مَن يدْرُس، بإمعانٍ، أجناسَ القولِ السّياسيّ في الإسلام، يَلْحظ غيابَ ميدانٍ فكريّ خاصٍّ بالسّياسة وقضاياها، في تراث الإسلام، أُسوةً بمسائلَ أخرى اختصّت بها ميادين من الفكر.
وعلى ذلك، فإنّ ما نسمّيه، عادةً، بالفكر السّياسيّ الإسلاميّ لا يبرّر تسميَّتَه كذلك سوى اتّصال بعض ميادين التّفكير - في التّراث العربيّ الإسلاميّ - بمسائل السّياسة والدّولة والمُلْك اتّصالاً أشبه ما يكون بالعَرَضيّ، وخاصّة ميادين العلوم الدّينيّة منها مثل علم الكلام والفقه. والعِلْمان هذان منصرفان، في المقام الأوّل، إلى مسائل الدّين: أصول الدّين والشّريعة، أمّا السّياسة فيهما فلا تعدو أن تكون من لوازم الدّين ومقتضياته، وليس القولُ فيها بشأنٍ مركزيّ ذي خطرٍ داخل نظامها الفكريّ، بل هو ممّا يستدعيه التّفكير في كيف يترتّب على ما هو في حكم الدّنيويّ أن يكون - في نطاق الإسلام - خاضعاً للدّينيّ، محكوماً بنظامه.
مع هذا، نعثر على ما هو في حكم مساحةِ الاشتراك والتّقاطُع بين هذين العلميْن الدّينيّيْن وميدانيْن آخريْن، هما الآداب السّلطانيّة والفلسفة؛ والمساحةُ هذه، التي تلتقي عليها تلك الميادين (الأربعة)، هي السّياسة بما هي مشتركٌ بينها جميعها، على اختلافٍ بينها وتَبايُنٍ في كيفيّات النّظر إليها: كلّ علمٍ من زاويته. وربّما كان وجود السّياسة في صورة مشتَركٍ بين هذين الميادين المختلفة من التّأليف سبباً يحجُب حقيقةً أخرى رديفاً هي غيابُ - أو قُل عدم - انتظامِها، كموضوع، في علمٍ خاصّ بها يدرسها (مثل أيّ علم آخر كالفقه، أو الكلام، أو التّفسير، أو البلاغة، أو التّاريخ...). لذلك يقال الفكر السّياسيّ الإسلاميّ - عند الباحثين فيه - لا على سبيل التّعيين والتّمييز، بل على سبيل المجاز... ليس أكثر.
والحقّ أنّ التّفكير في السّياسة، وإنتاجَ موضوعها وصوْغَ المفاهيم الخاصّة بهذا الموضوع، لم يبدأ - على الحقيقة - إلاّ متأخّراً مع عبد الرّحمان بن خلدون، في القرن الرّابع عشر للميلاد. على أنّه بلغَ معه، في لحظةِ التّأسيس تلك لعلم العمران، أوْجَهُ لجهة التّنظير أو البناء النّظريّ. غير أنّ المفارقة الكبرى تكمَن في أنّ هذا العلم الذي بدأ مع ابن خلدون سينتهي معه هو نفسُه. وليس يغيّر من حقيقة غياب فكرٍ سياسيّ إسلاميّ حقيقيّ، قبل ابن خلدون، وجودُ ذلك الكمّ الهائل من الأدبيّات الإسلاميّة المتعلّقة بالإمامة والمُلك والسّلطان والسّياسة، التي كتبها فقهاءٌ ومتكلّمون ومؤرّخون وكتّابٌ سلطانيّون وحتّى فلاسفة - وهو كمٌّ يناظِر حجماً غيره من الأدبيّات الأخرى -؛ ذلك أنّ الوفرة ليست معياراً دقيقاً ولا مناسِباً لِزِنةِ المسألة في ميزان العلم.
ولقد يكون تفسيرُ ظاهرة الميلاد المتأخّر للفكر السّياسيّ الإسلاميّ في طبيعة نظرة الأجيال الأولى من الكتّاب المسلمين (فقهاءَ ومتكلّمين) إلى السّياسة، أو الغرض من الاهتمام بها؛ فنحن نَعْلم، على التّحقيق، أنّ التّفكير في السّياسيّ بدأ - في الفكر الإسلاميّ - من مُدْخل اتّصاله بالدّينيّ، لا بوصفه صعيداً مستقلاًّ من الاجتماع الإسلاميّ، بل قُلْ هو بدأ من مدخل انتمائه إلى الدّينيّ انتماءَ فرْعٍ إلى أصل. ومع أنّ الإمامة ليست من أركان العقيدة - عند أهل السّنّة خلافاً للإماميّة ولفرق الشّيعة عموماً- إلا أنّها لم تلبث أن صارت باباً ثابتاً من أبواب كتب علم الكلام، ودَرَج المتكلّمون على تناوُلها من زاوية قياسها بميزان الشّرع: إنْ من حيث هي منصبٌ؛ والشّروط الشّرعيّة الواجب توفّرها لتَقَلُّد هذا المنصب؛ والواجبات الشّرعيّة التي يرتّبها على متقلِّدِه... إلخ. وما اختلف الأمر، كثيراً، عند الفقهاء الذين أعادوا تدويرَ قضايا الإمامة الكلاميّة في كتبهم، وإنْ كانوا في نظرتهم إلى الإمامة أكثر من الأوّلين (= المتكلّمين) واقعيّةً، أي اعترافاً بالأمر الواقع، الأمر الذي حدا بهم إلى التّسويغ لسلطان الحكّام القائمين وعدم الجدل في مشروعيّته؛ وخاصّةً بعد ظهور إمارات الاستيلاء وانكماش سلطان الخلفاء - في العهد العبّاسيّ المتأخّر- إلى الحدود الرّمزيّة (= الدّينيّة) المجرَّدة من أدوات السّلطان الماديّ.
في الأحوال جميعِها، مرَّ التّفكير في السيّاسة - في نطاق العلميْن المومأ إليهما - بالتّفكير في جدليّةٍ متلازمة هي جدليّة السّياسيّ والدّينيّ، وكان الرّائز في النّظر إليها هو الشّرع، والبُغْيةُ ظلّت، دائماً - خَلْعَ الشّرعيّة الدّينيّة على السّياسة والإمامة، وقطْع السُّبل إلى الجدل في شأنها. وحين دَخَل كتّاب الدّواوين والآداب السّلطانيّة ميدان الكتابة في الأمور السّياسيّة، ما كان يسعهم - على الرّغم من نظرتهم الدّنيائيّة إلى أمور الدّولة - أن يتجاهلوا مركزيّة الدّين وهم يتحدّثون عن السّلطان السّياسيّ؛ فقد عَدُّوهُ من لوازمه التي لا يستقيم له أمرٌ من دونها. ولم يكن ذلك تملُّقاً منهم للخلفاء والسّلاطين، ولا خوفاً من الفقهاء والعوامّ، بل لأنّ النّموذج السّياسيّ الذي "نظّروا" له وحسّنوهُ في عيون السّلاطين (النّموذج الملكيّ الفارسيّ والبيزنطيّ) يلْحظ مكانةً للدّين في السّياسة والدّولة من غير أن يهدر استقلاليّة الثّانية بشخصيّتها.