الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

قول في الصّورة/ بقلم: سليم بشير العابد

2023-02-14 08:30:06 AM
قول في الصّورة/ بقلم: سليم بشير العابد
سليم بشير العابد

 منذ بداية القرن الحادي والعشرين، دشّن العالم مرحلة جديدة في مستحدثات وسائل التواصل الاجتماعي مثل الفايسبوك سنة ٢٠٠٤، واليوتيوب سنة ٢٠٠٥، وتويتر سنة ٢٠٠٦، والأنستغرام سنة ٢٠١٠، والواتساب سنة ٢٠٠٩. وقد عرف السلفي انتشاره الحقيقي سنة ٢٠١٢، والتيك توك سنة ٢٠١٦. هذه الوسائل ملأت الدنيا وشغلت الناس. فقد أثبتت إحصائيات كيبيوس في شهر أكتوبر ٢٠٢٢ أنّ معدل استخدام الفرد لشبكات التواصل ساعتان ونصف يوميا وأنّ مستخدمي هذه الشبكات يقارب ٦٠ ٪ من سكان الكوكب من الذين تجاوز سنّهم ١٣ سنة. ووفق هذه الإحصائيات فإن ٤٧٪ من المستخدمين أكّدوا أنّ غايتهم الأولى هي التواصل مع الأصدقاء والأقارب و٣٥،٤ ٪ غايتهم تزجية الوقت و٢٥٪ فقط من المستخدمين غايتهم البحث والعمل. 

 ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي صار العالم يكتب بالصورة خاصة بعد العبور إلى شبكات الجيل الخامس من التقانة بشعار "إنترنت الأشياء" حيث لا تخضع الهواتف لسيطرة البشر. إنّه زمن "التمثيل البصري" كما يقول سعيد بنكراد، حيث الصورة موجودة في كل مكان.

وفي سعار هذه الثورة الرقمية عاش العالم انقلابا في حرب المواقع بين الفكرة وتجسدها في العبارة والصورة وما تنطق به في الإشارة. هذا الصراع الذي أقصى فيه أفلاطون الصورة بفنّانيها ورسّاميها وشعرائها حين رفع شعار "لا يدخل علينا إلا هندسيّا". كما أطاحت الرؤية الدينيّة التوراتيّة والمسيحيّة والإسلامية بعرش الصورة وانتصرت للفكرة. فقد جاء في التوراة " اللعنة على من صنع صورة منحوتة " و" أحرقوا بالنار الصور المنحوتة". وكما ورد في الإصحاح ٢٠ الآية ٤ من الإنجيل:" لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ممّا في السّماءِ من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحتِ الأَرْضِ."

إنّ الصراع بين من يتبنّى الصورة أو يرفضها جعل المجتمعات والمذاهب تنقسم إلى أيقنوفيليين وهم عشاق الصورة والمدافعون عنها والأيقونكلاستيين وهم المعارضون للصورة وهادموها. وكان أصل الصراع بين المذاهب كما وضّحه د. محمد شوقي الزين في كتابه الثقافة والصورة ص ١٧٣، اختلاف المقصد، فمن انتصر للصورة قصد الوجه الأيدولي الدّال على نفسه ولا يحتكم إلى سيادة خارجية أي الصّورة الحسيّة المطلقة. ومن سعى إلى هدم الصّورة وتقويضها قصد الوجه الأيقوني الدّال على الفكرة والحقيقة المتعالية التي طبعت في الأجساد والتصوّرات.

ورغم قدم الصراع تاريخيا ودينيا بين الغريمين الصورة والفكرة فإننا نشهد اليوم تراجع سلطة الأفكار والكلمات، وانسحاب اللغة التي عدّت أساس التواصل والفهم، لتتصدّر الصورة المشهد اليومي بتفاصيله، ممّا أسفر عن تحوّل في رؤية العالم من اللوغوس (العقل) إلى الأيدلون (الصورة الحسية) ومن التمركز البشري إلى التمركز التقني. هذه بعض مسوّغات الحديث عن الصورة اليوم بالتنقيب عن الأسباب التاريخية والدينية والبحث عن الآثار الاجتماعية. 

