الحدث الثقافي- إصدارات
صدر للكاتبة المصرية نوارة نجم، عن دار الكرمة - القاهرة، كتاب عن سيرة حياة والدها الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم تحت عنوان "وأنت السبب يابا".
على خلاف غالبية الكتب التي يكتبها الأبناء عن الآباء، لا يرسخ كتاب نوارة عن والدها "قداسة متخيلة" تجعله خارج دوائر النقد أو التقييم، كما لا تتعسف في الإدانة وإصدار الأحكام، لأن ما استهدفته أبعد من ذلك بكثير، فقد أرادت أولاً التخلص من ثقل حضور الشخصية العامة، لمصلحة "بساطة الأب" الذي عاش حياة استثنائية قريبة من حياة المغامرين في السير الشعبية.
مثل الزئبق
وكما يكشف الكتاب فقد كان "مثل الزئبق لا يمكن الوصول إليه إلا بشق الأنفس"، وكان دائم التحرك، وظلت هي دائمة الركض خلفه. ولم يكن ذلك جيداً كما تقرر بوضوح، بل ترجو كل أب ألا يعرض ابنته أو ابنه لمصير مشابه.
تكرس نوارة الكتاب لعلاقتها مع والدها شاعر العامية المصري الشهيرأحمد فؤاد نجم الذي كتب هو الآخر سيرة شهيرة بعنوان "الفاجومي"، وهو تعبير يدل في العامية المصرية عن الشخص المندفع، الذي يعلن رأيه بصراحة من دون حسابات أو مخاوف.
ولا تغيب عن قارئ الكتاب الرغبة المضمرة التي أرادتها الكاتبة في الاحتفال بـ"الضعف الإنساني" الذي يبدو كأنما هو الفضاء الوحيد الذي يجمعها مع والدها. وهو بهذا المعنى ليس ساحة لمحاكمته أو الاقتصاص منه أو التشهير به وبمن كانوا حوله، وإنما هو نص من نصوص المناجاة والعتب أحياناً. فهو دائماً مع "الجماهير"، وهي تريده في الصورة العادية التي تماثل صور الآباء الآخرين.
الأب الغائب
يمثل الكتاب رحلة بحث طويلة خاضتها نوارة للعثور على "الأب الغائب"، على رغم حضوره الباذخ في كافة التفاصيل التي أوجدتها الأم. فهو كما رأته "ليس بالشخص القوي في ما يتعلق بالعلاقات الإنسانية، وإنما هو قوي في مواجهة السلطات، وشديد الضعف والهشاشة في مواجهة المواقف الإنسانية والأزمات الشخصية التي يفقد فيها قدرته على حسن التصرف وسرعة البديهة اللذين يتمتع بهما في الشأن العام".
نجحت عبر الكتاب، في ابتكار أسلوب سردي فريد لمعالجة سيرتها، وتناول أثمان تجربة معقدة انطوت على كثير من القسوة ومشاعر الفقد
كتبت نوارة لتنجو من "التروما" التي صبغت حياتها ونزعة التمرد التي واجهت بها حضوره. ونجحت عبر الكتاب، في ابتكار أسلوب سردي فريد لمعالجة سيرتها، وتناول أثمان تجربة معقدة انطوت على كثير من القسوة ومشاعر الفقد، لكنها تأتي محاطة بنبرة ساخرة يصعب تفادي أثرها.
تحبك نوارة كل ما ترويه بلغة يومية تأتي من ميراثها الشخصي، فقد ورثت عن والدها القدرة على الكتابة بالعامية القحة من دون أن تفقد ثراء الاستعارة والمجاز الدالين على عمق انتسابها للخيال الشعبي الخصب. وأخذت من أمها كذلك مهارة الكتابة باقتصاد لغوي، يمكنها من التعبير بالخفة الجمالية التي ترتقي باللفظ العامي وتوجد له استعمالاً وظيفياً لا يحد من قدراته التعبيرية.
يعزز صفحات الكتاب الممتع، الطابع الفانتازي للشخصية المحورية فيه والتي عاشت حياة غرائبية تماماً. وعلى رغم طابعها العملي وتحايلها على قسوة الواقع بالحيلة والنكتة والسخرية، فإن إيمانها الفريد بقوة المعتقد الشعبي، وكرامات الأولياء يتجلى في طرق تبرر كل ما هو غير مألوف، وأبرزها مشاهد الهرب من الملاحقة الأمنية والاختباء والتخفي في بيوت، كانت معلومة من أجهزة الأمن. لكن الشاعر اطمأن دائماً للبديهة ولفطرة الناس وقدرتهم على الفرز، وبقدر ما هاجم نجم الحكام والسلاطين، فإنه امتدح فقراء الناس في تجربة تصفها نوارة بـ"قصة حب حقيقية منزهة عن الأغراض".