الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

منار حسن تعيد بناء فسيفساء المدن المنسية في كتاب "المغيّبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة 1948"

2023-02-22 11:39:27 AM
منار حسن تعيد بناء فسيفساء المدن المنسية في كتاب
غلاف الكتاب

تدوين- سوار عبد ربه

أطلق أمس، في مركز خليل السكاكيني برام الله، كتاب "المغيّبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة 1948" الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، من تأليف منار حسن، وترجمة علاء حليحل.

وفي قراءة قدمها الباحث سليم تماري للكتاب قال "إن منار حسن تحاول في هذه الدراسة استعادة الحراك النسائي في مدن فلسطين قبل عام 1948 من خلال استقراء مادة بحثية تعوض عن غياب الأرشيف المنظم الموازي لأرشيف الدولة ومؤسساتها، ذلك بالاعتماد على مصادر بديلة عدة منها سير ومذكرات، مصادر صحفية، ولقاءات مع شهود عيان ممن عايشوا جيل النكبة، معظمهم من النساء اللواتي لجأن إلى الأردن، والضفة الغربية ولبنان، في جهد أسمته إعادة بناء فسيفساء المدن المنسية وهي أيضا قراءة جندرية لنكبة فلسطين. تستعين من خلالها المؤلفة بمقارنة لوحتين للفنانين إسماعيل شموط وتمام الأكحل".

وبحسب تماري: "في لوحة النكبة من إسماعيل شموط يستعيد الفنان فلسطين كقرية مثالية ترقص العرائس فيها حول شجر الزيتون في مشهد رعوي نوستالجي، بينما نرى في جدارية تمام الأكحل استعادة مختلفة في يافا عروس البحر وهي لوحة الغلاف التي تظهر النكبة كاختفاء للمدينة الساحلية بملاعبها وبحاراتها وبياراتها وعالم البهجة واللعب على شاطئ البحر".

تقول منار: "قياسا بالموتيفات الريفية التي برزت لدى شموط، طرحت الأكحل في أعمالها موتيفات حضارية بالذات، وهذا فارق مهم، لأن العلاقات الحضارية أقصيت عن الذاكرة الجمعية وعن التاريخ المتداول".

ويرى تماري أن استخدام المؤلفة للمقابلات مع معاصري أحداث الفترة الانتدابية سمح لها أن تغوص في استكشاف حضارية لم تظهر في كرونولوجيا التطور الحضري في دراسات عديدة حول المدن الفلسطينية وفي معالجة دور المرأة في أحداث النكبة نفسها.

"الهيتروتوبيا هو مصطلح طوره فوكو للحديث عن المشهد الحضري الذي يحوي ممارسات وسلوكيات غير نمطية نجدها في المستشفيات والسجون والمقابر والمتاحف"

واعتمدت المؤلفة في تحليلها للمعطيات على رؤية نظرية فوكودية من خلال معالجتها لفضاءات هيتروتوبية نسائية. والهيتروتوبيا هو مصطلح طوره فوكو للحديث عن المشهد الحضري الذي يحوي ممارسات وسلوكيات غير نمطية نجدها في المستشفيات والسجون والمقابر والمتاحف، وفقا للباحث.

فضاءات منار حسن

ويرى تماري أن المؤلفة تركز هنا على الحضور النسائي في الفضاءات الحضرية الأخرى بالإضافة إلى إحيائها الجزئي والمحدود إلى فضاءات العمل والسياسة والصحافة والنوادي، هذه الفضاءات الأخرى نراها في احتفالات النبي روبين، واحتفاءات أخرى تجري في حيز خارج المكان في قطيعة كاملة مع الزمن التقليدي والمعتاد تسميته حيزا هيتروتوبيا علمانيا لأنه نجد فيه حضورا نسائيا مختلطا كسر نمط الطقوس الذكورية المعتادة، ونراه أيضا في عالم الجناكي وهو عالم النساء العاملات في الغناء والعزف والرقص في مناسبات الأعراس والمهرجانات الشعبية.

من الفضاءات الأخرى التي تعالجها المؤلفة وبجرأة عالية، وفقا لتماري، عالم الاستقبالات النسائية المحظور على الرجال والذي كان يلعب دورا هاما في خلق حيز حميمي للوجدان الطبقي النسائي ومنه نبتت نواة الحركة النسائية البرجوازية في فترة الانتداب.

