الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"الإنسان المرتخي" لـ جيل ليبوفتسكي

2023-03-07 02:52:02 PM
جيل ليبوفتسكي

الحدث- ثقافات

ننشرُ فيما يلي مقتطفاً من كتاب عالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفتسكي بعنوان "عصر الفراغ: الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة" حول "الإنسان المُرتَخي". وبحسب الكاتب فإن "الإنسان المرتخي" هو ذلك الذي يتجاوز كلّ القِيَمِ والواجبات التي كانت بمثابة حدود ترسم أفعاله، وتحدّد مساراته في الحياة. فالوضع الذي آل إليه المجتمع المعاصر بفعل صيرورة النزعة الفردية، وهيمنة النزعة النيوليبرالية وطغيان مبدأ السوق وسيطرة النموذج الاستهلاكي على الحياة الإنسانية، إنما يؤكد على بروز نوع من الإنسانية يسميه لبوفتسكي "بالإنسان المرتخي".

المقتطف التالي هو من الفصل الثاني من الكتاب، والذي يحمل عنوان "قمة اللامبالاة".

وفيما يلي النص:

قمة اللامبالاة أن يعيش الإنسان بلا هدف ولا معنى، في زمن الإبهار والإغراء تتلاشى التناقضات الصلبة، بين الحقيقي والمزيف، وبين الجميل والقبيح، وبين الواقع والوهم، وبين المعنى واللامعنى، وتصبح المتضادات "عائمة". صار بإمكان الإنسان أن يعيش بلا هدف ولا معنى في تعاقب وميضي، وهذا شيء مستجد، فقد سبق لنيتشه أن صرح بأنّ أي معنى كائناً ما كان يبقى أفضل من غياب المعنى كلياً، وحتى هذا لم يعد صحيحاً اليوم، ولم تعد هنالك حاجة إلى المعنى، ويمكن للإنسان أن يعيش دون اكتراث للمعنى، دون شجو ولا إحباط ولا تطلع إلى قيم جديدة، وهذا في نظر الكثير من الدارسين هو قمة اللامبالاة.

ظاهرة اللامبالاة تبرز بوضوح أكبر في ميدان التعليم حيث تلاشت هيبة المدرسين وسلطتهم

ظاهرة اللامبالاة تبرز بوضوح أكبر في ميدان التعليم حيث تلاشت هيبة المدرسين وسلطتهم بشكل كامل في غضون بضع سنوات وبسرعة خاطفة، حيث أصبح خطاب المعلم الآن منزوع القداسة ومبتذلا، وعلى قدم المساواة مع خطاب الإعلام، وأصبح التعليم آلة تم تحييدها بسبب الفتور المدرسي الذي يظهر من خلال الاهتمام المشتت والارتياب غير المتحرج تجاه المعرفة.

يريد الإنسان أن يعيش الحاضر ولا شيء غيره، ولم يعد يرغب أن يعيش وفقاً للماضي والمستقبل، ففقدان معنى الاستمرارية التاريخية هذا، وتآكل الإحساس بالانتماء إلى سلسلة من الأجيال المتجذرة في الماضي والممتدة في المستقبل هو الذي يميز المجتمع النرجسي ويخرجه إلى الوجود. إننا نعيش الآن من أجل أنفسنا، دون الاكتراث لتقاليدنا ولا لمآلنا، لقد هجر المعنى التاريخي كما سبق، وهجرت القيم والمؤسسات الاجتماعية.

النرجسية وعي جديد للغاية وبنية عضوية في الشخصية ما بعد الحداثية

فالنرجسية إذن وعي جديد للغاية وبنية عضوية في الشخصية ما بعد الحداثية، لذلك يتحتم أن نتصورها كنتيجة لعملية شاملة تنظم السير الاجتماعي، فالشخصية الجديدة للفرد تدعو إلى الاعتقاد بأن النرجسية لا يمكن أن تنتج عن مجموعة متفرقة من الأحداث المؤقتة، وإن كان ذلك مصاحباً بشكل سحري للوعي. لقد ظهرت النرجسية في الواقع من الهجر المعمم للقيم والغايات الاجتماعية، والراجع إلى عملية الشخصنة.

ولقد صاحب هذه النرجسية ظهور ما يمكن أن نصطلح عليه بـ"الفراغ" أو "القنوط الجديد" الذي أصاب عدداً متزايداً من الذوات. ويبدو أن اتفاق الاختصاصيين حول هذه النقطة هو عام؛ إذ إن الاضطرابات النرجسية هي التي تشكل الجزء الأكبر من الأمراض النفسية التي يعالجها المتخصصون في السنوات الأخيرة، في حين أن الاضطرابات العصبية "التقليدية" مثل الهستيريا والخوف والهوس التي قام عليها التحليل النفسي لم تعد تمثل الشكل الرائج للأعراض، فالاضطرابات النرجسية تكون أعراضها واضحة ومحددة تظهر على شكل شعور بالضيق يتفشى ويجتاح الإنسان، وإحساس بالفراغ الداخلي، وبعبثية الحياة، وعجز عن الإحساس بالأشياء والكائنات.