اختلف المحللون على تسمية هذه الأزمة التي لم يشهد التاريخ مثلها منذ خلق البشرية. فالغرب يسميها "الحرب على أوكرانيا"، والروس يطلقون عليها اسم "العملية العسكرية الخاصة"، ذلك أن إعلان الحرب يتطلب إعلان التعبئة العامة وإعلان حالة الطوارئ في البلاد. لذلك ظلت مظاهر الحياة منذ العام الماضي، تجري في عموم أراضي "الاتحاد الفيدرالي الروسي" بشكل طبيعي. ويطلق البعض عليها اسم "الحرب بالوكالة"، أي أن الطرف الأوكراني ما هو إلا قناع يقاتل به الغرب وأمريكا، روسيا البوتينية.
وآخرون يسمونها حربا عالمية تجري على الساحة الأوكرانية، وقد يكون الوصف الأخير هو الوصف الأدق تعبيرا عما يشهده العالم الآن.
ومع أن وصف هذه الحرب "بالعالمية"، يعني أن هناك إمكانية لاستخدام السلاح النووي، إلا أن هذا الخيار يظل مستبعدا من الطرف الغربي أي من "حلف الناتو". فأوكرانيا ليست بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا أو أي دولة من حلف الناتو تجري على أراضيها عملية عسكرية، خاصة كانت أو عامة.
ويشير الكثيرون من المحللين، إلى أن روسيا لن تسمح لنفسها ولجيشها بالهزيمة العسكرية حتى وإن أدى ذلك إلى استخدام السلاح النووي وتدمير العالم كله فوق رؤوسهم ورؤوسنا أيضا.
كما أن "القيادة البوتينية" التي أعادت الكرامة والعزة والرخاء لشعبها، لن تسمح لنفسها ولشعبها بالعودة إلى سنوات الذل والمهانة والضياع، أو إلى سنوات "روسيا اليلتسينية"، مهما بلغ الثمن. خاصة أنهم نجحوا عام 2008، في تحييد جارتهم الجنوبية، جمهورية جورجيا، من انضمامها إلى الناتو، حين وصلت القوات الروسية مشارف العاصمة "تبيلسي"، علما أن القدرات العسكرية الروسية في ذاك الوقت، لا يمكن مقارنتها بترسانتها اليوم. لذلك، فهي لن ترضى بإنهاء عمليتها العسكرية الخاصة إلا بتحقيق كامل أهدافها، بتحييد أوكرانيا وعدم انضمامها إلى حلف الناتو، والاعتراف الأوكراني بضم المقاطعات الأربع إلى روسيا.
أما الاعتراف "بالقرم" فهو أمر لا نقاش فيه.
والحقيقة أن البشرية لم تشهد حربا بأبعادها المختلفة، العسكرية والاقتصادية والإعلامية، كما نشهدها الآن.
**فالحرب الإعلامية ومنذ اليوم الأول لانطلاق العملية العسكرية الروسية، ظلت تحت التأثير المطلق للرواية الغربية، التي تسيطر على الإعلام العالمي بقوة وذكاء، والتي تنادي بتطبيق مبادئ وميثاق الأمم المتحدة بعدم احتلال أراضي الغير بالقوة، وحق الشعوب في تقرير المصير وضرورة انسحاب القوات المحتلة دون قيد أو شرط ورفض التغيير الديمغرافي للأراضي المحتلة. تلك الشعارات والمبادئ التي ظلت "تكال بمكيالين" طيلة عقود من السنين. وهو ما يجعل العارف أو (السامع) بمشكلة الشعب الفلسطيني، يشكك بمصداقية أصحاب الرواية. كما أن العالم كله، يعلم تماما أن أميركا شنت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم "مائة" 100 حرب!، وجميعها على بعد آلاف الكيلومترات من أراضيها!
لذلك، فإن من يتكلم عن المثل والمبادئ العليا ويدفع بمئات المليارات من الدولارات ويرسل أحدث الأسلحة والتقنيات لصد الغازي في أوكرانيا، وجب عليه القيام بمثل هذا الدعم والمسلكيات، مع كل الشعوب التي تناضل ضد الغزاة وضد الاحتلال، وإلا فإن هذه الرواية لن تنطلي على أحد.
