تدوين- فراس حج محمد
مقدّمة
يعرّف الباحث الجزائريّ باي بو علّام الكتابة الغرافيتيّة أنّها "أيّة كتابة أو رسم أو نقش أو خدش أنجز باليد على الجدران"، ثمّ يضيف خلال استرساله في شرح المفهوم "واستخدم أدوات الكتابة التّقليديّة والمعاصرة"، مع ما يحمله هذا التّعريف من تناقض والمقتبس من بحث بعنوان "ملامح الكتابة الغرافيتيّة في المجتمع الجزائريّ: محاولة تأريخيّة"، إذ يعتمد التّعريف في أوّله على الكيفيّة الّتي ينجز بها "أنجز باليد" أي بخطّ اليد، ثمّ يبيّن أدوات الكتابة، وهي نوعان: تقليديّة ومعاصرة. وتجاوزا عن هذا التّناقض وإسقاطا له من الحسبان لن ألتفت إلى هذه الجملة "أنجز باليد" للتّطور الّذي حدث على الكتابة الغرافيتيّة في الفترة الأخيرة، ودخلت حوائط مواقع التّواصل الاجتماعيّ ضمن مجال الدّراسة لهذا النّوع من الكتابة على ما سأبيّن في الفقرة الأخيرة من هذا المقال.
الكتابة الغرافيتية هي: "أيّة كتابة أو رسم أو نقش أو خدش أنجز باليد على الجدران"
وفي بحث للدّكتور طيبي غماري بعنوان "الغرافيتي من أدب للغرباء إلى أدب للاغتراب"، (عالم المعرفة، العدد3، المجلّد 43، يناير-مارس، 2015) يبحث في مظاهر هذا النّوع من الكتابة في القسم الأوّل بعد محاولة تأصيل للمصطلح وأصول نشأته واستقراره، ويقف الباحث وقفة متأنّية عند تأصيل المصطلح ونشأته وتاريخيّته، ويحيل القارئ إلى مجموعة من الدّراسات الأجنبيّة، مخصّصا القسم الثّاني للتّطبيق من خلال قراءة كتاب "أدب الغرباء" لأبي فرج الأصفهاني، ويعرّف الباحثُ الغرافيتي بقوله: "إنّه الكتابات والرّسومات الموجودة على مختلف الدّعائم الموجودة في الفضاءات العموميّة، والحاملة لدلالات ثقافيّة وسوسيولوجيّة تساعد على وعي الحالة الاجتماعيّة للمجتمع" (ص104)، إنه تعريف منضبط، يمكن إحالة الكثير من الموادّ التّعبيريّة إليه، ويستوعب كلّ المظاهر المعاصرة للغرافيتي في المجتمع، بما فيها تلك المنشورات على الجدران الإلكترونيّة بشتّى أنواعها، على اعتبار أنّها حوائط عامّة، تتوجّه إلى جمهور المتلقّين، وكذلك كلّ الجدران والحوائط في الفضاءات المحصورة بمجموعة من الأفراد، بوصفهم مجتمعا موحّدا يشترك أفراده في مجموعة من السّمات الدّائمة أو المؤقّتة، كالمدارس والجامعات والمعتقلات.
إنّ أبرز ما يميّز هذا النّوع من الكتابة الجهل بالمؤلف غالبا، لطبيعة هذه الكتابات الّتي تخرج عمّا هو متعارف عليه من ثقافة مستقرّة في المجتمع، ولأنّ الجدران للبنايات العامّة دعائمها الأساسيّة من جدران المراحيض العامّة، في المدن والجامعات وأسوار الحدائق والمقابر وشواهد القبور والصخور وجذوع الشّجر وأسوار المدارس وسبّورات الغرف الصّفيّة وجدران السّجون، ويمكن إضافة دعائم أخرى لمثل هذه الكتابات، وتتمثل في الكتابة على الكتب المدرسيّة وكتب المكتبات العامّة من تعليقات، وأخيرا حوائط مواقع التّواصل الاجتماعيّ، وأهمها: الفيسبوك وتويتير، وخاصّة تلك الخارجة عن الثّقافة العامّة السّائدة في المجتمع وتكون لأسماء مستعارة، ويهدف أصحابها للتّعبير عن أنفسهم في الموضوعات المحرّمة والمعروفة بالتّابوهات من سياسيّة ودينيّة وجنسيّة.
