الحدث- محمد مصطفى
قبل أكثر من عقدين من الزمن، كانت الطبيعة في قطاع غزة تزخر بأنواع عديدة وجميلة من الطيور والحيوانات البرية، التي لم يعد لها أي وجود في الوقت الحالي.
فكان عصفور الحسون المغرد ذو الرأس الحمراء، يعتلي أشجار السرو والكينيا، ويغرد أجمل المعزوفات الموسيقية، التي تشجي كل من سمعها، بينما كانت الأرانب البرية وطيور الحجل "الشنار"، تملأ البساتين والأراضي البور، ويتمتع المزارعون وسكان المناطق الريفية في كافة أنحاء القطاع بمشاهدتها.
غير أن هذا الحال ومع مرور السنين بدأ يتبدل، فالحسون بات هدفاً للصيادين، ومن أجل الإمساك به وضع الصيادون الشباك والشراك، وطاردوه من بستان لآخر، ومن حقل لحقل، حتى لم يعد له ظلاً في الكثير من المناطق داخل القطاع، وكذلك الحال مع طائر الخضري والحجل، والبسبس، وغيرها من الطيور المغردة، التي اختفت واحدة تلو الأخرى بسبب الصيد الجائر.
ملاحقة وطيدة
لازال يحتفظ بزوجين من طيور الحسون المغردة في قفص داخل منزله، والتي كانت هربت من مصر عبر الأنفاق قبل عامين، المواطن إياد حسونة "48 عاماً"، أكد أن جمال عصفور الحسون وعذوبة صوته جعل الهواة يفتنون به، وراحوا يلاحقونه بغية صيده ووضعه في أقفاص، والاستمتاع به.
وقد دفع ولع الغزيون بالحسون لتسجيل مقطوعات من تغريده على أشرطة كاسيت واسطوانات c-d""، لدرجة أنه في بعض الأحيان بيع الطائر الواحد منها مقابل ألف دينار أردني وربما أكثر.
وكما يقول حسونة،: لكن ومع الولع بالحسون، اتسعت عمليات الصيد المذكورة كانت في كثير من الأوقات عشوائية، وغير مراقبة، وسرعان ما قضت على الطائر في قطاع غزة.
وأوضح حسونة، أنه مع ظهور جيل جديد من الشبان أكثر ولعاً بالصيد، بدأت طيور أخرى تنقرض، خاصة وأن البطالة وقلة العمل، يجعل الشبان يخصصون أوقات فراغهم لصيد وملاحقة الطيور، فهؤلاء الشبان باتوا ينتظرون موسم الهجرة الخريفية للطيور القادمة من جزر البحر الأبيض المتوسط، والتي تفر من البرد الشديد، ليصيدوها ما تسبب أيضا في انقراضها، أو شبه انقراضها، كما يحدث مع طائر السمان "الفر"، الذي كان يتم صيد عشرات الآلاف منه في كل عام، ما تسبب في تناقص أعداده.
استنزاف للثروة السمكية
ولم يسلم البحر من عمليات الصيد الجائرة، التي تسببت في القضاء على الثروة السمكية في غزة، وبات الصيد في القطاع يعتمد على مواسم الهجرة في فصلي الخريف والربيع، حين تمر الأسماك المهاجرة بأسراب كبيرة قبالة سواحل غزة، خاصة السردين والسكمبلة.
ويقول الصياد أحمد النجار، إن الصيادين في غزة، وأمام قلة الأسماك، وضيق المساحات المتاحة أمامهم، باتوا مجبرين على استخدام فتحات شباك ضيقة، لصيد حتى الأسماك الصغيرة جداً، رغم علمهم بضرر ذلك على الحياة البحرية، لكنهم يسعون لتوفير قوت أبنائهم.
وأوضح النجار أن الثروة البحرية في قطاع غزة تناقص عاماً بعد عام، مع وجود أكثر من 5000 صياد في ساحل ضيق لا يتجاوز طوله 40 كم، وبعمق لا يزيد على خمس أو ستة أميال بحرية.
مخاطر وأساب
من جانبه قال، الدكتور عبد الفتاح عبد ربه، أستاذ العلوم البيئية المشارك في قسم الأحياء بالجامعة الإسلامية بغزة، إن الحياة البرية في قطاع غزة تواجه مخاطر كبيرة، أدت إلى تراجع في أعداد الكثير من الطيور والحيوانات البرية، التي كانت تشاهد بكثرة قبل عقود.
وبين أن من بين هذه الطيور التي باتت مهددة بالانقراض أو الاحتفاء، طائري الحسون والشنار، وطيور كانت تشاهد في وادي غزة.
وأوضح عبد ربه في حوار خاص مع "الحدث"، إلى أن أسباب هذا التراجع عديدة، أبرزها الصيد المتواصل للطيور، وتدمير بيئاتها الطبيعية إما نتيجة الزحف العمراني، أو جراء قطع الأشجار لتوفير مساحات للزراعة الموسمية، ناهيك عن التلوث البيئي الذي أصاب مواطنها، إضافة إلى غياب القوانين مخصصة لحماية البيئية، وكذلك في ظل تزايد حالات الفقر، وعدم توفر فرص عمل ومصادر رزق.
وحذر عبد ربه من خطورة الاستنزاف والتهديد المتواصل لبيئات الطيور والحيوانات التي لازالت تعيش في قطاع غزة، ما يشكل تهديد لوجودها، وينذر بانقراضها.
صيد جائر
وفيما يخص عمليات الصيد الجائر في البحر، أكد عبد ربه أن هذا أكثر خطورة من صيد البر، فالصيادون في غزة يستخدمون طرق صيد مدمرة للبيئة البحرية، أبرزها شباك الجر القاعي، وهي شباك كبيرة تجر بواسطة لنشات ومراكب، وتكنس المياه، وتجمع كل شيء تصدفه في طريقها دون تمييز، وبالتالي تقضي على الثورة السمكية.
الصيادون يستخدمون في هذا النوع الخطير من الصيد، شباك فتحاتها ضيقة جداً، ولا تسمح لصغار الأسماك بالإفلات، ما يعني أنها تقضي على البذور الصغيرة، ولا تسمح بعمليات تجدد طبيعية للثروة السمكية، وحذر عبد ربه من هذه الشباك الممنوع استخدامها في معظم دول العالم.
وشدد عبد ربه على وجوب اتخاذ سلسلة من التدابير الفورية لحماية البيئة البحرية في قطاع غزة، من ضمنها تحديد أوقات يمنع الصيد فيها، للسماح للأسماك بالتكاثر والنمو، وكذلك تحديد فتحات الشبك، وغيرها من الإجراءات.
وأمام الصيد الجائر، وغياب منظومة قوانين تحمي المصادر الطبيعية والبحرية، تبقى العديد من الحيوانات والطيور مهددة بالانقراض، والثورة السمكية تستنزف عام بعد عام، بانتظار من ينقذها، ويوفر الحماية لها.