آخر زيارة قمت بها لتونس كانت في السنوات الأخيرة للرئيس السابق زين العابدين بن علي، وجمعتني به وجبة غداء في قصره الصغير بمدينة الحمامات السياحية.
كانت تونس قد تغيرت كثيرا عما كانت عليه فترة وجودنا هناك، فلقد تضاعف العمار وكثرت الجسور والمنشآت، وقد سعد بمقارنتي للوضع هناك بما كان ، وقال بزهو... إن تونس تكبر وتتطور.
لاحظت أثناء اللقاء الذي زاد عن ساعتين، أن الرئيس الذي أطاح بالزعيم التاريخي الحبيب بورقيبة، ونقل تمثاله الشهير من الشارع المركزي الذي يحمل اسمه في قلب العاصمة تونس، إلى مكان يبعد حوالي عشرين كيلو متراً هو ذات المكان الذي ضمنّه فريد الأطرش لأغنيته الشهيرة "بساط الريح"، وكما قيل أن تونس حارقة الأكباد، فقد احترقت أكباد التونسيين حزنا على القائد التاريخي الذي نُفي تمثاله إلى حلق الواد.
كان زين العابدين بن علي يتكلم بارتياح واطمئنان، لم يكن يظهر من بين الكلمات والنظرات والإشارات، ما ينم عن أن الرجل يساوره أي نوع من القلق على مصيره كرئيس مدى الحياة، كان السطح يزدهر بالنمو والتوسع العمراني، أما ما تحته فكان يمور بالحقد والغضب، بفعل طغيان السطوة البوليسية على حياة الناس، وكذلك بفعل منظومة الفساد التي تشكلت ونمت وتشعبت، حتى طالت بأذاها معظم جوانب الحياة العامة في تونس.
حين قمت بزيارة تونس قبل أيام، اختلست أوقاتا لزيارات دون مرافقين، كي أندمج في الحياة التونسية واكتشف الجديد فيها، وكم بقي من القديم الذي عشته كمواطن وضيف ولاجئ في ذلك البلد الذي وصفه محمود درويش بالبلد الوحيد الذي لم نخرج منه مطرودين.
في تونس العاصمة شارع مهم يلتقي مع شارع بورقيبة يحمل اسم الملك المغربي محمد الخامس، وأنا أقطع هذا الشارع الطويل، شاهدت مبنىً ضخماً في غاية الجمال، لم أكن شاهدته من قبل، سألت السائق ما هذا المبنى، وفاجأني جوابه حين قال متحسراً إنه من صنع "بن علي" منذ أن غادر البلاد توقف العمل فيه وها هو جامد كالضريح منذ أربع سنوات، وانطلق السائق في حديث رأيته غريباً، فهو يدين بن علي على الفساد الذي استشرى في عهده، ويتحسر على انجازاته، ولقد علمني هذا السائق درساً في النضج السياسي، الذي بلغه التونسيون بعد ثورتهم ونجاحهم في عبور الربيع العربي بأقل قدر من الخسائر، ما تعلمته هو أن ذاكرة الشعوب أصفى بكثير من ذاكرة السياسيين، ومحكمة الشعوب أكثر عدلاً من محاكم المتصارعين على الحكم، والخلاصة التي أفادني بها السائق التونسي، أن العمران والتقدم الاقتصادي وحتى الأمن والأمان، لا يمكن أن يبرروا أي قدر من الفساد والجمود، وكبت الحريات بالبوليس، ونوم الحاكم على حرير الإذعان الشعبي مهما بدا عميقاً وشاملاً.
إنهم يعلموننا الآن أن الحكم إما أن يكون جيداً من كل النواحي وإلا فمصيره الانهيار إن سقط في جانب أو جانبين من شروط الحكم الرشيد، وبعد فترة سماح منحها التونسيون لحكومات ما بعد بن علي، بدأ عداد المحاسبة الصارم بالعمل، وأصدر الشعب التونسي حكمه المانع الرادع على حكومة " الترويكا" التي لم تعجب أحداً، وها هو يراقب بتمعن الحكومة التي خرجت من صندوق الاقتراع، واضعاً قانوناً صارماً للحكم على نجاحها من عدمه، فإلى جانب بديهية تحقيق الأمن والأمان، فلا بد وأن يرى شعب تونس، استئنافاً أكثر قوة وشمولاً للتنمية من كل جوانبها، وحين تكون السلطة متداولة عبر صندوق الاقتراع، فلا رحمة للفشل ولا تقديساً للنجاح، وأخال تونس المتعطشة دوما للتقدم والتميز، ودّعت وإلى الأبد حكم الفرد البوليسي، وفتحت أبوابها لأسلوب حكم رشيد يليق بكثافة المتعلمين والمثقفين في ذلك البلد.
لقد عدت من تونس حاملاً حصيلة دروس وعبر، أتمنى أن أراها تتحقق في كل مكان من عالمنا العربي بما فيه نحن.