الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

العصيان المدني استراتيجية فلسطينية للإبقاء على حالة العداء مع المحتل

2023-03-11 03:10:57 PM
العصيان المدني استراتيجية فلسطينية للإبقاء على حالة العداء مع المحتل
مخيم شعفاط

ناصر الهدمي لـ الحدث: المجتمع أصبح جاهزا للانفجار وما يحدث حرب استنزاف

أحمد أسعد لـ الحدث: تقسيم العلاقة الفلسطينية مع إسرائيل أولى خطوات ضرب شبكة التبعية لها

الحدث- سوار عبد ربه

خاض الفلسطينيون عبر مسيرتهم النضالية في مختلف الحقب الزمنية، أشكالا متعددة من المقاومة، تنوعت انسجاما مع ظروف الشعب الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية وبرز العصيان المدني وما يندرج تحته من مظاهر كأحد الأساليب التي عبروا من خلالها عن شكل العلاقة بينهم وبين محتلهم، أو من يحكمهم، الرافضة لوجوده، والمطالبة بإنهائه، وانطلاقا من هذا، خاض الفلسطينيون في القدس مؤخرا عصيانا مدنيا توقع محللون أن يدحرج كرة اللهب، ويشعل الأمور أكثر في الفترة المقبلة.

وفي الثامن عشر من شباط الماضي، أعلن أهالي مخيم شعفاط وبلدة عناتا العصيان المدني، ضد الاحتلال ومؤسساته وأجهزته القمعية، تمثل في عدم توجه العمال إلى أماكن عملهم في الداخل المحتل، ومقاطعة الاحتلال وعدم التعامل معه بشتى الطرق (المعاملات الرسمية، دفع الفواتير والرسوم والضرائب، بلدية الاحتلال، وغيرها)، وكذلك إغلاق الطريق المؤدي إلى حاجز مخيم شعفاط وعدم السماح لأي شخص بالمرور من خلاله.

وسبق هذا العصيان بخمسة أشهر، عصيان آخر في الحادي عشر من تشرين الثاني عام 2022، أعلن خلاله أهالي المخيم وقرى وبلدات مقدسية أخرى العصيان المدني المفتوح، المتمثل في تعطيل المدارس، منع استعمال السيارات في ساعات محددة، إلا للحالات الطارئة، وغيرها من الإجراءات الاحتجاجية، ونجحوا في فك الحصار.

العصيان المدني  أحد أساليب التعبير عن الاعتراض ورفض ممارسات الحكومات، وغالبا ما يكون ما بين شعب وحكومته المنتخبة

ويعرف رئيس الهيئة المقدسية لمناهضة التهويد ناصر الهدمي في لقاء خاص مع "صحيفة الحدث" العصيان المدني على أنه  أحد أساليب التعبير عن الاعتراض ورفض ممارسات الحكومات، وغالبا ما يكون ما بين شعب وحكومته المنتخبة، بحيث يعبر الشعب فيه عن رفضه لممارسات هذه الحكومة والسياسة التي تقوم بها.

أما في الحالة الفلسطينية، وتحديدا المقدسية ذلك لأن الاحتلال أجبر أهالي مدينة القدس على أن يكونوا جزءا من منظومته، فيرى الهدمي أن الأهالي ارتأوا أن أفضل أسلوب الآن كي يعبروا من خلاله عن رفضهم واعتراضهم على ممارسات الاحتلال يأتي عبر العصيان المدني.

وظهر هذا العصيان وفقا للهدمي عبر إغلاق الطرقات والأحياء، بالإضافة لعدم الخروج إلى العمل، مع العلم أن عددا كبيرا من أبناء المدينة يعملون في المصالح التجارية في القسم الغربي من القدس، ما يعني أن غيابهم عن العمل سيؤثر سلبا على الحركة التجارية والصناعية داخلها، وهذا أيضا أسلوب لمعاقبة الاحتلال على ما يقوم به.