ولمّا كان المفهوم عصارة الفكرة، فمن الضروري إعادة النظر في مفهوم الصورة وفهم معناها. فما الصّورة؟

 اعتبر "ريجيس دوبري" في مُؤَلفه حياة الصورة وموتها أنّ كلمة Imago في أصلها اللاتيني تعني القناع الشمعي الذي يوضع على وجه الميت ليحتفظ به في صناديق الفناء بعيدا عن العيون. أما كلمة Figura فتعني الشبح والصورة والوجه. 

وأما كلمة Idole (صنم) فإنها مشتقة من Eidolon أيدلون وتعني خيال الموتى وشبحهم والطيف الذي لا يقدر أحد على الإمساك به، ثم أصبحت تعني الصورة والصورة الشخصية. 

من الواضح أن أصل كلمة الصورة يكشف رغبة الإنسان الأزلية في الخلود ومخاتلة الموت وذلك من خلال ما ضبطه "ريجيس دوبري" لمعاني الصورة. لئن اعتبر "دوبري" الصورة سليلة الحنين ومسكن الذاكرة، فإنّ "رولان بارت" رأى أنّ للصورة سمعة سيئة لأنها محاكاة خرقاء للواقع وتعود إلى الاشتقاق القديم Imitari أي المحاكاة. إن نظرة "رولان بارت" للصورة سلبية نظرا لزيفها فهي لا تنقل الحقيقة ولا الأصل. فالصورة شيء، وما تمثّله شيء آخر. وقد نجد في كتاب مسالك المعنى لـ"سعيد بنكراد": ص١٣٣ تعريفا شاملا وعمليا حين يعرّف الصورة بقوله: "هي في المقام الأول تشخيص حسّي لجزء كبير من الخبرة الإنسانية. وهي كل ما تلتقطه العين وتفصله عن محيطه قصدا أو قسرا."

وقد حدّد ميتشل في كتابه "الأيقنولوجيا: الصورة، والنص، والأيديولوجيا" أنواع الصور وحدّد لكل نوع منها الفرع المعرفي الفكري المهتم بها. 

الأيقونولوجيا

لا مراء أنّ استعراض أنواع الصور وفروعها المعرفية والفكرية مهمّ، ولكنّ معرفة خصائص الصورة، وطرق تحليلها، وفهمها، وتأويلها، ومعرفة أسباب انتشارها، ونتائج هذا الانتشار على المجتمعات التي صارت توصف بمجتمعات الفرجة أهمّ.

منذ البدء عبّرت الصورة عن قلق الإنسان فيما نحته من رسوم في المغاور والكهوف فالكلمات لا تقول كلّ شيء. يقول المعماري الفرنسي أندري فليبيان " أشدّ الانفعالات قوة هي التي تأتي عبر العين." لقد منح الإنسان في صلب ممارسته الثقافية الأشكال والألوان دلالات ورموزا كذلك الشأن مع الأبعاد والخطوط.

ولفهم معاني الصورة لابد من فهم دلالات مكوّناتها، فاللون والشكل والخط والنقطة تكتسب قيمتها داخل كيمياء الصورة الجديدة وليس دلالاتها الثقافية المتداولة في المجتمع. فالألوان مفتنة بجمالها ورمزيّتها بل قد يحدّد اللّون هويّة بعض الفواكه والحيوانات والمجتمعات فمجتمع البداوة والصحراء يتكثف فيه حضور اللون الأصفر خلاف القطب الشمالي الذي تزخر استعاراته الحياتية باللّون الأبيض أو المجتمعات البحرية المتكثف إحساسها باللون الأزرق. 