تتّسم هذه الكتابات غالبا بملامح أسلوبيّة وكتابيّة عامّة من ضعف في الأسلوب واشتمالها على الأخطاء النحويّة واللغويّة والإملائيّة، ورداءة الخطّ إذا لم تكن إلكترونيّة بطبيعة الحال، نظرا للمستوى الثّقافيّ المتدنّي لكتّابها في الأعمّ الأغلب، أو لكونها خاضعة لشروط ظرفيّة معيّنة يحكمها التّرقّب والخوف والتّوجّس من انكشاف أمر كاتبها، وما سيتعرض له من مساءلة ومحاسبة أو لوم على أقل تقدير، مع ملاحظة الكتابة العاميّة والخلط بين العربيّة وبين غيرها من اللّغات في الكتابة الإلكترونيّة.
لم تكن هذه الظّاهرة خاصّة بالمجتمع العربيّ، بل إنّها موجودة كذلك في المجتمعات الأخرى، ومنها الغربيّة، فقد أشار الرّوائيّ والرّسّام الأمريكيّ هنري ميلر إلى وجود هذه الظّاهرة، وذلك خلال الحوار الّذي أجراه معه (بسكال فريبوس), يقول ميلر: "غير أنّي عندما كنت أتجوّل في اللّيل والنّهار ببروكلين الجنّة، صدمني العنف المدمّر في الخربشات الحائطيّة، ومن تلك الوحشيّة المنبعثة من أزقّة مخرّبة وسلالم النّجدة المظلمة". (في ضيافة هنري ميلر، ترجمة: سعيد بو كرامي، ص16).
وليس الأمر مقصورا على حوائط مدينة بروكلين، بل لاحظها ميلر كذلك في محطّات المترو في نيولوتس: "أمّا قرب نيولوتس فهناك مناظر محطّمة لبيوت مبقورة: آجور، أخشاب، خرداوات، صناديق الورق المقوَّى، قنّينات مختلفة تغطّي الأرض، أغصان مقطوعة، أشجار مقتلعة، كائنات تذهب وتجيء أيديها في جيوبها مستعدّة لإخراج سكّين أو مسدّس، ورائحة البول القادمة من محطّات المترو ذات الحيطان الملطّخة بكلام فاحش، يعبر عن ذهنيّة للسّفاحين والمغتصبين". (السّابق، نفسه)
لقد ارتبطت الكتابة الغرافتيّة كما هو ملاحظ في كلام ميلر بالعنف، وكأنّها تفريغ لهذا العنف ذي المظاهر المتنوّعة في البيئة الاجتماعيّة، وانعكست على تدمير أشياء المكان وتخريبها، وما صاحبها من التّعبير عن تلك الذّهنية وذلك العنف بالخربشات الحائطيّة الغرافيتيّة.
الغرافيتي والتّراث العربيّ
اشتملت كتب التّراث العربيّ التّاريخيّة والأدبيّة على الكثير من أمثلة الكتابة الغرافيتيّة، وفيما يأتي سأورد مثالين، الأوّل من كتاب "المستطرف في كلّ فنّ مستظرف" للأبشيهي، والثّاني من كتاب "تاريخ جرجان" للسّهمي الجرجاني، وقد وقف كما أشرت سابقا د. طيبي غماري عند كتاب "أدب الاغتراب" لأبي الفرج الأصفهاني، واصفا الكتاب بأنّه "إحدى أهم الوثائق القديمة والنّادرة الّتي تؤرخ للكتابات الغرافيتيّة في الثقافة العربيّة على الأقلّ" (ص110)
قال الأصمعيّ في الخبر الّذي يرويه الأبشيهي: بينما أنا أسير في البادية إذ مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت:
أيا معشر العشّاق بالله خبّروا
إذا حلّ عشق بالفتى كيف يصنع
فكتبتُ تحته:
يداري هواه ثم يكتم سرّه
ويخشع في كلّ الأمور ويخضع
ثمّ عدت في اليوم الثّاني فوجدت مكتوباً تحته:
فكيف يداري والهوى قاتل الفتى
وفي كلّ يوم قلبه يتقطّع
فكتبت تحته:
إذا لم يجد صبراً لكتمان سرّه
فليس له شيء سوى الموت أنفع
ثم عدت في اليوم الثّالث فوجدت شابّاً ملقى تحت ذلك الحجر ميْتاً لا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم وقد كتب قبل موته:
سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا
سلامي على من كان للوصل يمنع
تتمثّل في هذه الحكاية كلّ مقوّمات الكتابة الغرافيتيّة من حيث الموضوع، إذ تتناول موضوعا ما زال لا يحسن القول فيه علانية، فالحبّ وحكايات العاشقين ليست من الموضوعات المتداولة والجادّة الّتي يوليها المجتمع أهمّيّة، فهي هامشيّة في الثّقافة السّائدة، وتندرج ضمن المسكوت عنه، إضافة إلى جهل الكاتب الأصليّ، والتّفاعل معه من قبل الرّاوي (الأصمعيّ)، وأخيرا أنّها كانت على حجر في البادية.