حالة ثورية مختلفة

واعتبر رئيس الهيئة المقدسية لمناهضة التهويد أن العاصمة الفلسطينية تعيش حالة ثورية مختلفة كون المقدسيين على احتكاك دائم مع الاحتلال، فما أن يخرج المقدسي من بيته حتى يتعثر بمحتله مباشرة لأنه يحيط به من كل الاتجاهات، وفي كل مناحي حياته، وينكل به على الدوام، وهذا الواقع أوجد حالة من التحدي والصراع وصد العدوان بشكل دائم لدى المقدسي، مشيرا إلى أن هذه الحالة الثورية تعبر عن حالة غضب ورفض لكل ممارسات الاحتلال الذي أمعن في ظلم أهل المدينة وأمعن في الإجرام، من خلال هدم البيوت، المخالفات الجائرة، والملاحقة المالية، ملاحقة التجار في الشوارع، إغلاق الطرقات ومنع الناس من الوصول إلى الأسواق التجارية، واقتحامات الأقصى، ما أنتج حالة من الغضب لدى الشارع المقدسي.

وفيما يتعلق بحالة مخيم شعفاط على وجه الخصوص، اعتبر الهدمي أن هذا المخيم المكتظ بالسكان، والذي أخرج العديد من الشبان الذين قاموا بعمليات مقاومة ضد الاحتلال، وعوقب أهله جماعيا دون النظر إلى الحالة الاجتماعية والصحية التي يعاني منها المخيم، ما أدى إلى حالات مرضية، وحالات ولادة في الشارع، وأمور أخرى زادت من حالة الضغط لدى الشارع المقدسي، معتبرا أن حالة العصيان المدني التي حدثت هي تجربة جديدة، ولا زالت بحالتها البدائية وفي مقدماتها، ومن الممكن أن تتطور وتؤدي إلى مواجهات أكثر، وهذا كله في إطار التعبير عن الرفض.

حالة العصيان المدني التي حدثت هي تجربة جديدة، ولا زالت بحالتها البدائية وفي مقدماتها، ومن الممكن أن تتطور وتؤدي إلى مواجهات أكثر

وأكد الهدمي أن حالة العصيان المدني ستتطور وتصبح أكثر "عنفا"، لأن الشعب الفلسطيني يعيش تحت الاحتلال، وطبيعة العلاقة مع المحتل أنه مجرم قاتل، قام بتدمير حياتي، والمطلوب هو التحرر منه نهائيا، وإنهاء وجوده على أرضنا، ما يعني أن المسافة في هذه الحالة أطول وأدواتها أعنف، من حالات العصيان المدني التي تقوم بها الشعوب ضد حكوماتها المنتخبة في بلدان أخرى.

وفي السياق، تطرق الهدمي إلى نظرة علماء الاجتماع لحالة العصيان المدني، إذ يرون أنه يخلق نفسية لدى الجيل الصاعد رافضة للاحتلال، ويحافظ على حالة العداء معه، بحيث من غير المنطق أن تصبح العلاقة مع المحتل، علاقة توافق، ومحبة، لأنه أمر معاند للطبيعة البشرية، وهذه الحالة العدائية موجودة في كل المجتمعات التي خضعت للاحتلال، وليست من اختراع الشعب الفلسطيني.

ويتوقع رئيس الهيئة المقدسية لمناهضة التهويد أن الوضع في شهر رمضان القادم من الممكن أن يزداد اشتعالا، على اعتبار أنه الشهر الذي تصل فيه الأحداث في القدس إلى ذروتها، إلا أن الواقع أصبح مشتعلا أكثر مما كان متوقعا والمجتمع أصبح جاهزا للانفجار، حيث إن ما يحدث هو حرب استنزاف بين الطرفين، فالشعب الفلسطيني يقاوم، والاحتلال يقتل ويمعن في ظلمه، فيما أسماه الهدمي عملية "اعتداء ورد".