أما الحديث عن حرية الرأي وحرية الكلمة التي ينادي بها الغرب، فقد تجلت في إغلاق المكاتب الإعلامية للطرف الآخر في الأيام الأولى من الحرب منعا لنشر الرواية الروسية التي تقول، إن الحكومة الأوكرانية بدأت الحرب على المدنيين العزل في الدونباس ولوجانسك منذ العام 2014 (غالبية السكان "8 مليون" من أصل روسي يتكلمون اللغة الروسية). وأن أوكرانيا كانت تعد العدة لتكون "نقطة انطلاق" حرب الناتو على روسيا، وأن ما جرى من اتفاقيات سلام بين موسكو وكييف، كان من أجل كسب الوقت والاستعداد لدخول أوكرانيا حلف الناتو، وهو ما كان الكرملين يعلمه تماما، لا بل إن قادة الغرب اعترفوا بأن ما كان يجري من اتفاقيات بين روسيا وأوكرانيا لوقف الاقتتال، ما هو إلا "كسبٌ للوقت" لتقوية التحضيرات والاستعدادات العسكرية للانقضاض على تلك المقاطعات وعلى شبه جزيرة القرم أيضا.
** أما الحرب الاقتصادية، فقد بدأت بعد ساعات قليلة من الحرب، عندما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، أنه سيجعل الدولار الواحد يساوي 200 روبل! (سعر الدولار عند بداية الحرب كان 78 روبل مقابل 1 دولار)! ليصل سعره في ذاك اليوم إلى 178 روبل!.
ومع أن الاتحاد السوفيتي الذي كان 60% من اقتصاده يعتمد على تصدير الغاز والنفط الروسيين، الذي كان يزود جميع الجمهوريات السوفيتية الأربعة عشر بالنفط والغاز (ومنها أوكرانيا)، إضافة إلى تزويده جميع الدول الاشتراكية (بولندا، ألمانيا الشرقية، المجر، التشيك وسلوفاكيا، ورومانيا وبلغاريا ومنغوليا وكوبا وفيتنام، كوريا الشمالية) بأبخس الأسعار، إلا أن ذلك لم يشفع له بسقوط عملته "الروبل" لتصل إلى 500 روبل مقابل الدولار الواحد، وسط تخبط اقتصادي وتفكك حزب الدولة الحاكم.
أضف إلى ذلك، الدور الذي قام به العدو الأيديولوجي الأول للدولة السوفيتية، حين قامت المملكة العربية السعودية بإغراق الأسواق العالمية بالنفط، حتى هبط سعر برميل النفط، من 120 دولارا.. إلى 8 دولارات فقط!.
وكذلك كان الحال مع أسعار الغاز الروسي.
وأصبح جليا للعيان أن انهيار تلك الدولة الشيوعية وحلفها العسكري (حلف وارسو) ومنظومتها الاشتراكية قد أصبح قاب قوسين أو أدنى.
وسقط الاتحاد السوفيتي الذي كان في ترسانته المسلحة، 30 ألف رأس نووي مقابل 27 ألف رأس نووي لحلف الناتو، دون إطلاق رصاصة واحدة.
وفهم الوطنيون الروس ومنهم فلاديمير بوتين، أن سر قوتهم في المستقبل، ما هو إلا"سر ضعفهم" الآن، وأن روسيا لن تكون قوية عسكريا، إلا بقوة اقتصادها وتحالفاتها.
وكان على القيادة البوتينية، منذ استلامها السلطة في اليوم الأول من هذا القرن، أن تدرس طوال السنين الماضية إمكانية أن تأتي أوروبا يوما من الأيام تقاطع فيه هذين المنتجين الاستراتيجيين.
وبدأ فلاديمير بوتين بإنشاء تحالفات دولية اقتصادية، متجها إلى الشرق وإلى الصين أولا، وتم تأسيس (معاهدة شنغهاي، معاهدة بركس، منظمة آسيان). تلك التحالفات التي أدت دورها الإيجابي في اليوم واللحظة المناسبتين، وكأنها تحالفات بيضاء… .للأيام السوداء.
