هنا نلتقي.
الكتابة فعل تقطير لا يدرك آليته أو ما يتمخّض عن حبره، سوى من أدركه إدمان الحرف، وهو إدمان يعجز أمام تحليل أسبابه علم النفس والمجتمع والتاريخ والجريمة، وقد يدركه فقط من يسبح على ضفاف الروح وفي خلجان النفوس..
نحن نكتب كي نُشفى من درنٍ علق فينا من أولئك الذين أرادونا أن نكون على هيئاتهم، من مربّين ومدرسين وأصدقاء وساسة وأولياء أمور، نكتب كي ننظف جيناتنا ونطلقها في فضائها الأصيل، نفك عنها سلاسل قُمعت حركتها، ونزيل حواجز كادت أن تسبب إعاقات لخطواتنا، نكتب كي نعيد الطريق الحقيقي لسيقان متشنجة المفاصل والأعصاب، كي نُشفى من إعاقة لا يدركها سوانا، ونكون طبيعيين كما أراد لنا النبع السرّي أن نكون..
نكتب كي نقول الأشياء كما كان يجب أن نقولها منذ طفولتنا، قبل أن يقمع "الآخرون" أحلامنا ونحن نطلق طائراتنا الورقية إلى سماواتنا الخاصة، قبل أن ينهرونا كما ينهرون دابة وقفت في منتصف الصعود، لأنهم عثروا علينا متلبسين بالعشق، قبل أن يصادروا ألسنتنا وارتباك أفكارنا ونحن نجتاز بوابة المراهقة، قبل أن يرسموا لنا المرأة على شكل "العيب"، قبل أن يحيطوا أنفسهم بجدران القداسة.
نكتب كي نستعيد إحساسنا بالمطر الطفولي، وبمتعة البلل، وبرائحة البرد الصباحي، نكتب كي نقول حبّنا كما كان يجب أن نقوله قبل خياطة قلوبنا، وتظليل أبصارنا، نكتب كي نرى أوطاننا كما كان يجب أن نراها قبل سرقتها، والتنكيل بها، وخطفها، وتقديمها لنا على طبق من دم، نكتب كي نستعيد رائحة تضاريسها وألوان صباحاتها ومساءاتها من جديد. نكتب كي نرى الألوان كما هي في الأشجار والأرض والبحر والطير والهواء والقلوب والحروب واللغة، نكتب كي نعيد ترتيب الفوضى وسقف العبث، ونطرح أسئلتنا بحرية عينيّ نسر محلّق..
الكتابة أشبه ما تكون عملية إعادة تشكيل لوظائف كرياتنا البيضاء؛ نحرص أن تتم بأقل الأضرار، فنحن نعلم جيدا أنه قد نكون ضحايا لهذه العملية، إذا لم نوقد ما يكفي من نار لعتمتنا، فالنار القليلة تحرق صاحبها، وإذا لم نقم ما يكفي من أعراس لعودة الوعي لكرياتنا الحمراء، فالوعي القليل انتحار بطيء، ولهذا، سقط بعضنا في إدمانٍ آخر، ونارٍ أخرى، ونزيفٍ مزيّف، وطريق لا تؤدي إلا إلى لا طريق..
وفي رحلتنا هذه سيتهمنا البعض بالجنون، وبالخيانة، وباللامبالاة، وبالعبث، وبأصحاب العقد، وبالخياليين والرومنسيين، سيتهموننا بأننا لا نعيش في الواقع، وبالتمرّد، وبمعاداة العادات والتقاليد والأعراف وبمشاكسة المحظورات والمحرمات، وفي الواقع، نحن نحاول ردم ما حفروا في أرواحنا من متاهات، وما أحدثوه من ثقوب، لكنهم يتذمرون ويغضبون إلى حد قد يحشدون كل ذرائعهم كي يقيموا علينا الحد، لأنهم بكل بساطة التفاهة، يرون ما زرعت عقولهم بنا، ونحن نكتب للنّجاة، لاكتساب العقل الأنقى، وتربية أجنحة من نور، وألسنة من نار، وقلوب من حرير.