ويضيف: "أما الجانب الهيتروتوبي الآخر الذي عالجته المؤلفة بجرأة هو عالم التجارة بالجنس والبغاء الذي تخصصت به مدن الموانئ يافا وحيفا وهي ظاهرة تعززت خلال فترة الثلاثينات والأربعينات بوجود هجرة كبيرة من سوريا ولبنان للعمل في مدن الساحل من خلال وجود دائم للبحارة والجنود المنقطعين عن حياة جنسية عادية، وذلك بالاستناد إلى تقارير دائرة الصحة الانتدابية وعلى ريبورتاجات الصحف المحلية التي وصفت يافا بأنها متخمة بفجور بعض ملاهيها وهي مركز الدعارة الأساسي في فلسطين".

لوحة ملائمة للعرض للحيز النسائي المغيب

أما عن غلاف الكتاب فاعتبر تماري أن منار حسن تقابل فيه بين الحنين الريفي الذي يمثله إسماعيل شموط في لوحاته العديدة عن البيارة والحقول وموسم الحصاد والفلاحات بأثوابها المطرزة مع رؤية استرجاعية لتمام الأكحل في لوحة يافية تظهر فيها كل ضجة وغنى وتناقضات المشهد المديني الذي تعالجه في هذا الكتاب، كالسباحة بالبحر، اختلاط الجنسين، متعة الحيز العام، مواسم الحصاد خاصة البرتقال وحياة الصيادين، مشيرا إلى أن اللوحة ملائمة لهذا النوع من العرض حول الحيز النسائي المغيب في فترة الانتداب وحتى عام النكبة.

من جانبها، قالت مؤلفة الكتاب منار حسن، إن هذا الكتاب ليس الأول من نوعه عن المجتمع الفلسطيني في الفترة التي سبقت التدمير غير أنه لم يتم حتى الآن التأكيد على دور المدينة كمولد حياة حضارية بما فيه الكفاية، يشمل ذلك كون المجتمع الفلسطيني فقد أيضا سجله التاريخي أي أرشيفه.

وأشارت حسن في مداخلتها إلى مصطلح المغيبات الوارد في الكتاب، باعتباره مصطلحا له وظيفتان، فمن جهة أولى عرض المدن الفلسطينية التي أبيدت عام 1948، ومن جهة ثانية استنساخ الحياة الحضرية لنساء كثيرات عشن بها".

وأردفت: "بغياب محفوظات مرتبة لاستخراج المعلومات الضرورية منها، أرغب كمؤلفة في إعادة بناء التاريخ الاجتماعي للنساء في المدينة لهذا قمت من خلال المعارض واللوحات والواقعات المكتوبة والمنطوقة والقصاصات الصحفية والسير الذاتية والمقابلات مع الناس الذين عاشوا في المدن الفلسطينية، حيفا، يافا، الرملة وغيرها، قبل عام 1948، بتحديد مخطط للأماكن العامة والحركات السياسية والجمعيات الاجتماعية والنسوية، والصحف والنوادي، وأنماط الترفيه النسائية، مشيرة إلى أن هذه العملية ليست إعادة ترسيم كرونولوجي ولا إعادة إعمار كاملة بل تجميع عملي من الآثار التي تركتها المدينة المنسية.

وتطرقت المؤلفة إلى أبرز التغيرات الاجتماعية الجندرية التي حدثت على ضوء التحولات الحيزية وغيرها التي مرت بها الحاضرة الفلسطينية المغيبة في الداخل المحتل، وأبرز ما أتاحته هذه التحولات من إمكانيات أمام النساء اللاتي غيبن ليس من الحيز وإنما من الذاكرة، إضافة إلى تحولات جندرية عامة.

كما تحدثت عن تدمير حاضرة المجتمع الفلسطيني في الداخل إبان الاحتلال والنكبة حيث قضي حينها على الغالبية العظمى من ذلك الجزء من فلسطين الذي سيطلق عليه لاحقا المجتمع الفلسطيني في الداخل، مشيرة إلى أن لتدمير المركز الحضري الفلسطيني وإجلاء مئات آلاف سكانه المدنيين الحضريين كانت أبعاد اجتماعية ثقافية قومية واقتصادية خطيرة، تمثلت في حدوث عمليات ترييف شاملة حادة وعميقة طغت على المجتمع الفلسطيني في الداخل ولا تزال حتى يومنا هذا.

وبحسب حسن: "أحد أهم اسقاطات عمليات التزييف الاجتماعية على المجتمع الفلسطيني في الداخل انعكس في مكانة النساء وفي العلاقات الجندرية إضافة إلى أمور أخرى".

