السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

وطن الشهيد: من يُنسبُ إلى الآخر؟

2023-03-08 06:56:52 AM
وطن الشهيد: من يُنسبُ إلى الآخر؟
رولا سرحان

 

عندما كتب الشاعر والثوري الفلسطيني، برهان الدين العبوشي، مسرحيته "وطن الشهيد" عام 1947، كانت قد تبدت له معالم وواقع حال فلسطين. فما بين تآمر الدول الغربية مع الحركة الصهيونية على استعمار فلسطين، إلى توجيه نقده للقيادات العربية، كما نقد القيادات الفلسطينية حينها، قدم العبوشي سردية تأريخية بلغة شعرية رفيعة. لكنه بالأساس، كان يريدُ، من بين كل ذلك، أن يقف وقفة تطول أمام الشهيد في وطنٍ تتم نسبتُه إليه؛ أي نسبة الوطن للشهيد. بلاغةُ العبوشي في مسرحيته، ابتداء من العنوان، تجعلنا نقفُ حائرين أمام سؤال جدلي: من يُنسبُ إلى الآخر، هل ينسب الشهيدُ إلى الوطن أم يُنسبُ الوطنُ إلى الشهيد؟ ومتى يُنسبُ أحدهما للآخر؟

 يقدم العبوشي في مسرحيته أجواء مفعمة بالبطولة رغم الخذلان، في إصرارٍ على الدفع باتجاه فكرة المقاومة، والمواجهة مع العدو، باعتبار أنها الثقافة الأساسية، بل الوحيدة في ظل قيادات يقول فيها إنها "لم تسهر على ثقافة الشعب وهدايته وإرشاده" فكانت نتيجةُ ذلك أن "تأخر وعينا قليلاً" عن مواجهة عدونا. يقدم العبوشي معاملين لدعم فكرة نسبة الوطن إلى الشهيد؛ الأول: أن ما بين تخاذل القيادةِ وفقدانها لمقدرتها التوجيهية لشعبها، تُصبحُ الأوطان في حاجةٍ إلى عملية إعادةِ تقييم لمفاهيم النسبةِ والانتساب، وذلك بمقدار ما ينضجُ فيها وعيُ مواجهةِ العدو ليُصبِح الثقافة السائدة المعبرة عن الوطن، إذ دون ذلك تبقى الأوطان تُنسبُ إلى شهدائها، وتُعرَّفُ بهم. بحيثُ يُصبِحُ الشهيدُ أكبر من الوطن، لأن الوطن الضائع ما بين الاستعمار والقيادات المتخاذلة، لا يستطيع أن يحدد هوية شعبٍ من الشعوب إلا عبر التضحيات التي أعلاها تضحيات الشهداء. وبذلك يُصبِحُ تناسل الشهيد وتناتجه معبراً عن العلاقة غير السوية ما بين الشعوب وأوطانها. وذلك هو المعامل الثاني في نسبة الوطن إلى الشهداء، الذي يُحيلُنا إلى سؤال آخر: متى تكون علاقةُ الشعوب بأوطانها علاقةً غيرُ سوية؟

في مسرحيته "وطن الشهيد"، ينظمُ العبوشي أبيات المنظر الثاني حول الشهداء من فلسطينيين وعرب، محيلاً إلى فكرة أساسية متمثلة في أن فلسطين هي قضيةُ مواجهة عربية بالأساس، وأن الشهداء الذي ارتقوا في مقارعة الصهيونية على أرض فلسطين، كانوا عامل وحدة لأمة عربية تدافع عن عروبتها من خلال دفاعها عن فلسطين. لذلك، تكون "القومية" كما نظر لها القوميون العرب في مراحل مختلفة من التاريخ العربي الحديث، مفتاحاً أساسياً لفهم الشعوب العربية لهويتها، ولعلاقتها ببعضها البعض، ولعلاقتها بأنظمتها الحاكمة. فكلما قل منسوب العروبة في وجدان الشعوب العربية، كلما كانت علاقة الشعوب بأوطانها وبأنظمتها الحاكمة لتلك الأوطان علاقة مضطربة وغير سوية. وعندما يتوافدُ الشهداء في ديمومةٍ غير قابلةٍ للتوقف، فذلك انعكاسٌ لديمومةٍ غير سوية، عربياً يُعبَّر عنها، بديمومة الأنظمة القمعية، وديمومة التبعية الاستعمارية، لهذا ارتقى البوعزيزي شهيداً في ثورة تونس، وارتقى ما يقارب من 400 شهيداً في أحداث الأيام الأولى من ثورة 25 يناير في مصر، وما زال الشهداء يرتقون على يد النظام في سوريا. وفلسطينياً يعبَّرُ عنها بالنكبة المستمرة، بسبب استمرار استعمار فلسطين، حيث يستمر الشهداء في التوافد من حوارة وجنين وغزة والقدس.

وتُصبحُ العلاقةُ بين الشعوب وأوطانها غير سوية، عندما تعيشُ الشعوبُ في الماضي كديمومة غير قابلة للتوقف تحتاجُ إلى التراث الجامد كي يكون بمقدورها العيش في الحاضر. فيُصبحُ ماضي الشعوب أمجاد الحاضر، يُستحضرُ التاريخ  في هذا الحاضر عبر نوستالجيا مريضة، ترى في شخوصه وأحداثهِ حلاً قابل التكرار في زمن لا يكرر نفسه، بل يخلق نسقاً جديداً من أوجاع المغلوبين فيه، الذين لا ينتصرون ما لم ينتصر الحاضرُ والمستقبلُ فيهم عبر كسر دارة الذاكرة، أو محيطها.

وتُصبِحُ العلاقةُ بين الشعوب وأوطانها غير سويةٍ عندما يتم إتلاف الذاكرة، واستبدالها بذاكرة مصطنعة، تُنسى منها معانٍ مثل الشهيد، الأسير، اللاجئ، المنفي، الحرية، التحرر، وتُصبِحُ مفتوحةً على قيم البيع والشراء والتفاوض، ومنح الرُتب والرواتب والمعاشات كثمن للتضحيات وتبرئة الذمم. وتُستبدلُ المواجهةُ بالقمم والتعاون والتنسيق المشترك مع العدو واتفاقات السلام والاتفاقات الإبراهيمية.

بكل الأحوال فإن العبوشي، يُمجِّدُ الشهداء وينسب الأوطان إليهم، لأنهم كما يقول الأولى بالتمجيد من "المفرِّط"، حتى يأتي زمنٌ ينُسبُ فيه الشهداء لأوطانهم الذي يجعلهم جزءاً من أمل المستقبل، وجزءا من ماضيه الثوري.