة من المبادرات الحالية للائتلاف الحكومي، والتي تعني تغييرا جوهريا في النظام القانوني في إسرائيل وخطرا على مستقبل الاقتصاد الإسرائيلي".
ويأتي ذلك، عقب تحذير محافظ بنك إسرائيل، لرئيس حكومة الاحتلال نتنياهو، من الإضرار بالتصنيف الائتماني لإسرائيل بسبب التعديلات القانونية. وقال الموقعون في رسالتهم: "نحن المحاضرون في مجالات الاقتصاد والإدارة، نعرب عن قلقنا العميق إزاء تحركات الحكومة التي من المتوقع أن تضر باستقلال القضاء والخدمة العامة، والتي في تقديرنا ستلحق ضررا غير مسبوق بالإسرائيليين والاقتصاد".
ومن بين الموقعين مئات الاقتصاديين ومدراء الأعمال، وكبار المسؤولين السابقين في الاقتصاد الإسرائيلي، وكبار المسؤولين في بنك إسرائيل، والمستشارين الاقتصاديين لوزارة المالية سابقا، وكبار المسؤولين في وزارة المالية والمجلس الاقتصادي الوطني وكذلك كبار المحاضرين من الكليات الرائدة في العالم.
وتضم الوثيقة توقيع مسؤولين كبار عملوا أيضًا كمستشارين لنتنياهو في الماضي، وكذلك محافظين سابقين لبنك إسرائيل، والمدير العام السابق لوزارة المالية آفي بن بست. وجاء فيها أيضا أن "الاقتصاد الإسرائيلي يحظى بتقدير كبير من قبل مؤسسات وهيئات التصنيف الاقتصادي الدولية، وهذا التقييم تم بفضل جهود طويلة ومتواصلة من قبل الحكومات السابقة، ويعزى كذلك إلى استقلالية القضاء والخدمة العامة، وهذا التقييم ضروري لعمل وازدهار الاقتصاد الإسرائيلي، وهو اقتصاد صغير ومنفتح يحافظ على علاقة متبادلة مع أكبر الاقتصادات في العالم".
القطاع الخاص الإسرائيلي بدأ بالانخراط في موجة التظاهر
وتابع الموقعون في رسالتهم: "إن الضرر الذي يلحق بقدرة الحكومة والشركات في قطاع الأعمال على زيادة مصادر التمويل سيؤدي إلى انخفاض في نطاق الاستثمارات، وهذا سيضر أولاً وقبل كل شيء صناعة الهايتك الإسرائيلية، محرك الاقتصاد. ومن المتوقع أن يتفاقم هذا الضرر في ضوء الأزمة الناشئة في الصناعة، وإمكانية قيام شركات التكنولوجيا الفائقة بنقل مراكزها إلى الخارج وبالتالي هجرة العقول".
وختم الموقعون رسالتهم بالتأكيد على أنه "إلى جانب الآثار المباشرة لتحركات الحكومة، هناك قلق خطير من أن يؤدي إضعاف نظام العدالة إلى أضرار طويلة الأمد لمسار نمو الاقتصاد ونوعية حياة الإسرائيليين. هذا التقييم هو بناءً على الدراسات الأكثر موثوقية في البحوث الاقتصادية، بما في ذلك تلك التي أجراها دوجلاس نورث الحائز على جائزة نوبل، وأهم الاقتصاديين في العالم مثل أندري شلايفر ودارون أسيموغلو".
وتظهر الدراسات، وفق الموقعين، أن وجود الكثير من الصلاحيات بين أيدي المجموعة الحاكمة، دون ضوابط وتوازنات قوية، هو سبب رئيسي للتخلف الاقتصادي، وبدون قيود فعالة على سلطة المؤسسات الحكومية، يزداد التشريع الشخصي ويضعف الجهاز البيروقراطي ويصبح غير مهني.
