تدوين - حوارات
تشارلز سيميك (1938-2023) شاعر ومترحم وكاتب أمريكي من أصل صربي. نال جائزة البوليتزر في فئة الشعر عن ديوان "العالم لا ينتهي" في عام 1990. كما حصد جائزة الأركانة العالمية للشعر عام 2019. واختارته مكتبة الكونغرس الأمريكية لشغل منصب شاعر أمريكا الرسمي في عام 2007. ومن أبرز مؤلفاته "تفكيك الصمت"، و "الصوت في الثالثة صباحاً" و "ذبابة في الحساء" و "المجنون" و "كتاب الآلهة والشياطين". تستعصي أعمال سيميك على التصنيف. فبعضها يعكس نزعة سريالية وميتافزيقية، والبعض الآخر يسرم صوراً واقعية كالحة للعنف والقنوط.
من خلال قراءتي لعدة لقاءات مع الشعراء الآخرين، أجدهم يميلون إلى الاعتقاد بأن ما يلهمهم لكتابة الشعر، إما أن يكون الصوت أو الصور. هل تشعر بوجود فارق بالنسبة لك؟
أظن أنه من الصعب التعميم. وسيكون أمراً مخادعاً لو قال المرء ببساطة: "جميع قصائدي تبدأ بصور". فليس هذا صحيحاً. يراودني في أحايين كثيرة شيء يشبه الصوت في رأسي، حتى قبل أن تحضرني الكلمات. ثم تأتي الكلمات ولا يكون لدي فكرة عما سيحدث؛ لكن الأمر يبدأ بهذه الطريقة. وتارة تأتي صورة، وتارة أخرى لا تكون مجرد صورة أو صوت، بل فكرة اختبرتها، شيء وقع لي ثم أدونه. وفي النهاية إما يصير هذا الشيء قصيدة أو يكون سبباً في ولادة قصيدة مختلفة تماماً. لو قلت لنفسي: "هذه هي الطريقة التي أعمل بها وهذا ما أحتاج إلى أن أفعله"، ستكون الكتابة يسيرة. في ظني أن معظم الشعراء، واعتبر نفسي من هذه المجموعة، ليس لديهم أدنى فكرة عن موعد قدوم القصيدة التالية. لقد سألت أصدقاء يقرضون الشعر منذ أربعين أو خمسين عاماً، ولم يجدوا جواباً! لو طرحت عليهم هذا السؤال سيقولون: "حسن، كما تعرف، أحياناً بهذه الطريقة، وأحياناً بطريقةٍ أخرى". وأنا مدرك أن هناك شعراء يصرون على وجود طريقة واحدة، مثل الإصغاء إلى صوت أو موسيقى، أو المرور بحالة من السمو الوجداني، إلخ. لكن ذلك لا ينطبق علي.
عطفاً على السؤال السابق، أود الحديث عما يصفه معظم القراء بالموسيقية في قصائدك. هل أنت شاعر جاز؟
هذا السؤال يبدو رائعاً؛ لكن الإجابة كلا. فأنا مولع بموسيقى الجاز، وقضيت وقتاً طويلاً أصغي إليها وأرتاد نوادي الجاز. ولا يتراءى لي أن ثمة علاقة. يظن الناس دائماً أنك ترتجل؛ لأن الجاز ارتجال. ولكني لا أجد صلة بين الأمرين. ربما تلهم الموسيقى المرء، كالموسيقى الكالسيكية. وفي الأغلب أكتب وثمة موسيقى في الخلفية، مثل باخ أو موتسارت أو هايدن، وهذا كله ملهماً.
تحدثت في بعض الحوارات والمقالات عن الشعر باعتباره وسيطاً يحاول استخدام اللغة لنقل ما لا يمكن التعبير عنه. هل بوسعك الإسهاب في هذه النقطة؟
أعني أن الشعر هو الصورة الصوفية من اللغة، وعلاقة اللغة بالواقع. دائما يراودني حدس، بل نوع من التجربة، بمعنى حينما أتأثر بعمق أو اختبر عالماً بكل حواسي وعقلي في حالة استثنائية من الوضوح، مثل تأمل منظر طبيعي أو غيره، ولاحقاً حينما اعتزم الكتابة عنه تعجزني الكلمات، شأني شأن الكثيرين. وأشعر أن اللغة -بطريقة ما- لا يمكن أن تفي هذه التجربة حقها في التزامن أو الكثافة، والتي يتضافر فيها الذهن والحواس وأي شيء آخر معاً بطريقة معينة. حينما تكتب عليك أن تختار وتنتقي. وتأخذ كلمة أو عبارة صغيرة وتدونها، أو تقول: "الآن"، وتجرب مجدداً. وأظن أن بوسع المرء أن يجد مكافىء له في النهاية، كنوع من الاستحضار أو الاستدعاء؛ لكن هناك دوماً إحساس بالفقدان، شيء متروك لا يمكن وصفه أو التعبير عنه. وهذا ما أقصده.
قصائدك مترعة بالفلسفة. وثمة مقولة لإيمرسون: الفيلسوف الحقيقي والشاعر الحقيقي شخص واحد. وكلاهما ينشدان الجمال، الذي هو الحقيق، التي هي الجمال". اتوقع أنك قد لا تتفق مع مقولة إيميرسون بعض الشيء.