وبهذه المقوّمات السّابقة جميعها، مع اختلاف في الموضوع، يلتقي هذا الخبر الّذي يورده السّهمي الجرجاني في آخر كتابه "تاريخ جرجان". قال سمعت الدّينوري في مسجد عُمان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة قال سمعت أبا الحسن محرز بن جعفر يقول: وجدت ببلد الهند حجرا منقوشا بالعبرانيّة ببلد سرنديب يقال اهبط آدم:
أنا الموجود فاطلبني تجدني
فإن تطلب سواي فلا تجدني
تجدني أين تطلبني عتيدا
قريباً منك فاطلبني تجدني
ويورد القصيدة كاملة بأبياتها الأربعة والعشرين، مع ملاحظة أنّ هذين النّموذجين كانا بلغة عالية المستوى وظّف الكاتبان الشّعر للتّعبير عن الموضوع الّذي كان دينيّا في خبر "تاريخ جرجان" وبلغة غير عربيّة، وفي هذا ربّما تختلف عن تلك النّماذج الّتي حفلت بها الكتابة الغرافيتيّة في واقع المجتمعات الّتي وجدت فيها، عربيّة وغير عربيّة، وفي أنّها أخبار أو نقوش نصيّة طويلة.
الكتابة الغرافيتيّة في واقع الثّقافة الفلسطينيّة
وأمّا في واقع الثّقافة المعاصرة في المجتمعات العربيّة، ومنها الفلسطينيّة، فإنّ المرء يستطيع أن يرصد العديد من المظاهر للكتابة الغرافيتيّة، وقد جاء بعضها مشتركا مع واقع هذا النّوع من الكتابة في المجتمعات الأخرى غير العربيّة، وفيما يأتي بعض من مظاهرها في الفضاءات العموميّة الفلسطينيّة:
الكتابة على جدران المراحيض في المدن وفي الجامعات
لعلّ الكتابة على جدران المراحيض العامّة من أكثر الأمثلة بروزا في الدّراسات الّتي بحثت في ظاهرة الكتابة الغرافيتيّة، على قلّة هذه الدّراسات في اللّغة العربيّة. وتتناول هذه الكتابات موضوعات ممّا يفكر فيها المراهقون من أمور جنسيّة، ومواعدات بين المراهقين، وكتابة مواصفات للشّخص الّذي يبحث عنه المراهق، سواء أكان فاعلا أم مفعولا به، لممارسة المثليّة الجنسيّة، وغالبا ما يصاحب تلك الكتابات أرقام للهواتف الخلوية.
وعدا ذلك فإنّ بعض تلك الكتابات تتناول بالطّعن بعض الرموز السّياسيّة أو الفصائليّة أو المتعاونين مع الاحتلال الإسرائيلي والتّحذير من أشخاص معيّنين. وما يتبع ذلك أحيانا من تفاعل من آخرين بالسّبّ والشّتائم اللّاذعة والأوصاف القبيحة، والردّ على بعض الاتّهامات السّياسيّة.
وما يلاحظ أنّ الكتابة على جدران المراحيض العامّة بدأت بالتّلاشي، بفعل عدّة عوامل أهمّها سيطرة التّكنولوجيا، فلم يعد المراهقون يحملون أقلاما، وصارت الكتابة الإلكترونيّة أكثر قربا وسهولة من الكتابة باليد، كما أن تعيين البلديّات موظفين لتلك الأماكن ومراقبتهم لها، قد ساعد على انحسار هذه الظّاهرة.