ويبدو أن القطاع الخاص الإسرائيلي بدأ بالانخراط في موجة التظاهر، فقد أعلن موظفو ما يقرب من 430 شركة في إسرائيل انضمامهم للاحتجاجات على التعديلات القانونية التي تنوي حكومة نتنياهو إحداثها. ومن بين الشركات المشاركة في الاحتجاجات، كبريات شركات التكنولوجيا الفائقة إلى جانب الشركات الصغيرة، وبحسب وسائل إعلام إسرائيلية، ستكون هذه هي الخطوة الأولى من ثلاث خطوات ستتم خلال نهاية يناير في الاحتجاج على الحكومة. وأعلن منظمو احتجاج عمال التكنولوجيا الفائقة عن ثلاثة مواقع ستنظم فيها المظاهرات، وجميعها بالقرب من مكاتب شركاتهم، وتحديدا في شارع روتشيلد ومجمع شارونا في تل أبيب وفي هرتسليا.
دعوات حول العالم للتدخل
تشير التقارير الإسرائيلية إلى أن هناك دعوات في الولايات المتحدة وأوروبا للتدخل فيما يحدث بخصوص القضاء الإسرائيلي. لكن أبرز هذه الدعوات التي ظهرت على العلن هي للكاتب الشهير في "نيويورك تايمز" توماس فريدمان الذي دعا الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى التدخل في نية رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وحكومته لإصلاح النظام القضائي. وقال إن "إسرائيل والولايات المتحدة صديقتان. ولكن اليوم، هذه الصداقة من طرف واحد لأن اسرائيل تغير طبيعتها الأساسية".
وكتب فريدمان في مقال نشره أنه "ينبغي على الرئيس بايدن، بأكثر الطرق الممكنة أن يعلن بأن هذه التغييرات تنتهك مصالح أمريكا وقيمها وأننا لن نكون أغبياء ونجلس بهدوء". وفقًا لفريدمان، "إسرائيل على شفا تحول تاريخي، من ديمقراطية كاملة إلى شيء أقل، ومن قوة استقرار في المنطقة إلى قوة مزعزعة للاستقرار. قد تكون أنت، أيها الرئيس، الشخص الوحيد القادر على وقف خطوات رئيس الوزراء نتنياهو وائتلافه المتطرف من تحويل إسرائيل إلى معقل للتعصب الأعمى".
وأضاف: "أخشى أن إسرائيل تقترب من صراع أهلي داخلي خطير. فالصراعات الأهلية نادراً ما تدور حول سياسة واحدة. تميل إلى أن تكون حول القوة. لسنوات، كانت النقاشات الشرسة في إسرائيل حول اتفاقيات أوسلو تدور حول السياسة. ولكن اليوم، هذا الصراع المحتدم يدور حول القوة". وكتب أيضا أن "الإسرائيلي الذي كان جو بايدن يعرفه، يختفي، وإسرائيل جديدة آخذة في الظهور. العديد من الوزراء في هذه الحكومة معادون للقيم الأمريكية، وكلهم تقريبا معادون للحزب الديمقراطي".
وقال فريدمان "قد يتم عرض الأزمة الحالية في إسرائيل على بايدن على أنها مسألة دستورية داخلية يجب أن نبتعد عنها. على العكس من ذلك، يجب أن يقفز بايدن مباشرة لقلب الأزمة لأن النتيجة لها آثار مباشرة على الأمن والمصالح الوطنية من الولايات المتحدة". وتابع الكاتب الأمريكي المشهور: "ليست لدي أوهام بأن بايدن يمكنه عكس الاتجاهات الأكثر تطرفًا التي تظهر في إسرائيل اليوم، ولكن يمكنه دفع الأمور إلى مسار أكثر صحة، وربما منع الأسوأ، بقليل من الحب القاسي بطريقة لا يستطيع أي شخص خارجي آخر القيام بها".
ويعتقد فريدمان أن إصلاح النظام القضائي هو الأزمة الأكثر إلحاحًا التي يجب معالجتها لأن "المحكمة العليا، كانت إلى حد كبير تضمن حقوق الأقليات، بما في ذلك المثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية وحتى اليهود الإصلاحيين والمحافظين الذين يريدون نفس الحرية وحقوق الممارسة الدينية مثل الأرثوذكس واليهود المتشددين".