وأوضحت الباحثة أن المجتمع الفلسطيني قبل النكبة لم يكن مجتمعا ريفيا أو زراعيا فحسب، إنما نحو 40% من مواطنيه كانوا من الحضريين المدنيين، ما أحدث تحولات وتغييرات اجتماعية هامة وجلية، بما فيها التي طرأت على مكانة النساء وعلى العلاقات بين الجنسين أو الجندرية.

وبحسب المؤلفة كانت الحاضرة قبل تدميرها قد نجحت في إنتاج العديد من المؤسسات والفضاءات الحضرية المدنية في الحيز العام، توسيعها وإحداث تحولات في صورتها، ومن هذه الفضاءات والمؤسسات: الصحف العديدة والمتنوعة التي صدرت حتى عام 1948 في المدن المختلفة والتي وصل عددها إلى ما لا يقل عن 200 صحيفة، تخصصت في شتى المجالات والقضايا مثل السياسة والاقتصاد، القانون والزراعة، الطب والأدب السينما والفكاهة وغيرها".

بالإضافة إلى دور السينما العديدة التي أقيمت في مختلف المدن الفلسطينية والتي وصل عددها إلى العشرات ثم المسرح، ودور الإذاعة كإذاعة هنا القدس عام 1936 وإذاعة الشرق الأدنى يافا عام 1941-1942، المطاعم، المقاهي، المكتبات العامة، النوادي الثقافية والرياضية وغيرها والتي وصل عددها في مختلف المدن إلى مئات النوادي، المراقص، الملاهي، المسابح والحدائق العامة والمنتزهات العامة، والجمعيات التعاونية النقابات العمالية والتنظيمات النسائية وغيرها من الفضاءات والأحياز الحضارية، التي لم تكف المدن الفلسطينية عن خلقها وإنتاجها إلا في عام 1948 حين دمرت الحاضرة وحصلت النكبة.

محاولة لتصويب عملية التأريخ الفلسطينية

بدورها، عرجت الباحثة الفلسطينية همّت الزعبي في مداخلتها على أن الأدبيات وعلى مدار سنوات طويلة بعد النكبة، غيبت المدينة وسكانها من الرواية والسردية الفلسطينية، مقتبسة ما جاء في خاتمة الكتاب أن ذلك "بسبب الطابع الجغرافي الاستيلابي للصراع تغلبت ذاكرة القرية واستخدام الديكور الريفي والوعي الريفي كمصدر أساس في تخيل الماضي الفلسطيني فتجمدت الذاكرة الرسمية والقت بظل النسيان السياسي على المدينة".

وترى الزعبي في هذا الكتاب محاولة لتصويب عملية التأريخ الفلسطينية، كغيره من الأدبيات التي تركزت في دراسة المدينة الفلسطينية قبل احتلالها، التي تكثف الاهتمام بها في العشرين سنة الماضية.

"المدينة أبعد بكثير من المقاييس الجامدة والمجردة التي تميزها، مثل الحيز المبني والمميزات الديموغرافية بل هي منتج اجتماعي ناتج عن تفاعلات بين عدة عوامل"

وتشير الباحثة إلى أن كتاب المغيبات يستحضر تاريخ المدينة الاجتماعي من وجهة نظر النساء، منوهة إلى أنه بالإمكان الادعاء بأنه يتفاعل مع الفكرة السوسيولوجية القائلة بأن المدينة أبعد بكثير من المقاييس الجامدة والمجردة التي تميزها، مثل الحيز المبني والمميزات الديموغرافية بل هي منتج اجتماعي ناتج عن تفاعلات بين عدة عوامل بأن المدينة فضاء وموقع للتبادل ومسرح للصراعات والتفاوض على تشكيل وشكل المدينة وحول تشكيل تعبيرات جماعية سياسية للنساء دور كبير فيها.

كما تشير إلى أن مجهود منار البحثي ينضم إلى المدرسة النسوية النقدية والتي تطلق عليها منار اسم "نموذج العالم الثالث" وتركز هذه المدرسة التي تحث العلاقة بين المدينة والجندر في مجالات علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية أو الدراسات الثقافية، وترى هذه المدرسة كما تحاجج منار على طول الكتاب بأن المدينة عنصر باعث للتغيير في كل ما يتعلق بالعلاقات الجندرية، وترى أن للمدينة مهمة اجتماعية تاريخية وهي عنصر مشجع ومحرر.

وبحسب الزعبي من خلال هذا الادعاء ينتقد الكتاب بعض الأدبيات النسوية التي تدعي بأن هناك علاقة عضوية بين نمو الحركات والمنظمات النسائية في الدول الكولونيالية وبين النهضة القومية إذ تدعي منار بأن تجاهل هذه المدارس لظهور المنظمات النسائية في مراحل ما قبل الدول الكولونيالية يتجاهل أيضا الدور المركزي لمسار التحضر ومساهمته في ظهور وتمكين هاتين الظاهرتين: النهضة القومية والحركات النسائية والنسوية.