وهكذا، ومع بداية العملية العسكرية الروسية، وفور إعلان الدول الغربية، وقف التعامل المالي المباشر مع روسيا (نظام سويفت المالي)، أعلنت الحكومة الروسية قرارها الاقتصادي المفاجئ بإعلان بيعها لنفطها وغازها بالروبل فقط، ليتراجع سعر الدولار الواحد من 178 روبل مقابل الدولار الواحد، إلى 46 روبل فقط!، أضف إلى ذلك، موقف ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير "محمد بن سلمان"، الذي فاجأ العالم كله برفض بلاده ورفض "منظمة أوبك+" زيادة إنتاجها من النفط، تعويضا عن النفط الروسي.
ثم أعلنت "أوبك+" بعد ذلك، قرارها الصاعق بتخفيض 2 مليون برميل من إنتاجها اليومي، وهو ما أدى إلى عدم انهيار أسعار النفط العالمية وصمود سعر النفط الروسي واقتصاد البلاد الروسية.
ومع بداية العام 2023، جاءت الجلبة العاشرة من سلسلة العقوبات الأميركية والأوروبية ضد روسيا، بتحديد سقف سعر برميل النفط الروسي بـ 60$، أملا في كساد الإنتاج النفطي الروسي، لتفاجئ روسيا العالم كله بخفض 500 ألف برميل من إنتاجها اليومي، وهو ما أدى إلى زيادة سعر برميل النفط في العالم كله، وزيادة أرباح الدول المنتجة.
ثم جاء إعلان الأمير "محمد بن سلمان"، عن رفضه زيادة إنتاج كميات النفط السعودي. وهو ما يعني زيادة سعر النفط عالميا، وبالتالي زيادة الضغط على المستهلك وخصوصا المستهلك الأوروبي. أضف إلى ذلك أن روسيا ظلت تبيع نفطها بأسعار تشجيعية ومنافسة إلى دول معاهدات (بركس وشنغهاي وآسيان) وخاصة الصين والهند، وحتى إلى بعض الدول الأوروبية بطريق غير مباشر.
وبدا موقف الصين من حرب تحرير العالم من القطبية الأُحادية أكثر وضوحا وتقربا من روسيا البوتينية.
وتحولت العلاقة بين البلدين من "علاقة بلا حدود"، إلى "علاقة تحالف"، التي تحيطها المصلحة المشتركة بإنهاء سياسة حكم وعربدة "القطب الواحد"، كما أن حجم التبادل التجاري بين الدولتين يسير في نمو سريع وتصاعد عمودي، حتى أن حجم التبادل التجاري بين الصين وروسيا ارتفع في العام 2022 من 140 مليار دولار إلى أكثر من 200 مليار دولار، قابلا للمضاعفات، ليظهر هذا التحالف من بعيد، وكأن الصين هي الدرع الاقتصادي لروسيا، وأن روسيا هي الدرع العسكري للصين.
ومع أن الاقتصاد الروسي لا يمكن مقارنته بجبروت الاقتصاد الأميركي والأوروبي، إلا أنه اقتصاد واسع ومتنوع، يتمتع "بالاكتفاء الذاتي"، الذي ينسجم تماما مع طبيعة ووطنية الشعوب الروسية.
لذلك، جاءت سلاسل وحزم العقوبات الاقتصادية والرياضية والطبية والزراعية والصناعية ووو، ضد روسيا (حوالي 15 ألف عقوبة)، أقل تأثيرا على الاقتصاد الروسي مما توقع الغرب. لا بل على العكس، فقد سجل الاقتصاد الروسي لعام 2022، أدنى مستوى بطالة في تاريخ روسيا كلها، وهو ما يعني أن كل تلك العقوبات، لم تستطع تحطيمه.
وتشير التقارير أن نسبة انكماش الاقتصاد الروسي في العام الماضي بلغت 2 % فقط!، وهي نسبة لا تقارن بالانكماشات الاقتصادية التي هزت دول أوروبا في العام نفسه.
ومع أن استنزاف روسيا، هو "هدف الناتو" في حرب الدفاع عن أوكرانيا، إلا أن الخاسرين الأكبرين، في هذه "الحرب العالمية" التي تقطعت فيها كل الخطوط الحمراء! باستثناء الخط النووي الأحمر، هما (أوكرانيا وأوروبا).
فأوكرانيا التي كان عدد سكانها قبل عام واحد فقط، 45 مليون إنسان، أصبح عدد سكانها الآن أكثر من النصف بقليل، بعد أن وصل عدد اللاجئين الأوكرانيين (رسميا!) في دول العالم المختلفة إلى أكثر من 10 مليون لاجئ، أضف إلى ذلك أن عدد سكان المقاطعات الشرقية التي انضمت إلى روسيا يتراوح من 10-8 مليون مواطن أوكراني!.
