"هارمجدون"، كلمة عبرية مؤلفة من كلمتين: هار بمعنى تل، و"مجدو" مدينة كنعانية تقع في مرج ابن عامر شمالي فلسطين، يعود تاريخها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، وبحسب التلمود فإن اليهود وقبل انتصارهم الكامل والنهائي، لا بد من قيام حربٍ بين الأمم يهلك خلالها ثلثا العالم. وتناول سفر "الرؤيا" أسطورة المعركة التاريخية والنهائية هذه، وجاء فيه: "لقد شهد هذا المكان عدة حروبٍ ودمرت المدينة، وأعيد بناؤها في غضون عشرين عاماً، وكانت إحدى أهم مدن سليمان والملك أخاب، وستشهد يوم حساب الرب لهذا العالم"، فاليهود يعتقدون أن معركة دامية وفاصلة ستحدث ما بين الأخيار اليهود و"الأغيار" الأشرارغير اليهود، في سهل مجدو.
وتؤمن الصهيونية المسيحية خاصة في الولايات المتحدة، التي ينحدر أفرادها من الكنائس البروتستانتية الأصولية، بأن قيام إسرائيل عام 1948 تتمم نبؤات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وتشكل المقدمة لمجيء المسيح الثاني إلى الأرض كملكٍ منتصر، كما أن حرب حزيران عام 1967 كانت بالنسبة لهم أشبه بمعجزة إلهية، لتمكن اليهود فيها من هزيمة عدة جيوش عربية، وإحكام الدولة العبرية خلالها من سيطرتها على بقية أراضي فلسطين التاريخية، بما فيها القدس الشرقية أماكنها الدينية المقدسة، وبهذا تحققت نبوءة الكتاب المقدس.
وكشفت الباحثة الأمريكية فيكتوريا كلارك في كتابها "حلفاء معركة هارمجدون وبروز المسيحية الصهيونية"، أن الفكر اللاهوتي عمق الإرتباط الوجودي بين المسيحية الصهيونية وقادة إسرائيل، على أساس أن إسرائيل تتحمل عبء توفير الشروط التاريخية لاندلاع معركة هارمجدون، وعودة الجميع إلى "واحة" المسيح، وتتمثل العقيدة السياسية لهذا التحالف في "نفخ مزمار الحرب" والسيطرة على العالم، مما ساعد على تشكيل توجهات السياسة الخارجية الأمريكية وانحيازها الدائم لإسرائيل، فيما يعتقد القادة المسيحيين الصهاينه في أمريكا مثل فولويل وهولنسي، وبات روبارتسون وغيرهم أن الكتاب المقدس يتنبأ بالعودة الحتمية الثانية للمسيح بعد نشوب الحرب النووية العالمية، أو وقوع الكوارث الطبيعيّة والانهيار الاقتصادي والفوضى الاجتماعية في العالم.
ويعد كتاب "إجبار يد الله: لماذا تضحي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل" للكاتبة الأمريكية غريس هالسل أهم ما صدر في الشأن الديني الأمريكي، عالجت فيه بإقتدار قضية التوظيف السياسي الذي يصل إلى حد الابتزاز، للنبوءات الدينية بعد إقامة إسرائيل عام 1948، وتتصدى فيه لظاهرة "المنصرين التوراتيين" التلفزيونيين والإذاعيين، التي تجسد أغرب وأسوأ أشكال الدجل السياسي الديني، ربما على مستوى العالم كله، والتي صنعها عدد من المنصرين، الذين احترفوا تقديم برامج تلفزيونية وإذاعية عن النبوءات التوراتية، ومنها أسطورة "هارمجدون"، واستطاعوا من خلال نشاطهم، الذي يعد أكبر وأهم حركة تنصير في تاريخ المسيحية، إقامة ما يعرف بـ "حزام التوراة"، المكون من مجموعة ولايات الجنوب والوسط الأمريكي، التي تعيش فيها قطاعات واسعة من المسيحيين المتشددين دينيا، والمؤمنين بأسطورة الـ (هارمجدون).
ويعتمد خطاب هؤلاء المنصرين التوراتيين على رؤية مفادها، أن العالم أصبح تملؤه الشروروالخطايا، ما سيعجل بظهور"المسيح الدجال" وجيوش الشر، ولن يكون هناك حل لإنقاذ البشرية والخلاص من الشرور، إلا بعودة المسيح المخلص لانتزاع المسيحيين المؤمنين من هذا العالم المليء بالخطيئة والشر، وهذا الخلاص رهن بعودة المسيح فقط، أما المطلوب عمله من هؤلاء المؤمنين وأنصارهم فهو السعي لتحقق هذه النبوءة أو الإسراع بإجبار يد الله لتحقيق "النبوءة" بدعم إسرائيل كما تقول غريس هالسل !..
ووفقا للمنصرين التوراتيين فإنه من أجل أن تتحقق النبوءة، لا بد من قيام إسرائيل الكبرى وتجميع كل يهود العالم فيها، ومن ثم لا بد من تقديم وحشد كل التأييد المادي والمعنوي، المطلق وغير المحدود أو المشروط لإسرائيل، لأن ذلك هو الشرط لنزول المسيح المخلص، الا أن هذا التأييد لا يعني الإيمان باليهود أو التعاطف معهم، لأن هؤلاء التوراتيين يعتقدون بأن المسيح المخلص سيقضي على جميع اليهود أتباع المسيح الدجال، الذين سيرفضون الإيمان به، أي أنهم يدعمون اسرائيل باعتبارها وسيلة لتحقيق النبوءة فقط.
إن إيمان المسيحيين الصهاينة الأمريكيين بإسطورة "هارمجدون" تلقفته الصهيونية ومجموعات الضغط اليهودية في الولايات المتحدة، للحصول على كافة أشكال الدعم المالي والعسكري والتأييد السياسي لإسرائيل، دون أن يعنيهم محبة اليمين المسيحي الأمريكي المتطرف أو إيمانه بهم، بقدر ما يعنيهم ما يدره عليهم الإيمان بهذه الأسطورة من الدعم الغير محدود.
إن إسرائيل ليست المستفيدة فقط من هذه الأسطورة، فهناك اقتصاديات ضخمة تقوم عليها في الولايات المتحدة، تدرمليارات الدولارات سنويا على نجوم التنصير التوراتي، الذين يمتلكون عشرات المحطات التلفزيونية والإذاعية في أمريكا وأنحاء العالم. وتعد برامج هؤلاء المنصرين التوراتيين من أمثال هالويل، وجيري فالويل، وتشارلز تايلور، وبول كراوسي، من أكثر البرامج مشاهدة وإستماعا، لا سيما في اوساط الطبقة الوسطى الأمريكية، هذا بالإضافة للكتب الصادرة المتعلقة بها التي تباع كالخبز والحليب، حتى أن كتاب "الكرة الأرضية العظيمة المأسوف عليها" للمنصر التوراتي "هول ليفدسي" هو ثاني اكثر الكتب انتشارا في امريكا بعد الإنجيل.