عرفت فلسطين في مختلف الحقب الزمنية، عصيانا مدنيا بأشكال ومظاهر مختلفة، حتى قبل تشكل الهوية الفلسطينية بمعناها الحالي

وليس العصيان المدني مصطلحا حديث الظهور، ولا أسلوب ابتكره الفلسطينيون مؤخرا، إذ عرفت فلسطين في مختلف الحقب الزمنية، عصيانا مدنيا بأشكال ومظاهر مختلفة، حتى قبل تشكل الهوية الفلسطينية بمعناها الحالي، وعلى سبيل المثال لا الحصر، تمرد "الفلسطينيون" فترة الحكم المصري ضد دفع الضرائب للسلطات المصرية، كما حدث خلال ثورة البراق، مظاهر لعصيان مدني، من خلال الإضرابات والاعتصامات ضد السياسيات البريطانية والصهيونية في فلسطين.

مسرد زمني

وفي مسرد زمني للعصيان المدني، تتبعه الباحث الفلسطيني أحمد عز الدين أسعد في لقاء خاص مع "صحيفة الحدث" قال إن لفلسطين تاريخ طويل مع العصيان المدني، حتى قبل تشكل الهوية الفلسطينية الحديثة إلا أن المفهوم تمأسس كعصيان مدني عام 1936 مع الإضراب الكبير.

وكان للعصيان المدني في سوريا ضد الحكم الفرنسي في السنة ذاتها أثر على العصيان المدني في فلسطين، ليتكرر لاحقا هذا التأثر عام 1987، عندما تعلم الفلسطينيون من أهالي الجولان الذين خاضوا عصيانا مدنيا عام 1982 ضد الهوية وفرض القانون الإسرائيلي على الجولان السوري المحتل، وفقا للباحث.

كان للعصيان المدني في سوريا ضد الحكم الفرنسي في السنة ذاتها أثر على العصيان المدني في فلسطين

كذلك شهدت السنوات ما بين 1967 و1987، العديد من حالات العصيان أو مظاهر لعصيان مدني، فمثلا عندما قرر الاحتلال فرض المنهاج الإسرائيلي في مناطق شرقي القدس، قام الفلسطينيون في القدس بقيادة هيئات إسلامية عليا وشخصيات وطنية واعتبارية، بتشكيل حراك ضد هذا القرار ونجحوا فيه.

وبين عامي 1976-1977، عندما قرر الاحتلال فرض قانون ضريبة القيمة المضافة، تمرد الناس في مناطق مختلفة من قطاع غزة والضفة الغربية، وقاموا بإغلاق محلاتهم وهذا مظهر من مظاهر العصيان المدني، وكذلك عندما قرر الاحتلال فرض بطاقة الهوية الممغنطة في قطاع غزة قبل الانتفاضة الأولى، وخلالها ظهرت حركة تمرد، بالإضافة إلى آلاف المظاهر الاحتجاجية التي لم ترتق لعصيان مدني.

القدس: حراكات وتراكمات

واعتبر الباحث أحمد أسعد أن ما يحدث اليوم في مخيم شعفاط هو حالة عصيان مدني، تظهر في الصلوات الجماعية والاحتجاجات والإضراب وإغلاق الشوارع، ذلك لأن مصطلح العصيان المدني فضفاض جدا، وتندرج تحته آلاف الأساليب سواء بشكل ناعم أو خشن.

وأشار أسعد في لقائه مع "صحيفة الحدث" إلى أن هذه الحالة لم تأت من فراغ، إذ بنيت وتراكمت على تجارب فلسطينية سابقة في الانتفاضة، وفي الهبات والحراكات الشعبية أهمها عام 2021، وكذلك في أعقاب أحداث حي الشيخ جراح، وإزالة الحواجز الحديدية في باب العامود، بالإضافة إلى إضراب 18 أيار في العام ذاته الذي عم كافة أرجاء فلسطين، وكذلك عام 2014 عندما استشهد الطفل محمد أبو خضير، وعام 2017، الذي شهد على هبة البوابات الإلكترونية، وعام 2019 عندما تم تحرير مصلى باب الرحمة.