كما أن أوكرانيا خسرت المقاطعات الشرقية الأربعة، والتي تبلغ مساحتها أكثر من 20% من مساحة أوكرانيا، وهي الأراضي الأكثر ثروة من الفحم الحجري في العالم كله. كما أن "خيرسون" هي عاصمة صناعة السفن. أضف إلى ذلك، مناجم الملح الشاسعة، الواقعة فوق وتحت مدينة سوليدار التي سيطر عليها الروس مؤخرا بعد معارك طاحنة، والتي تكفي كمياتها العالم كله لسنوات. كما أن بحر "أزوف" أصبح بحيرة روسية مغلقة بعد سقوط ميناء ماريوبل. وتقدر خيرات المقاطعات الأربع هذه بـ 12 تريليون دولار، وهو ما يكفي لتعويض تكاليف "العملية العسكرية الروسية" حتى لو امتد النزاع لسنوات أخرى!
وهكذا، فإن أوكرانيا هي الخاسر الأول في هذه الحرب العالمية
ومع أن أوروبا اضطرت إلى صرف 700 مليار يورو لبناء محطات مائية لاستقبال الغاز الأميركي بديلا عن الغاز الروسي، وهو ما جعل سعر لتر الغاز الواحد، أغلى بـ 4 مرات من سعر الغاز الروسي الذي كان يصل من سيبيريا مباشرة عبر الأنابيب (وهو ما اشتكى منه الرئيس الفرنسي ماكرون علانية في خطاب له قبل أشهر قليلة).
أضف إلى ذلك أن الاتحاد الأوروبي قدم في العام الماضي، ما يقارب من 96 مليار يورو كمساعدات إلى أوكرانيا.
وفي ظل عدم وجود "شارل ديغول" في أوروبا كلها، فقد أعلنت الكثير من الدول الأوروبية عن زيادة حصة وزارات دفاعها من الميزانيات القادمة، (خصصت ألمانيا 100 مليار يورو)، وحتى الدول التي كانت حيادية مثل السويد وفنلندا والنمسا، أعلنت اليوم عن زيادات هائلة في ميزانيات وزارات دفاعها ورغبتهم في الانضمام إلى حلف الناتو.
كما أن عاصمة النور، باريس، أصبحت تطفئ أنوار برج إيفل الجميل بعد ساعات معينة في الليل. وكذلك، فإن الأضواء يتم إطفاؤها في المباني الحكومية والعامة في كل العواصم والمدن الأوروبية، بعد أن كانت تضاء ليلا ونهارا، بعد أن صارت الدولة والمواطن يشكوان من ارتفاع أسعار الطاقة بعد مقاطعتهم لمصدرها الروسي والرئيسي.
وأصبحت المدن الأوروبية تقنن الكهرباء ليلا ونهارا، فتدفئة البيوت والمؤسسات والمحلات الكبرى والصغرى في أوروبا أصبحت مقيدة بأوقات ودرجات حرارة معينة. وكل ذلك يتم على حساب ورفاهية المواطن الأوروبي الذي اعتاد على الرفاهية طيلة عقود من القرون.
ولأن حس الرأي العام الأوروبي عال جدا، فقد شهدت "القارة العجوز"، خلال العام الماضي تغيير الكثير من رؤساء وزرائها ووزرائها أيضا، كما شهدت شوارع المدن الأوروبية العشرات من المظاهرات والاحتجاجات نتيجة إغلاق المئات من المصانع وزيادة أسعار الطاقة والأغذية وارتفاع أسعار السكن والبيوت، إضافة إلى وجود أكثر من 10 مليون لاجئ أوكراني فوق أراضيها.
وإن كانت العقوبات الاقتصادية قد أثرت على الكثير من أوجه القطاعات الاقتصادية المختلفة في روسيا، إلا أن الحياة هناك لا تزال عادية جدا، إذ أن الحكومة الروسية تقوم بدعم وتشجيع الاستثمارات الوطنية وتقديم التسهيلات والقروض البنكية للشركات وللأفراد، من أجل بناء المصانع والفنادق والبيوت، بفوائد لا تذكر. وأصبح توجه "الأغنياء الروس" بعد اليوم هو الاستثمار داخل بلادهم بعد أن قامت الكثير من الدول الأوروبية بمصادرة كل الأصول الروسية سواء كانت حكومية أو لأشخاص أغنياء، وهو ما سيحث لاحقا أصحاب رأس المال على الاستثمار في بلادهم.