كتابة الشّعارات السّياسيّة والفصائليّة في الانتفاضة الأولى (1987-1993)
والكتابة على جدار الضّمّ والتّوسّع
تحوّلت الأسوار العامّة والخاصّة في المدن والقرى الفلسطينيّة إلى دعائم تحمل هذه الشّعارات، وما فيها من مضامين سياسيّة تابعة للفصائل الفلسطينيّة، وكانت تتمّ عادة بعلب الدّهان وكانت فصائل اليسار غالبا ما تستعمل اللّون الأحمر، مع غلبة اللّون الأسود لشعارات حركة فتح والجهاد الإسلامي وحركة حماس. وصاحب تلك الشّعارات الكتابيّة وجود رسومات تعبيريّة، وتنوعت تلك الكتابات ما بين تمجيد الأسرى ونعي الشّهداء وتخليد ذكراهم والتّعبير عن وجهات النّظر الحزبيّة لتلك الفصائل في القضايا السّياسيّة الرّاهنة. وتزدهر هذه الشّعارات وتكثر في المناسبات، كذكرى وعد بلفور والنّكبة والنّكسة، وذكرى الانطلاقات للأحزاب والفصائل المقاومة، ويوم الأسير الفلسطينيّ، ومن أجل الاستعداد لتشييع الشّهداء، أو التّذكير بذكرى الشّهداء من القادة التّاريخيّين.
كما تناولت تلك الكتابات أيضا في الفترة الّتي تلت عام 1993 موضوعات انتقاديّة ضدّ السّلطة الفلسطينيّة ومشروعها السّياسيّ القائم على المفاوضات، أو ما انتهجته في فترة لاحقة من اعتقال سياسيّ.
وتنوّعت تلك الكتابات بين النّثر أو مقاطع شعريّة لأبرز شعراء المقاومة من أمثال توفيق زيّاد ومحمود درويش وسميح القاسم، أو شعراء عالميّين من أمثال لوركا وناظم حكمت، وشعراء عرب لاسيّما أبو القاسم الشّبابي، فقد كان حاضرا بيته الشّعريّ المشهور:
إذا الشّعب يوما أراد الحياة
فلا بدّ أن يستجيب القدر.
وحضرت في تلك الشّعارات رموز من المقاومة العالميّة من أمثال نيلسون مانديلّا وتشي جيفارا والمهاتما غاندي، ومن رموز المقاومة العربيّة حضرت شخصيّتا عمر المختار وصدّام حسين، ومن الشّخصيات التّاريخيّة كان لصلاح الدّين الأيوبيّ حضورٌ لافت في تلك الشّعارات.
وبعد أن تمّ بناء جدار الضّمّ والتّوسّع (يطلق على هذا الجدار في الإعلام غالبا "جدار الفصل العنصريّ"، ومن ناحية قانونيّة فإنّ تسميته "جدار الضّمّ والتّوسّع" هي الأنسب). أخذ العديد من الشّبّان والفنّانين النّاشئين والنّاشطين السّياسيّين بالكتابة والرّسم عليه، تحدّيا لسلطة الاحتلال، وتعبيرا عن رفض هذا الواقع الّذي تسعى دولة الاحتلال فرضه على الشّعب الفلسطينيّ، ومحاصرته وقضم أرضه تحت ذرائع أمنيّة واهية.
لقد عبّرت تلك الشّعارات مكتوبة ومرسومة وباللّغتين العربيّة والإنجليزيّة عن الاحتجاج السّلميّ ضدّ سياسة إسرائيل التّعسفيّة في بناء الجدار ومحاولة عزل القدس والمناطق الفلسطينيّة، وتنوّعت تلك النّصوص في طولها ما بين الشّعار القصير إلى الجمل الطّويلة، وترافقت أحيانا أخرى النّصوص مع اللّوحات الفنّيّة. مع غلبة الرّسومات التّعبيريّة واللّوحات التّشكيليّة على تلك الشّعارات، حاملة رسائل موجّهة للعالم في التّوق للحرّيّة، وعدم الاستسلام لسياسة الأمر الواقع. ولعلّ ما يتيحه الجدار من مساحة كبيرة دفع الرّسامين لتوظيف تلك المساحة لحمل رسائل ذات بعد فنّيّ موجّه، وفي الفترة الأخيرة ظهر رسمان للرّئيس الأمريكيّ رولاند ترامب، أحدهما منفردا، والآخر بصحبة رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيليّ وهو يقبّله، في مشهد معبّر عن العلاقة السّياسيّة بين أمريكا وإسرائيل.