شذرات من مصادر بديلة

تشير الزعبي إلى المصادر التي استندت عليها المؤلفة، تلك التي أسمتها "شذرات من مصادر بديلة" إذ بالرغم من غياب الأرشيف المنظم تثبت لنا منار أنه بكثير من الجهد والتصميم وأيضا بكثير من التفكير الإبداعي خارج الصندوق يمكن لبحث متعمق ومتأني يعتمد على مصادر متعددة أن ترسم ملامح صورة حية وديناميكية ل35%-40% من المجتمع الفلسطيني هؤلاء الذين تم تغييبهم من التاريخ الرسمي.

وترى أن الباحثة تأخذنا في فصول الكتاب إلى رحلة تنشط الخيال توصف فيها التحولات التي طرأت على المدن الفلسطينية في جوانبها المختلفة، الحيز، الاقتصاد، الثقافة والترفيه، وأيضا السياسة من خلال تجربة وتحولات طرأت على تجربة النساء المعاشة ودورهن ومساهمتهن في بناء مدينتهن.

ومن خلال محاولتها "استعادة المقصي" تستحضر في الكتاب مدنا لم تلق الاهتمام الكافي بعد، فإلى جانب يافا وحيفا والقدس يستحضر الكتاب أيضا مدينة الرملة وطبريا وبيسان.

وبحسب الزعبي يدعي الكتاب بأن الحيز الحضري الآخذ في التشكل والنمو كان حلبة مركزية لصراعات وتفاعلات اقتصادية سياسية واجتماعية ساهمت جدليتها كما جاء في تغيير صلات وعلاقات اجتماعية جديدة ومنظومة قيمية وثقافية جديدة، التي مكنت نشوء بديل معين من منظومة القيم التقليدية ومن ضمنها العلاقات الجندرية ومكانة المرأة.

" الحيز الحضري الآخذ في التشكل والنمو كان حلبة مركزية لصراعات وتفاعلات اقتصادية سياسية واجتماعية ساهمت جدليتها كما جاء في تغيير صلات وعلاقات اجتماعية جديدة ومنظومة قيمية وثقافية جديدة"

ولا تغفل منار العوامل المختلفة التي ساهمت في نمو الحيز الحضري في فلسطين، على الرغم من تركيزها الأكبر في وصل صيرورات الاجتماعية الداخلية إلا أنها تلمح أحيانا إلى دور الاستعمار البريطاني وأيضا تغلغل الرأسمالية في التغييرات الاقتصادية السياسية التي حصلت وكيف ساهمت هذه التدخلات من تمكين الطبقتين الوسطى والرفيعة ومن ضمنها نساء هاتين الطبقتين وهن اللواتي أخذن القسط الأكبر من الكتاب، وفقا للزعبي.  

كما لا تكتفي منار في إضافة تجارب النساء في المدن لتصويب عملية كتابة التاريخ الاجتماعي الحضري بل تعتمد بالأساس إلى قراءة نسوية تستند إلى قناعة أن النساء هن فاعلات ناشطات في التاريخ يساهم فعلهن في استهلاك المدينة ولكن أيضا في استخدامها وينتزعن حقهن في المدينة ويساهمن أيضا في تصميمها وإعادة هيكلتها.

"وثيقة دفاع مع بيانات محكمة تقدم للمحكمة كلائحة اتهام في حق من غيب المدينة وسكانها من الخطابات التاريخية المهيمنة"

وتشير الزعبي إلى أن الكتاب غني جدا في الأمثلة وكأنه وثيقة دفاع مع بيانات محكمة تقدم للمحكمة كلائحة اتهام في حق من غيب المدينة وسكانها من الخطابات التاريخية المهيمنة، معتبرة أن أهمية الكتاب تتعدى الانتصار للرواية والسردية التاريخية فالأمثلة الكثيرة تسلط الضوء على فكر وممارسة نسوية يمكن الادعاء أن محوها من السردية الرسمية ساهم في إعاقة تراكمية لإنتاج المعرفة النسوية في فلسطين والمنطقة، وقد سبب تغييب هذه الممارسات إلى إعاقة الخطاب النسوي وتراجعه ما بعد النكبة فالأمثلة الكثيرة الواردة في الكتاب تدل على مسارات نسوية غيبت فأعيد بناؤها ما بعد النكبة وكأنها لم تكن موجودة في السابق أصلا.