كيف ينجح العصيان المدني؟

ويرى صاحب كتاب " بلاد على أهبة الفجر: العصيان المدني والحياة اليومية في بيت ساحور" أن لنجاح العصيان المدني ثلاثة شروط، أن يكون جماعيا بحيث يشارك فيه جميع الفلسطينيين في الداخل والخارج، وعددهم 14 مليونا، وأن يكون طوعيا ما يعني أن الناس من تلقاء نفسها يجب أن تلتحق فيه، دون إجبار، وأن يكون علنيا وهذا يتطلب مؤسسات وأحزاب ولجان شعبية ومبادرات مختلفة كي تحمله وينجح.

وأشار الباحث أن العصيان المدني في السابق كان ينجح لأننا كنا في اشتباك مباشر مع الإسرائيليين، حيث أن دائرة الضريبة والشرطة وغيرها كانوا موجودين في المدن الفلسطينية، إلا أنهم اليوم ليسوا في مراكز المدن كما كان الأمر قبل أوسلو، إلا أن اليوم درجة التبعية والتداخل مع إسرائيل عالية جدا، وما إن بدأنا بتقسيم علاقة التبعية بكل مستوياتها، يتم ضرب شبكة التبعية والمربوطة بجوهر المجتمع والاقتصاد الإسرائيلي، ومنظومته السياسية والأمنية.

تجاوز التقسيمات الاستعمارية

ينبه الباحث في مقال له بعنوان: "حراك القدس: عن قصة الفعل الاجتماعي والثقافي أوقات الشدة" أن المستعمر حاول عزل القدس وإخراجها من دائرة الفعل السياسي والثقافي بعد توقيع اتفاقية أوسلو، وأخرج المؤسسات الفلسطينية منها سواء ثقافية أو نقابية أو مجتمع مدني، وأحكم الطوق عليها بعد الانتفاضة الثانية، وشيد جدار الفصل العنصري، فكانت محاولات العزل والهيمنة تلك ذات أثر معاكس لما يريده المستعمر.

المستعمر حاول عزل القدس وإخراجها من دائرة الفعل السياسي والثقافي بعد توقيع اتفاقية أوسلو، وأخرج المؤسسات الفلسطينية منها سواء ثقافية أو نقابية أو مجتمع مدني، وأحكم الطوق عليها بعد الانتفاضة الثانية

وبحسب الباحث؛ في السابق كانت التقسيمات الاستعمارية للاحتلال وسياسة العزل تؤثر في العصيان المدني، إذ كانت لكل منطقة خصوصيتها وكذلك من ناحية نمط المقاومة والعصيان المستخدم، إلى أن حدثت نقطة تحول مركزي عام 2014، وهي الحرب على غزة، التي أثرت على مشاعر الناس واختلاطها، ودفعت بالفلسطينيين من كافة المحافظات للخروج بمسيرات ومظاهرات إسنادية، إضافة إلى المواجهات على الحواجز العسكرية وغيرها.

كما وتم تجاوز التقسيمات الاستعمارية، والتحق أهالي الداخل المحتل إلى الأحداث التي شهدتها المنطقة، ليس هذا فحسب بل الإضراب الكبير الذي شهدته فلسطين في الثامن عشر من أيار عام 2021، وكان أهالي الداخل المحتل هم أول من دعا له.

وفي هذا السياق أشار الباحث إلى أن الاحتلال الإسرائيلي أصبح يخشى من هذه المسألة لأنه عمل على مدار سنوات طويلة، على تفتيت الهويات والجغرافيا الفلسطينية إلا أن الثقافة والهوية الفلسطينية ما زالتا مترابطتين يجتمع الفلسطينيون في ظلهما.