وعلامةُ رفعه الفكرة
يوم الصحافة العالمي ازدحم بالمناسبات والخطابات والتصريحات الصحافية المرتكزة على إرث عميق من المبالغة والحديث في الفرضيات باعتبارها حقائق. ومن قرأ بعضاً مما قيل حول واقع الحريات وتأثير الإعلام وهويته كسلطة رابعة ربما يصاب بحالة اقرب للانفصام بحيث يتخيل له ولو للحظة مجنونة أن هذا الكلام واقعي وأنه ينطبق على حالة الإعلام في فلسطين.
الواقع أن العام المنصرم كان من أسوأ الأعوام على صعيد حرية العمل الصحافي والمساحة المتاحة للصحافيين بشكل عام للعمل بحرية وأمان. تجدر الإشارة هنا أن كثيراً من الدول الديمقراطية، والتي لطالما اعتدت بحمايتها للحريات العامة والخاصة، قد نالها من الانتقادات نصيب فيما يخص مساحة الحريات المنكمشة إجمالاً. لكن مما لا شك فيه أن منطقة الشرق الأوسط تنافست على حصة الأسد في التربع على مكانة "الأسوأ" في مجال الحريات مع دول أخرى تحكمها أنظمة استبدادية أو تعاني من نفوذ متزايد للعصابات المنظمة مثل المكسيك.
إحدى المفارقات اللافتة في الواقع الإعلامي الفلسطيني هي أن الساحة الإعلامية منقسمة عامودياً وأفقياً وبشكل يكاد يكون شاملاً حسب الانتماءات السياسية وبما يعكس حالة التناحر الفصائلي ذي الطابع القبلي القائم. هذا الانقسام أعاد تشكيل الوعي – ويجوز القول أنه ساهم في كي الوعي - لجيل كامل من الصحافيين الذينما عادوا يذكرون كيف كان العمل الصحفي المهني في فلسطين والذي لا اصطفاف فيه إلا مع القضية الوطنية. والجيل هنا لا يمثل فئة عمرية بعينها بل شريحة من المنتسبين للمهنة بشكل عام. هذا الجيل اعتاد أن تكون الساحة الإعلامية الفلسطينية ساحة تناحر واصطفاف فصائلي بحيث يكون الخبر أداة ووسيلة بدل أن يكون الهدف.
مفارقة أخرى تكمن في مدح بعض القيادات السياسية والفصائل للصحافة ودورها رغم أن هؤلاء، أو السواد الأعظم منهم، لا يريدون من الإعلام المحلي سوى مساحات لنشر البيانات والتصريحات والأخبار الاجتماعية على شاكلة "استقبل" و "اجتمع" و "ودع" و "استنكر" و "رحب"... مفارقة كبيرة أن يعرف الإعلام والإعلاميون من قبل من يساهم في حالة الاصطفاف اللا-مهني بأنهم "السلطة الرابعة" بينما الواقع هو أن أي تحقيق صحافي جدي يقابل بالاستهجان والتشكيك وغيرها من أساليب الاستقواء والتهديد المبطن وغير المبطن، ناهيك عن الاعتداءات والاعتقالات والملاحقات غير المقبولة أو المبررة.
لكن أم المفارقات هي أن الكثير من الصحافيين في فلسطين يمارسون المداهنة والرياء في محاباة هذا التشخيص الوردي الوهمي لحال المهنة ومساحة الحرية. وبهذا النفاق، يصبح الصحافيون هؤلاء شركاء في استمرار الحال على ما هو عليه، تماما كما كانوا شركاء في خلق وتعزيز وتكريس الانقسام وكما هم منهمكون في تبرير تجليات الانقسام المخزية وتداعياته المعيبة على مساحة الحريات في فلسطين. وبهذه الخلطة من الرياء والاصطفاف، استولت حرفة الاتجار بالخبر والترويج لفصيل بعيه أو لبعض صناعه الحقيقيين والوهميين على مهنة الاعلام حتى بات الخبر أثراً بعد عين – أو يكاد. وبهذا، أصبح الضجيج الصاخب في مساحتنا المهنية يشبه ما يصطلح عليه ب"الفدعوس" أو الزفة، بدل أن يوفر مساحة للحديث والنقاش في العمق والتفاصيل.
لا شك أن الصحافي الفلسطيني أثبت تميزه وتألقه المهني على المستوى العالمي وقد حصد الصحافيون الفلسطينيون أهم الجوائز العالمية عبر السنين بسبب أدائهم المهني وتميزهم المبهر. لكن هذه الإنجازات المهنية الهامة لم تنعكس على واقع الإعلام المحلي في فلسطين بل على العكس، الهوة بين المهنة وممارستها في الإعلام المحلي تتسع يوماً بعد يوم. نعيش انفصاماً بين الخطاب والواقع والأداء لكننا نصر على تجاهل الواقع لصالح الصورة الخيالية التي ترسمها الخطابات ونتمترس خلف مواقفنا التي تشدد على إنجازات بعضها حقيقي وكثير منها ناتج عن المجاملة. يحدث هذا بينما نتجاهل حقيقة أننا نتعايش مع ملاحقة قبيلتنا لبعض زملاءنا من القبائل السياسية الأخرى ونشارك بصمتنا في استيلاء المدعين على مهنتنا بحيث نشاهد مساحتنا المهنية تغرق في الفصائلية والعصبية العقائدية والتحريض السياسي والديني المقزز بينما نهز أكتافنا بتسليم انهزامي لواقع دون المستوى الذي نستحق.
كيف حال الصحافيين؟ حالنا ليس بخير ولن يكون أفضل إلا إذا بدأنا بجلسة مصارحة مع أنفسنا وغربلنا مساحتنا من شوائب التعصب والتحريض والترويج واللا-مهنية. في هذه الأيام، أتذكر من فارقنا من الزملاء – وهم كثر - وهو يؤدي واجبه المقدس في نقل الحقيقة والخبر الذي كان غايتهم وهدفهم دوماً. اليوم أتذكر فضل شناعة الذي صورت عدسته آخر لحظات حياته التي اختطفتها قذيفة دبابة إسرائيلية في يوم من أيام نيسان قبل سبعة أعوام. فضل... اشتقنا لك... ابتسامتك باقية وكذلك الصور التي سجلتها عن عظمة شعبك وقوته وارادته وعار التناحر الذي أصاب فصائله وبشاعة محتله الهمجي. ادعي لنا يا فضل أن يكون حالنا أفضل العام القادم.