فلا دلالة للّون ولا معنى له إلا في محيط جغرافي معيّن ومجتمع محدّد وسياق مضبوط وفي تناسق مع بقية ألوان الصورة وفي الشكل الذي يتلبّسه. فاللّون الأسود يدلّ على الحداد والحزن في عدّة دول من العالم على خلاف المغرب والصّين فلون الحداد فيهما اللون الأبيض. كما يختلف اللون الأحمر الدال على المنع في إشارة المرور، على لون الدم الأحمر في عيد الأضحى، على رمزيته في ثوب المرأة أو دلالته السياسية عند اليساريين. كذلك دلالات الأشكال، فالصورة تتوسّل بإطار خارجي قد يكون مربعا، أو مستطيلا، أو مثلّثا، أو دائرة، ويعبّر الشكل عن دلالة اختارها المصوّر وانتقاها، فالمربع الذي اعتبره أفلاطون جميلا في ذاته لتوازن أضلاعه يقع تجنبه في الإشهار لأنه يقدّم الخبر بموضوعية، على خلاف المستطيل الدّال على الدينامية والقوة والاطمئنان وهو الشكل المفضّل عند النحّاتين والرسّامين. ويدلّ المثلّث لحدّة زواياه على الرّصانة والجدّيّة وله دلالات دينية مقدّسة عند المسيحيّين، ويرمز إلى الخطر في إشارات المرور. لكنه لا يتناسب مع الصورة الإشهارية. أمّا الدائرة فتدل على الدقة والإتقان وعلى الزمن لما فيه من معاني التتابع والتشابه ودينيا على الخلود. وكل هذه الأشكال تتأثر باللون الذي يسكب فيها عند رسم اللوحة.

كما لا يخلو اختيار الرسام أو المصوّر للخطوط المستخدمة في الصورة من دلالات ورموز، يدلّ الخط على الحركة مقابلة النقطة الدالة على السكون والانتهاء. ويشير الخط المستقيم الأفقي إلى الهدوء والصلابة والدقة والتوازن أما الخط العمودي فبالإضافة إلى هذه المعاني يرمز إلى الانتظام والارتقاء والرقي الدائم. 

 وأمّا الخط المنحني فيدلّ على التموج والحنان واللين وأيضا إلى السقوط والدوخة إنه يستوعب قيم التردّد والحيرة ويستحضر ما يحيل على الأنوثة وكذلك الرغبة في تجاوز الانتظام واليقين. ويحيل الخط الرقيق الناعم إلى قيم الهشاشة والرقة والطمأنينة والسلم والظرف واللباقة، على خلاف الخط الدّاكن الغليظ الذي يشير إلى البذاءة والعنف والخشونة والغضب والانفعالات الفجّة. وأمّا الخط المنكسر فيحيل على الحسم وتوقّف السيرورة والقطيعة.

ويعدّ تأطير الصورة واختيار الفضاء المصوّر إن كان ضيقا أو متوسّطا أو عريضا أهمّ منفذ يسرّب من خلاله الرسّام أو المصوّر قناعاته الجمالية والقيمية. فالتأطير الضيّق ينحصر في المكوّن الأساسي للصورة، أما التأطير المتوسّط فيكون بإضافة مكوّن ثانويّ للصورة يعلي من قيمة الموضوع الأساسي، وفي التأطير العريض تتسرّب الكثير من المكوّنات المتعلّقة بموضوع الصّورة. إنّ شرط بناء أي نصّ بصري هو وجود إطار محدّد له. 

اتّسمت الصّورة في حاضرنا بعدّة خصائص فمع سرعة انتشارها وكثافة عددها تكاد تكون عديمة الجدوى بالإضافة إلى صعوبة التمييز بين الحقيقي منها والمزيّف. إنّها هشّة، وآنيّة، وأفقيّة، وسطحيّة، وعرضيّة، شكلها أهمّ من مضمونها، وتفتقد إلى الدفء الإنساني وحميميته. إنّها تترجم لهوا عابرا يقوم به الكبار والصّغار في كلّ مكان. 