تبدو مقولة رائعة؛ لكني أظن أن ثمة اختلاف عميق بين الفلسفة والشعر. فالشعراء لا يُقبلون على ما يهتم به الفلاسفة. الفلاسفة ينصرفون، في النهاية، إلى فهم بعض الموضوعات الأساسية مثل: المعرفة، وطبيعة الواقع، وكيفية إدراك الحقيقة، والنسق الميتافيزيقي، والمسائل المادية، وطبيعة الوجود. وقد قرأت ذات مرة في أحد المقالات أن الميتافيزيقيا التي يمارسها الشعراء هي ميتافيزيقيا خفيفة. ويميل الشاعر إلى الاهتمام بالواقع الملموس للعالم، ويبدأ بما حوله. والشاعر البارع لديه حدس، أو شعور، حينما يؤدي شيئا ما، أ, تجربة، أو مجموعة من الوقائع، إلى مضامين أكبر. وقد برع فروست وستيفنز في هذا الأمر. فكانا يثيران أسئلة عظيمة ومسائل إيبستمولوجية من واقعة أو أمر صغير. لكن الشاعر لا يقفز الى نقطة معينة. لا أضغط بشيء على القارئ. بل أدعه يختبر بصورة كاملة وطأة الموضوعات. والشاعر لا يضع شيئا تحت مسمى أو وصف. إن الشعر يبدأ بالأشياء وليس بالأفكار مثلما يقول ويليام كارولز ويليامز.
وتأمل الأشياء سيفضي إلى الأفكار لاحقا. وهذا بالنسبة لي اختلاف جوهري. وثمة مسألة أخرى أيضا مثيرة للإهتمام، وهي النزاع بين الفلاسفة والشعراء، منذ أفلاطون حتى الآن، وأتذكر أنه في أحد الحفلات سألني أستاذ في قسم الفلسفة مازحاً: "ماذا تريدون حقاً أنتم معشر الشعراء؟". وهذا سؤال ممتاز. نريد أن تعبر عن كل شيء يقوله الفلاسفة دون أن نعبر عنه بطريقتهم!
أعتقد أن شعرك يتعلق بالرؤية الهامشية، إذ تركز غالبا على تفاصيل تبدو هامشية في العالم من حولك، وتثير قصائدك الدهشة حينما تتحرك من تفصيل هامشي إلى آخر. ما الذي يناله الفنان من توجيه انتباهه إلى الهامش عوضا عن المركز؟
سؤال جيد. لا أعرف إن كانت لدي نظرية بشأن ذلك، لكني أعتقد أنه إحساس مبكر باختبار العالم ومعرفته. مثلا، أتذكر أن جدتي توفت حينما كنت في العاشرة من عمري. وكنت أحبها كثيرا، لأنها كانت ترعاني. وكانت العادة وقتذاك أنهم لا يأخذون الموتى إلى قاعات العزاء بل يتم ذلك في المنزل، ويضعونهم في غرفة يجلس فيها المعزون وأنا واثق من أنني مررت بهذه التجارب، لكني أتذكر ذلك اليوم لسبب ما، وبسبب الجلوس لوقت طويل هناك تبدأ في ملاحظة أشياء صغيرة في الغرفة بدلاً من النظر إلى جدتي، لكن الناس من حولك، وياقة قميص أحدهم بالية، وثمة لطخة على الحائط في إحدى الزوايا لم تلحظها منم قبل، رغم أنك قضيت طويلا في هذه الغرفة. يراودني دائما ذلك النوع من التجارب. ولذا بت أؤمن أن مفتاح المشهد أو التجربة يحدث بمنأى عن الأنظار. أنه هناك، لكننا لا نراه أحيانا. وفي لحظات الانفعال القوي، أو لأسباب أخرى، مثل سأمنا من الجلوس في مكان ما في انتظار أحدهم، نجول بأعيننا فيما حولنا، وفجأة نلاحظ الأشياء. إن العالم، أ, الواقع العادي، يصير معجزة إذا فتحنا أعيننا وانتبهنا إلى ما يكمن أمامنا طيلة الوقت. إننا مخلوقات تعتاد الروتين، ولا نرى كثيراً، لكننا نبصر في اللحظات الاستثنائية، ونصاب بالدهشة. كيف لم ألاحظ هذا الأمر من قبل؟ ويصير الموقف مؤثرا حينما يلاحظ المرء الأشياء. شيء ما يتهشم بخفة، شيء يبلى أو يشيخ، عنصر، شخص، مهما يكون. إنني لا أكتب نظرية عظيمة عن هذا الأمر. بل يصير جانبا أساسيا في جمالياتي.
لم أقرأ كل كتاب "المسخ يعشق متاهته" لكن تجذبني تلك الشذرات والمقتطفات والأسئلة، ومنها: "الأمل هو أن تصير القصيدة أفضل من الشاعر" هل هناك شعراء سيئون يكتبون قصائد عظيمة؟
إن كنت تممتلك حسا فستعرف حدود كشاعر أو حرفي، أو أي شيء آخر، ولذا تتمنى أن تحدث معجزة وتسمو القصيدة فوق هذه الحدود. وفي إعتقادي أن ثمة أمثلة عديدة عن الشعر في التاريخ. لو قرأت السير الذاتية للشعراء، ستجد أن العديدين منهم لم يكن محبوبا أو ذكيا. ليسوا من الطراز الذي بوسعك تقديمه إلى أبيك وأمك، وبرغم ذلك كتبوا قصائد عظيمة. لقد كتب الكثير من الناس قصائد عظيمة. وهذا هو المغزى من هذه العبارة.
ذكرت عدة مرات هوسك بمراجعة قصائدك. في لقاء مع مارك فورد في "باريس ريفيو" قلت:" حتى حينما أتمدد في تابوتي، قد يجدونني أراجع قصيدة" هل المراجعة عملية ممتعة أم مؤلمة بالنسبة لك؟
إنها ممتعة غالبا، وأحيانا أتسائل بضيق:" ألن ينتهي هذا الشيء؟" لكني أحب المراجعة.
نشر الحوار في الموقع الرسمي لجامعة أوكلاهوما سيتي.