الشعبُ الفلسطيني، مثل كل الشعوب، يعشقُ الحياة، و يكرهُ الموتَ والدماءَ والدمارَ والعدوان. يكرهُ الغزاة، والمستبدين والفاسدين، والمتجبرين. ومثل كل شعبٍ تعرض لغزو إستعماري، تحرك أولا، سلمياً، وكتب العرائض، وتظاهر في الشوارع، تعبيراً عن رفض ما يفرض عليه من الخارج، قبل أن يُجبر لاحقا على اللجوء الى العنف الثوري، دفاعاً عن وجوده.
كان ذلك حتى أواخر العشرينات من القرن الماضي، عندما بدأ الحال يتغير ، إذ تمادت امبراطورية التوسع والتخريب، "بريطانيا العظمى" في مواصلة تنفيذ جريمتها عبر آداتها، الحركة الصهيونية، فى أرض فلسطين. تم تنفيذ هذا المشروع العدواني، باعتماد كل الارث الاستعماري الاستيطاني الاوروبي؛ أي المحو، والابادة، والتهجير، والاحلال.
كانت فلسطين، مثلها مثل بقية الاقطار العربي، ضحية التقسيم الاستعماري؛ البريطاني -الفرنسي . مع ذلك كانت بلادنا تتجه نحو الحداثة، والتطور، في التعليم والثقافة والفنون والصحافة، والزراعة والصناعة، غير أن المشروع الصهيوني إتسّع وتغول، وحصل على المزيد من الدعم الاستعماري، ليحقق تقدما في الإستيلاء على فلسطين، وليقطع مشروع الحداثة، وطريق الاستقلال. هذا الجانب الهام من حياة ومسيرة الشعب الفلسطيني، الحضارية والانسانية، جرى ويجري تغييبه في أكاديميات الغرب الاستعماري وفي الرواية الصهيونية. إن لجوء شعبنا إلى المقاومة منذ أواخر العشرينات من القرن الماضي، عبر اعتماد كافة اشكال المقاومة، لم يكن هدفه مقاومة الغزو والاستيلاء على الارض، فحسب، بل أيضا من أجل المضي في بناء مشروعه الحداثي، واللحاق بركب الدول المتقدمة مادياً وصناعياً وسياسياً. كل ذلك كان تعبيرا عن الرغبة في الحياة، الحرة الكريمة، في وطنٍ حرّ ومزدهر.
في الآونه الأخيرة، تشعر الصهيونية وأبواقها في الغرب، أن روايتها عن فلسطين، وأكاذيبها، وأساطيرها تتبدد، إذْ تعود فلسطين، في اوساط رسمية وشبه رسمية غربية، الى الواجهة، بروايتها، كونها هي الضحية وليس الصهاينه، وأن شعب فلسطين يخوض نضالا شرعيا من أجل حريته. وقد ساعد في ذلك ثلاثة عوامل أساسية؛ انبعاث حركة التضامن العالمية، الشعبية، مع الشعب الفلسطيني، وفي قلبها حركة المقاطعة التي تعتمد المقاومة المدنية، مسلحةٌ برؤية إنسانية، في مواجهة الايدلوجية الصهيونية المغلقة والعدوانية. الثاني؛ تعاظم وحشية إسرائيل ونزعتها الاجرامية، وإقدامها على مواصلة إنتهاكها للقوانين الدولية، وسن قوانين عنصرية سافرة، و تكثيف سياسات الطرد والتهجير والهدم، بحق كل الفلسطينيين، بما فيه الجزء الذي يعيش تحت المواطنة الإسرائيلية. الثالث؛ إنبعاث واتساع وتزايد وتيرة المقاومة، بأشكالها المختلفة. غير أنه بهذا الصدد، ساهمت الحراكات الشعبية المدنية، خاصة التي تجري في القدس في السنوات الاخيرة، ضد سياسات التهويد والهدم والتهويد، في تصدع صورة إسرائيل الدولية، ووضعت حلفاءها في حرجٍ دائم.