تنهض الصورة بعدّة وظائف تختلف حسب مجال الصورة وسياقها، ففي مجال التعليم تلعب الصورة دور التوضيح والشرح لأنها وسيلة لنقل ما في الأذهان إلى الأعيان، فتشخّص المجرّدات ويقع الانتقال من الأفكار والمفاهيم إلى التجربة الحسية. يقول "سعيد بنكراد" في تجليات الصورة ص ٢٢١:"ما تعجز الكلمات عن قوله يستعيده الوجدان عن طريق التمثيل البصري." فالصورة" هي السبيل الوحيد الذي يجمع بين كل الناس عندما تتعدد اللغات أو تختفي." ويذهب "دايفيد فكتروف" أن من وظائف الصورة التسلية خاصة في الإشهار، هذه المتعة وليدة التخلّص من إكراهات العقل والرقابة والصرامة اللغوية. أما "ليليان هام" فقد حددت وظائف التركيب في الصورة في الوظيفة الجمالية، والإخبارية والسردية المرتبطة بالسياق والرمزية المرتبطة بالقيم الثقافية. وفي الوقت الرّاهن صارت الصور تخفّف من حدّة شعور الإنسان بالحرمان والقلق والرّفض والتخلّي وتقوم بعمليّة تعويض عن الواقع الّذي يعيشه.

ومن أكثر الصور حضورا في حياتنا اليومية الصورة الإشهارية والتي تقوم على تعطيل العقل وتخديره ففيها يغيب "اللوغوس" وتنشط العاطفة "الباثوس" وتعبر جميع منافذ الحسّ لتحقيق غايتها الربحية والتسويقية.

لقد حوّلت الصورة الإشهارية المنتج العادي إلى "حدث" و"حلم" يستثير الوجدان ويستهيم به المشاهد وينفعل من أجل تملكه. وباستخدام أسلوب الغرابة والدهشة وقلب الحقائق والأدوار والسخرية والحنين، صارت الصورة تخبر وتوجّه وتقنع وتضلّل، بل وتصدر أحكاما قطعية، فما قبل المنتج باطل وما بعده جميل ورائع. إنّه السعادة كلها، والنظافة كلها، والصحّة كلها. ولن يثبت المشاهد ذكاءه إلا بشراء المنتج، بل هو الحلّ لجميع حاجاته.

تقوم الصورة في الإشهار على الإغراء والإغواء والإثارة، والمرأة ملكة الصورة في الإشهار ففيها تكذب وتغار وتتلصص وتسخر وتسوق مجموعة من المواقف مثل المقارنة والتفوق والغلبة والتميز والخوف والتشكيك لتصبح كائنا وظيفيا غير مستقل لأنّ المنتج في الدعاية صامت لكنَّ جسد المرأة ناطق بكل خيراته. 

 تختلف معاني الصورة باختلاف وضعيات المرأة فيها، ففي الوضعية الأمامية، يشعر المشاهد بالتحدي والاستفزاز أو الدعوة إلى المشاركة والتوسل والاستجداء أو الإغراء والتحفيز. وعلى المشاهد في الوضعيّة الجانبية أن يكتشف الحكاية السردية وانسجامها بين المرأة والمتفرّج. وفي وضعية "الثلاثة أرباع"، تغيب أذن المرأة عن الصورة ويحضر بقية وجهها وتوحي هذه الوضعية بالغموض، والإغواء، والنرجسية، والانطواء، والتعقيد، والحساسية. أمّا الوضعيّة الخلفية فتشير إلى التشاؤم والسلبية واليأس أو تبشر ببداية جديدة.

 تُنتزع المرأة في الإشهار من وضعها الاجتماعي الطبيعي لتتحوّل إلى وسيط لشراء البضاعة. هي طاقة إغرائية أمام مشاهد متلصص على حرائق أنوثة تثير فيه جميع حالات الاستيهام الجنسي.

إن المرأة هي الثيمة المفضلة في مختلف الصور والوصلات الإشهارية، ومثلما تثير المشاهد بحاسة البصر فهي تطوّح به شمّا من خلال دعاية العطور مثلا، فتعود من خلال الشمّ بالمشاهد إلى بقايا الحيوانية الأولـى فيه للتعرف على شريكه الجنسي. إنّ العين تبصر والأنف يشمّ واللّسان يتذوّق واليد تلمس بوعيها الثّقافي لأنّ الصورة في الإشهار تحتضن قناعا ثقافيا المرأة فيه طقس عبور للسعادة والجمال والصحة والنظافة والثروة، إنها تمثل خطاطة استهلاكية ثقافية مرتكز الإقناع فيها الإيروس وحده.