الكتابة على جدران المعتقلات
وأبرز تلك النّماذج المحفوظة في الذّاكرة الفلسطينيّة ووثّقتها المصادر ذات الصّلة، قصيدة كتبها مناضل فلسطينيّ أيّام الانتداب البريطانيّ، وهي من أقدم النّصوص الشّعريّة الشعبيّة المقاومة الّتي وصلتنا من القرن الماضي، وقيل إنها وُجدت مكتوبة على جدران زنزانة في سجن عكّا، يرثي فيها نفسه قبل اقتياده إلى المشنقة عام 1936، وممّا جاء فيها:
يا ليل خلِّ الأسيرْ تَ يْكمِّلْ نواحُو
رايح يفيق الفجر ويرفرف جْناحو
تَيَتْمَرْجَحْ المشنوق في هبّة رْياحو
وهي قصيدة طويلة من عدّة أبيات، مكتوبة باللّغة العاميّة، ترصد معاناة الأسير الفلسطينيّ داخل المعتقلات، ويعبّر فيها كاتبها عن آلامه الإنسانيّة تجاه وطنه وأهله.
الكتابة على جدران المدارس وسبّورات الغرف الصّفيّة
والأدراج والكتب المدرسيّة وكتب المكتبات العامّة
تعبّر هذه الكتابات عن مواقف الطّلبة من المعلّمين والإدارة المدرسيّة، ولعلّها تهدف إلى التّفريغ النّفسيّ الّذي يعيشه هؤلاء الطّلبة، وخاصّة متدنّي الأداء، وكانت تتناول في التّجريح أحد المعلمين أو مدير المدرسة، وربّما كان يهدف كتّابها إلى لفت الانتباه أو تضييع الحصص لأحد المعلّمين، إثارة للمشاكل والتّعبير عن الغضب.
وكان الطّلبة أحيانا يوظّفون الأدراج والطّاولات للكتابة، تعليقا على معلّم ما أو انتقاد لأسلوبه أو إحصاء لتلك المواقف الطّريفة الّتي كان المعلّمون يقعون فيها خلال الشّرح، إذا ما حدث وأخطأ المعلّم في لفظ بعض الكلمات أو العبارات، وربّما تعدّى الأمر إلى كتابة شعارات سياسيّة أو عبارات حبّ أو رسومات ذات دلالات عاطفيّة.
بالإضافة إلى انتهاج ثلّة من الطّلبة للكتابة على الكتب المقرّرة، إمّا عبارات انتقاديّة للمادّة أو رسومات وعبارات عاطفيّة كذلك، أو اللّعب بالصّور وتعديلها وتحويرها من صورة امرأة إلى صورة رجل برسم لحى أو شوارب أو إلباسهم القبعة أو الحطّة الفلسطينيّة، وجعلهم أحيانا يمتشقون الأسلحة، أو تلوين المساحات البيضاء في تلك الرّسومات، وبعض هذه الظّواهر قد يلاحظها المرء أحيانا لكتابات تركها الطلبة على كتب المكتبات العامّة.
وربّما تعبّر تلك الكتابات في جزء منها عن الحالة النّفسيّة للطّلبة الّذين كانوا يشعرون بالملل وطول وقت الحصّة، أو عدم قناعتهم بالمحتوى أو المعلّم، فطرّدا للملل وتجنّبا لعقاب المشاكسة يلجأون إلى مثل هذه التّصرفات تزجية للوقت والتزاما ظاهريّا بالنّظام.
ويلحق بهذه الظّاهرة ما يقوم به المتدرّبون أو المعلّمون أنفسهم أو الموظّفون خلال الاجتماعات الرّسميّة من التّلهي بالكتابة و"الخربشات" والرّسومات خلال تلك الاجتماعات الّتي يرونها مملّة وثقيلة الوقع على نفوسهم. مع أنّهم قد يستخدمون أوراقهم الخاصّة، إلّا أنّ الغالبيّة العظمى تستخدم أوراقا وزّعت عليهم لأجل التّدريب أو الاجتماع، فيتركونها خلفهم، متحلّلين من الملل والشّعور القاسي لوجودهم في مكان يمارس فيه عليهم ضغوطات نفسيّة.
كتابة المستوطنين اليهود على جدران البنايات والمساجد والكنائس في الأحياء العربيّة
اعتاد بعض المستوطنين اليهود الكتابة على جدران المساجد والأحياء العربيّة شعارات معادية للعرب، وكانت شعارات: "الموت للعرب" و"الانتقام من العرب" و"جباية الثّمن" الأكثر رواجا من بين تلك الشّعارات، إضافة إلى الرّسومات ذات الإيحاءات العنصريّة العدائيّة، كما حدث مثلا في بعض أحياء مدينة الخليل والقدس ومساجدهما، وكتابة شعارات معادية للمسيحيّين أيضا على بعض جدران الكنائس، كما حدث وكتب متطرفون يهود على حائط كنيسة رقاد السّيدة العذراء في القدس "المسيحيّون إلى الجحيم" و"الموت للمسيحيّين الكفرة".