إن تصاعد المقاومة الشعبية في السنوات الاخيرة ، خاصة في الضفة الغربية والقدس ، ومشاركة فلسطينيي ال٤٨، الفاعلة، شكل عنصراً جديداً في مشهد الصراع. فقد كانت إسرائيل نجحت في تسويق قمعها الوحشي للانتفاضة الثانية المسلحةعام ٢٠٠٠، التي أوقعت فيها خسائر بشرية واقتصادية غير مسبوقة، على أنها فعل إرهابي وتخريبي مخطط، ضد ما يسمى بعملية السلام، وموجّهٌ الى أمن الكيان. غير أنه في السنوات اللاحقة، وبعد أن واصلت إسرائيل مشروعها الاستعماري الاسيطاني والجرائم المترافقة معه وشنها الحروب الدموية على قطاع غزة المحاصر، رغم خضوع سلطة رام الله لاسرائيل، عبر التعاون الامني والاقتصادي الكامل، بدأت عناصر المشهد في الواقع تتبدل، على المستوى الثقافي، والمستوى الميداني. على المستوى الثقافي، ومن خارج نخبة أوسلو، بدأت عودة واسعة للوعي والانكشاف على إفرازات أوسلو الكارثية، وبضرورة العودة الى جذور الصراع، وإعادة تعريف المشروع التحرري الفلسطيني، وإعادة موضعة إسرائيل في خانة انظمة الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري، بعد أن أخرجها اتفاق اوسلو منها. وعلى المستوى الميداني، نمت بذور الحراكات الشعبية الصدامية، وأتخذت صورة مبهرة في مدينة القدس وضواحيها والمسجد الاقصى.
لقد حققت هذه الحراكات انجازات معنوية وثقافية نوعية هامة، أي على صعيد استعادة الوعي، وبلورة اوساط شبابية وأهلية مناضلة . وقد ساهمت هذه الحراكات في لجم عدوانية اسرائيل في حالات معينة، ولكنها لم تتمكن ولاسباب موضوعية وذاتية كثيرة، من لجم عدوانيتها، واجبارها على إعادة النظر في مجمل سياساتها وممارساتها . بل أوصل مجتمهعا الاستيطاني المشبع بالكراهية والفوقية، وبالاساطير، الى الحكم حكومات اكثر تطرفا ووحشية وبهيميةً.
في هذا المناخ الدموي، وفي ظل مواصلة سلطة أوسلو التخابر مع المستعمر، والامعان في الفساد ، والامتناع عن اعتماد مقاومة شعبية مدنية منظمة وشاملة، وتوفير الحماية للشعب، ظهرت المجموعات المسلحة، كعرين الاسود، وغيرها، في جنين وغيرها من المدن الفلسطينية. و عكس ظهور هذه المجموعات مستوى الغضب الذي تراكم بين الاجيال الشابة بسبب وحشية إسرائيل و فساد وعجز وتواطؤ نظام اوسلو مع المستعمر .
و تقول التجارب الثورية، في ظروف مشابهة، أن هذه المجموعات الفدائية، التي تتميز بدرجة عالية من الاقدام والايمان، ليس وظيفتها تحرير الوطن، وليس بمقدورها القيام بذلك،إنّما المساهمة في خلق حالة ثورية شعبية واسعة ،مطلوبة في ظل ميزان القوى الراهن. نعم حراك شعبي واسع يمتد على طول الوطن من البحر النهر، وعلى طول وعرض بلاد الغرب، مع مراعاة خصوصية كل جزء من هذا الشعب .
على الارض، تبدو كل عناصر التفجير الشامل، والذي ولّدها المستعمر المتوحش، لكننا كشعب، مسؤولون عن كيفية تنظيم وتوجيه هذه الحراكات بحيث تنمو وتتسع، دون الوقوع في المغامرات المدمرة.
هذا هو التحدّي الكبير، والثقيل، الذي يقف أمام كل صانعٍ للحدث أو مؤثر في الحراكات التي لم تنتظم بعد، تحت غايةٍ واضحة واستراتيجيةٍ فاعلةٍ وحكيمة.
مع ذلك لقد باتَ واضحاً، أن وعياً عاماً يتشكلُ بأننا أمام مسيرة نضاليةٍ ممتدة، يختلطُ فيها الفعل الثوري مع التحدي، ومع الآلام، وأن من سيتبوّء طليعة هذه المسيرة هو جيلٌ جديد يتفتح الآن على واقع من الخيبات والاخفاقات، ولكنه واثقٌ من نفسه، يتصرّفُ بدافع الأمل وليس اليأس.