 وعلى خلاف ما روّج النظام الرأسمالي من أنه حرّر المرأة والأمَة، والجارية، إلّا أنّه سلب كينونتها حين سخَّرها موضوعا ووسيطا لبيع منتجاته. يقول تريانور في كتابه النيوليبرالية "إنّ الحياة البشرية ذاتها تستمد قيمتها من السوق." بغض النظر عن مدى الدمار الاجتماعي الذي ينتج عن ذلك. 

ولكن ما أسباب انخراط إنسان ما بعد الحداثة في عالم الصورة الإشهارية والفرجة؟ كيف انتصر عصر الصورة الأيدولي الذي نعيشه اليوم؟ هل ينحصر السبب في الأميّة الجديدة التي نحياها أم بسبب تسرّب المنتج إلى وجداننا في غفلة منّا حين يحاصرنا في كل فضاء.

إنّ المستهلك لا يقتني منتجا من أجل إشباع نفعي، بل هو في ذلك يرسم صورة عن نفسه وعن الطبقة الاجتماعية التي يتوق إلى الانتماء إليها. إنه مطلق الوهم في الامتلاك والشعور بالتفوق والتفرّد، مسكّن اجتماعي يوجّه نزعات التمرد داخل الأفراد نحو الاستهلاك. إننا نكتب معاني من خلال الاستهلاك ونعيد إنتاج قيم اجتماعية ورثناها عن الأجداد السابقين وسنورثها للأحفاد اللاحقين. ولذلك تلتقط العين المنتج من الصورة لتصوغه استنادا إلى ما يتحقق في الذاكرة.

تقول الدكتورة مشاعل عبد العزيز في ترجمتها لكتاب "آلان دونو" نظام التفاهة: "نجحت الشبكات الاجتماعية ومواقع التواصل الاجتماعي من خلال المنشورات المتتابعة في ترميز التافهين" ص٥٢ ومن أجل حصد "اللايكات" و"الجامات" صار الفرد مستعدا لأي بلاهة لجلب أنظار أكبر عدد ممكن من النّاس إنه زمن "الكيتش" بامتياز. 

لقد عاش العقل العربي سجين "رهاب الصورة" مئات السنين بسبب الحظر التاريخي والديني وسيطرة العقل الفقهي فجاءت حياتنا جرداء وقاحلة من حيث الخصوبة الخيالية والإبداع، ثم مع بداية هذا القرن سادت الصورة وسالت في كل تفاصيل الحياة حتّى صرنا نتكلّم صورا، فالإيموجي الذي استحدثه كوريتا الياباني طبع انفعالاتنا من خلال أكثر من ٣٦٦٥ صورة تعكس انفعالا مختلفا.

هل سنندب حظنا مثل غازي القصيبي حين أنهى حديثه عن الوصلات الإشهارية في كتابه "العودة سائحا إلى كاليفورنيا" لما تتضمنه من تناقضات صارخة وتبخيس للمشاهد بقوله "فوارحمتاه للمشاهد المسكين: يبدأ بمركّبِ نقصٍ، وينتهي بانفصام الشّخصيّةِ!!" أم نسعى أن نفهم ما يجري في العالم حيث تمتلك شركة اَبل ومايكروسوفت، وغوغل، وفيسبوك 80 بالمائة من المعلومات الشخصية الرقمية للإنسانية، وأصحاب هذه الشركات قلة أوليغارشية تتعامل مع كل كائن بشري باعتباره مستهلكا، ويعدّ النّوم بالنسبة إليها وقتا ميتا لا ربح فيه. هذا ما وضّحه مارك دوغان وكرستوف لابي في كتابهما "الإنسان العاري: الدكتاتورية الخفية للرقمية". لقد بسطت الرأسمالية هيمنتها على الحياة اليومية ولم يبق لها من عائق إلا النوم وهي تسعى من خلال أبحاث على "طائر الشرشور ذي العنق الأبيض" أن تستفيد من قدرته على الصمود أسبوعا دون نوم في أثناء هجرته، وتجعل الإنسان مستهلكا محافظا على جهوزيته يوما كاملا دون حاجة إلى النوم. 