الكتابة على الحوائط الإلكترونيّة
فيما سبق أعلاه، أشرت إلى ذلك التّطور الّذي طرأ على الكتابة الغرافيتيّة، وهذا التّطور، يستطيع الوصول إليه كلّ من امتلك جهاز حاسوب أو هاتفا ذكيّا أو لوحا إلكترونيّا، وقد انتقلت كلّ أنواع تلك الكتابات أو أغلبها لتكون على حوائط الفيسبوك وتويتير، وتشترك هذه الكتابات مع الكتابة الغرافيتيّة التّقليديّة في عدة سمات موضوعيّة وأسلوبيّة، فما زال هناك فئة من الكتّاب يستخدمون أسماء مستعارة لحساباتهم الشّخصيّة على مواقع التواصل الاجتماعيّ، ويكتبون آراءهم وما يشعرون به بحرّيّة تامّة، في الموضوعات الثقافيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة، واخترقوا كل جدران المحرّمات، بالإضافة إلى أنّ اللّغة هي ذاتها؛ باحتوائها على الأخطاء الإملائيّة والنّحوية وركاكة الأسلوب والكتابة باللّغة العاميّة، وخلطهم بين اللّغة العربيّة وغيرها من اللّغات الأخرى لاسيّما العبريّة والإنجليزيّة، مصحوبة أحيانا تلك الكتابات برسومات أو صور فوتوغرافيّة أو كاريكاتوريّة ساخرة.
ذلك التّطور الّذي طرأ على الكتابة الغرافيتيّة، وهذا التّطور، يستطيع الوصول إليه كلّ من امتلك جهاز حاسوب أو هاتفا ذكيّا أو لوحا إلكترونيّا
لقد ساعدت هذه التّقنيّات المعاصرة على تراجع الكتابة على الحوائط الواقعيّة إلى حوائط وجدران افتراضيّة، وشجّعت أكثر على "حرّيّة القول"، فكانت مجالا فسيحا للتّعبير، أتاحت للنّاشطين السّياسيّين مثلا الانتقاد بحرّيّة شخصيّات بعينها، والتّهجّم عليها وتصويرها بصور مضحكة كاريكاتوريّة، وخاصّة في مناسبات وأحداث ساخنة، كزيارة أحد الرّؤساء أو تفشّي الفضائح السّياسيّة والكشف عن الفساد الإداريّ في أروقة الوزارات والمؤسّسات الخاصّة والعامّة.
أصبحت هذه الكتابات مدار اهتمام بعض الباحثين، عدا اهتمام الدّوائر الأمنيّة بالمدوّنين وملاحقتهم، وقد سُجّلت العديد من حالات الاعتقال السّياسيّ لصحفيّين وكتّاب ومدوّنين، أو التّحقيق الإداريّ مع الموظّفين نتيجة تلك الكتابات، وقد يترتّب عليها بعض العقوبات الإداريّة أو الجنائيّة، لاسيّما بعد إقرار قانون الجرائم الإلكترونيّة في العديد من الدّول.
ما سبق كان محاولة لرصد ظواهر الكتابة الغرافيتيّة في سياق الثّقافة الفلسطينيّة ضمن سياق الخلفيّة المعرفيّة والتّراثيّة، ولا شكّ في أنّ كلّ بند من البنود الّتي تحدّثت عنها آنفا، يحتاج إلى وقفة بحثيّة وإحصائيّة للكشف عن حدوده وآثاره ومآلاته وتفكيك ما يحمل من رسائل ورمزيّات متعدّدة، تجعل من تلك الأبحاث أبحاثا بكرا، ترتاد مناطق يندر أن يرتادها الباحثون والدّارسون، لعلّ أحدا يلتفت إليها في مستقبل الأيام، لافتا النّظر إلى الكتاب الّذي أصدره المصوّر الفلسطينيّ ناصر ناصر "PHOTI GRAFFITI"، فقد ضمّ (250) صورة لجداريّات خاصّة بثورة 25 يناير المصريّة ما بين عامي 2011 و2014، ليقدّم للمكتبة العربيّة والفلسطينيّة إنجازا مهمّا توثيقيّا في رصد هذه الظّاهرة الثّقافيّة.