**أما الوجه العسكري لهذه الحرب العالمية، فالجيش الأوكراني لا زال يقاتل بالوكالة أو بالنيابة عن الولايات المتحدة وحلف الناتو، وهو ما اعترف به القادة الأوكرانيون بأنفسهم، بأنهم يدافعون عن أوروبا من الخطر الروسي.
ومع أن عدد ضحايا هذا النزاع بلغ حتى اليوم أكثر من 200- 250 ألف جندي أوكراني، والتي تقول المصادر الغربية إن 10 جنود أوكرانيون يلقون مصرعهم مقابل جندي روسي واحد. فالروس يطلقون "أسبوعيا" 20 ألف قذيفة مقابل مقابل 7 آلاف قذيفة يطلقها الأوكرانيون.
ومع أن العالم فوجئ في بداية الحرب، بتقدم سريع للقوات الروسية، التي كان تعدادها 90 ألف جندي إضافة إلى 40 ألف متطوع من سكان المقاطعات الأربع في دونباس قبل أن ينضم إليهم 20 ألف مقاتل شيشاني، والذين وصلوا إلى مشارف العاصمة "كييف" ليتم حصارهم قبل أن يوافق الطرفان على الوساطة التركية، ومن ثم إجراء المباحثات في إسطنبول، والتي اشترطت انسحاب القوات الروسية من ضواحي "كييف" مقابل ضمان حياد أوكرانيا ومنح الحكم الذاتي لمناطق الدونباس ليتم بعدها إجراء استفتاء شعبي.
وظهر وكأن العملية العسكرية قد انتهت.
وفجأة، أعلن الطرف الأوكراني انسحابه من مباحثات إسطنبول! وفهم الروس أن الخديعة قد انطلت عليهم.
ومع أن انسحابات الجيش الروسي من ضواحي (كييف، وزابوروجيه، وخاركوف) ظهرت كهزيمة عسكرية نكراء للجيش الروسي، إلا أن "الحرب كرٌ وفر وخديعة".
ومع قلة أعداد الجيش الروسي، مقارنة بأعداد الجيش الأوكراني (600 ألف جندي)، وضخامة المساعدات الأميركية العسكرية اللامحدودة، التي بدأت تتدفق على الجيش الأوكراني مباشرة من مستودعات دول الناتو، بعد فتح مخازن وصوامع الأسلحة الأحدث في قواعد الناتو المنتشرة في أوروبا على مصراعيها، وإرسال أحدث الصواريخ المضادة للطائرات والدبابات والدروع والمدرعات، وتزويد الجيش الأوكراني بأحدث طائرات الـ "درون"، إضافة إلى تقديم أحدث وسائل الاتصالات والمراقبة الإلكترونية المرتبطة بالأقمار الصناعية الأميركية. ويؤكد الروس أن المستشارين العسكريين من دول الناتو يعملون من داخل الأراضي الأوكرانية.
ووصل حجم المساعدات الأميركية والأوروبية خلال عام واحد إلى ما يقارب 220 مليار دولار، علما أن إسحق شامير كان قد غير سياسته الاستيطانية مقابل ضمانات أميركية كانت لا تتعدى الـ 10 مليارات من الدولارات.
وفهمت القيادة الروسية "الدرس"، وبأن حربها ليست مع الجيش الأوكراني وحده، لا بل إنها تحارب حلف الناتو ومعه 51 دولة تسير في فلكه بعد أن "لبسوا" قناع الجيش الأوكراني.
والعارف بتاريخ روسيا يعلم تمام المعرفة، أن الروس دائما عندما يحاربون.. ينهزمون.. ثم ينهزمون.. ثم ينتصرون وبقوة!
فقد احتل "نابليون بونابرت" موسكو عام 1812 وأحرقها، ثم قام الروس بدحره حتى وصلوا بجيوشهم إلى "باريس"، ليقوموا بعدها بنفيه إلى جزيرة سانت هيلان. وكذلك الحال كان مع "أدولف هتلر" الذي وصلت جيوشه عام 1942 إلى مشارف موسكو ليتم بعدها دحره حتى برلين وتدمير الرايخستاج النازي فوق رأسه وفوق رؤوس النازيين.
ومع استدعاء 300 ألف جندي روسي للخدمة العسكرية، وتغيير القيادات العسكرية في الجبهة الأوكرانية، بدا جليا أن الروس قد استخلصوا العبر.
واشتعلت المعارك بين الجانبين بعد التفجير الجزئي لجسر القرم "كيرتش"، لتدخل الحرب في أوكرانيا منعطفا أكثر دموية وشراسة وذلك بعد أمطار المدن الأوكرانية بمئات الصواريخ، بهدف تدمير محطات الطاقة ومصادر الكهرباء.
ولأن الطائرات والمطارات العسكرية الأوكرانية، قد تم تدميرها فقد سيطر الروس على السماء الأوكرانية منذ بداية الحرب، إلا أن الصواريخ المضادة للطائرات جعلت من الصعوبة على الطيران الروسي التحليق بحرية فوق كل الأراضي الأوكرانية، ومع ذلك اضطر الرئيس الأميركي "جو بايدن" إلى الوصول بالقطار "بعد أكثر من 9 ساعات سفر"، إلى العاصمة "كييف" في الذكرى الأولى للحرب، بعد أن رفضت موسكو السماح للطائرة الرئاسية الأميركية بالتحليق فوق سماء أوكرانيا.
ويعتقد الكثيرون من المحللين العسكريين أن الحرب ومهما طالت، فإن قدر أوكرانيا أصبح محتوما.
فحدودها الجغرافية لن تعود كما كانت عليه قبل يوم 24 شباط 2022، كما أن اقتصادها قد خسر أكثر من 40% من الدخل القومي وإلى الأبد. ناهيك عن مئات المليارات من الدولارات التي تحتاجها إلى إعادة بناء البلد (تقدر ب 400 مليار $- حتى اليوم!).
ويقال، إنه وبعد انتهاء أي حرب عالمية.. تظهر قوى "عظمى" جديدة، وتختفي أخرى!
* فبعد الحرب العالمية الأولى ظهرت الولايات المتحدة كقوى عظمى بعد انهيار الإمبراطوريات الروسية والألمانية والنمساوية وغيرها
* وبعد الحرب العالمية الثانية، ظهر الاتحاد السوفيتي بجانب الولايات المتحدة بعد اختفاء إمبراطورية الرايخ وتصدع الإمبراطوريات اليابانية والبريطانية والفرنسية.
*وبعد انتهاء "الحرب العالمية الباردة"، (التي لم تطلق فيها رصاصة واحدة)، واختفاء الاتحاد السوفيتي، صارت الولايات المتحدة الأميركية تسمى بـ"القوى العظمى" بدل أن كانت تسمى "قوة عظمى".
*وفي صباح يوم 24 شباط 2022، استفاق العالم على "روسيا البوتينية" التي أعلنت رفضها المطلق لسياسة "القطب الواحد الأميركية"، لينشب صراع لم يشهد العالم مثله من قبل.
ومع انتهاء العام الأول من هذه الأزمة التي ألقت بظلالها وتأثيراتها على كل دول العالم، بدا واضحا أن لا إمكانية للمفاوضات بين الطرفين!
أي أنه، لا سلام دون كسب الحرب!
والحقيقة أن مجريات الحرب في عامها الأول، قد تطورت وتشعبت، وأصبحت لا تتعلق بمسألة الحدود بين روسيا وأكرانيا، أو حتى بنشر قوات الناتو على الأراضي الأوكرانية، لا بل إن الصراع الآن يدور حول، هل سيبقى العالم تحت "نظام أُحادي القطبية"، أم أننا متجهون نحو "نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب"؟
والسؤال هو:-
بمعنى آخر:-
وهذا يعني.. ظهور قيادة أوكرانية جديدة، تستطيع عقد "معاهدة سلام" مع روسيا البوتينية، التي لن تتزحزح عن مطالبها وإنجازاتها وشروطها، ريثما يتم التحضير لمعركة اخرى ضد "روسيا البوتينية" في مكان آخر.. ولو بعد سنين.