تحوّلت حياة الأفراد كتقنية "الفلتر" و"الفوتوشوب" لا يُعرف فيها الحقيقي من المزوّر أو الصّحيح من المزيّف. حين نفكر في أفعالنا ونتأمّل الوقت الذي يتسرب منّا علينا أن نستعيد مبدأ "الميزوتيس” mesotes الأرسطي "القدر المناسب" أي الاختيار الأوسط بين شططين، لا يجب أن نلعن الصورة ولا يجب أن ننجرف وراءها. 

إنّ التفكير دون فعل صحراء باردة بِلُغة "حنّه أرنت"، لذلك فمن الضروري حماية مجتمعاتنا العربية من جموح "أنترنت الأشياء" وأن نعمل على استعادة دفء الحياة والتفكير في معانٍ جديدة لروابطنا الإنسانية، فالحياة تبقى أقوى من العوارض مهما طالت. 

 

المراجع:

  • د. آلان دونو: نظام التفاهة ترجمة د. مشاعل عبد العزيز الهاجري. دار سـؤال ط٢ سنة ٢٠٢٢

  • إلزا غودار: أنا أوسيلفي إذن أنا موجود تحولات الأنا في العصر الافتراضي ترجمة وتقديم سعيد بنكراد المركز الثقافي للكتاب المغرب ط١ سنة ٢٠١٩

  • باسل البستاني: الإنسانية في مواجهة النيوليبرالية مركز دراسات الوحدة العربية ط١ يناير ٢٠١٨

  • بيير ليفي: عالمنا الافتراضي: ترجمة د. رياض الكحال هيئة البحرين للثقافة والآثار ط٢  سنة ٢٠٢٢

  • حنّه آرنت: حياة العقل: الجزء الأول التفكير ترجمة نادرة السنوسي دار ابن النديم للنشر والتوزيع ط١ سنة ٢٠١٨

  • دايفييد فكتروف: الإشهار والصورة ترجمة سعيد بنكراد منشورات ضفاف سنة ٢٠١٤ 

  • ريجيس دوبري حياة الصورة وموتها ترجمة فريد الزاهي دار أفريقيا الشرق المغرب ط ٢ سنة ٢٠١٣ 

  • سعيد بنكراد: تجليات الصورة سيميائيات الأنساق البصرية المركز الثقافي للكتاب ط١ سنة ٢٠١٩

  • سعيد بنكراد: وهج المعاني سيميائيات الأنساق الثقافية المركز الثقافي العربي المغرب ط١سنة٢٠١٣

  • سعيد بنكراد: بين اللفظ والصورة: تعددية الحقائق وفرجة الممكن المركز الثقافي العربي المغرب ط١ سنة ٢٠١٧ 

  • سعيد بنكراد: مسالك المعنى: دراسات في الأنساق الثقافية منشورات الزمن سلسلة شرفات العدد ٤٨ فبراير ٢٠١٥

  • عبد الغني عماد: سوسيولوجيا الهويّة: جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء. مركز دراسات الوحدة العربية ط ٢ مارس سنة ٢٠١٩

  • غازي القصيبي: "العودة سائحا إلى كاليفورنيا" دار الساقي ص 23-26 ط 8 سنة 2015 

  • محمد شوقي زين: الثقافة والصورة: أشكال تأويلية ومهام فكرية دار ابن النديم للنشر والتوزيع ط١ سنة ٢٠٢٢

  • مارك دوغان وكرستوف لابي: الإنسان العاري: ترجمة سعيد بنكراد المركز الثقافي للكتاب ط١ سنة ٢٠٢٠

  • و.ج.ت. ميتشل: الأيقنولوجيا: الصورة والنص والأيديولوجيا ترجمة عارف حديفة هيئة البحرين للثقافة والآثار ط١ سنة ٢٠٢٠

 

الروابط

  • وسائل التواصل الاجتماعي حقائق وأرقام: الرابط

https://datareportal.com/social-media-users##_blank

http://www.arttherapyblog.com/online/color-psychology-psychologica-effects-of-colors/#.Y7iVc-xBxQL 

إحصائيات الإيموجي: