في شهر آذار، الذي خصه محمود درويش بقصيدة، وخصتهُ وزارة الثقافة الفلسطينية بيوم الثقافة، وفيه يُحتفى بيوم الشعر العالمي، وبيوم المسرح العالمي، يمكن لنا مجدداً أن نلحظ أن الفعل الثقافي في فلسطين ما زال يبدو تائهاً باهتاً، غير جاذب، بل طارد. وذلك على كثرة الفعاليات التي تُطلقها مؤسسات رسمية وشبه رسمية وأخرى غير حكومية، وعلى الرغم من محاولات بعض المثقفين بناء مشروعهم الفكري أو تركيز مجهودهم الثقافي كي يكون أقرب ما يكون إلى القاعدة الجماهيرية في محاولة فكاكٍ من النخبوية، إلا أنهم يسقطون في خانة الحديث إلى أنفسهم ودوائرهم المغلقة، إما بفعل إقصائهم القصدي، أو بفعل أن طرحهم استنفاعي ذاتي بالأساس. علاوةً على أن بعض المؤسسات والجهات الثقافية، تحاول أن تقدم الثقافة باعتبارها عالماً متعالياً، أي معرفة غير قابلة للتحصيل أو التجاوز، وأنها محددة بفئة أو مجموعة معينة هي القادرة حصرا على التنظير في معنى الثقافة، وماهيتها، وطرح عناوينها. كل ذلك، نتيجتهُ، أن تصبح الثقافة الفلسطينية ثقافةً شاحبةً، لأنها أُفقِدت الروح، فعمت كل المعاني المشتقة من الثقافة لتوصيف حالها: مثقفي، متثاقف، تثاقف؛ وخلت من علاقة الثقافة بمعناها الحقيقي، أن تكون ثقافة معبرة عن الفلسطيني في زمن ومكان اللحاق بـ "الآن".
سؤال الثقافة الفلسطينية الراهن هو المقدرة على التعبير عن الفلسطيني الذي يعيشُ اليوم، وليس عن ماضيه فحسب، بل المقدرة على التعبير عن الفلسطيني الذي يسكنُ في المخيم، كما الذي يسكنُ بالقربِ من مقر المقاطعة في رام الله، مثل الذي يسكن في حيفا. إنه سؤال متعلق بما يحصل الآن في هذا الحيز المكاني من اليومي المعيش، الذي يصبحُ فيه الحدثُ مهما كان بسيطاً سؤالاً ثقافياً. هو سؤال عن علاقة الثقافةِ بالسياسة بالواقع بالفاعلين فيه. ولربما يجدر الانطلاقُ منه كي نستطيع فهم ما تعنيه الثقافة الفلسطينية اليوم، أو كي نكون قادرين على توطين الثقافة فلسطينياً، والنظر في مقدرتها التحويلية بما هي بعث وتغيير، والتي تبدأ أولاً باستعادة العلاقة بين الثقافة وموضوعها أو ما بين قيمها الأساسية التي تتمحور ثقافةُ شعب من الشعوب حولها.
وبذا يصبح سؤال الثقافة الفلسطينية سؤالاً عن ماهيتها، ما هي الثقافة الفلسطينية اليوم، وكيف يمكن تحديدها، وما هي خصائصها؟ ووفق أية مقاربة يجب تعريفها؟ هنا تبرزُ حالة الانفكاك، التي تميز الحالة الثقافية في فلسطين، الانفكاك ما بين الثقافة وما بين اليومي المعاش، وهو الذي جعل من الحديث عن الثقافة مسألةً ترفٍ، أو مسألةً مستثناةً سياسياً.
ولا يبدأ فصل الثقافة عن اليومي المعاش إلا بفصل الفلسطيني، عن واقعه المعاش، واستبدال هذا الواقع بآخر متوهم، لا يُعبر ثقافياً عنه، لأنه تتجاذبه حالتان: الأولى فلكلورية السمات، تُختزلُ فيها الثقافة إلى عناوين وتعبيرات فلكلورية، وتقودها بشكل أساسي المؤسسة الرسمية، والتي تحاول منذ أوسلو أن تعوض عن المفرّط فيه بالإيحاء بتمسكها بماضي الفلسطينيين وتراثهم وتاريخهم، دون أن تحقق تقدماً جدياً على هذا الصعيد. وهي أيضا بهذا الادعاء الثقافي، تحاول أن تعوض عن خسارتها لشرعية أن تكون المركز أو بوتقة صهر الفلسطينيين من أجل إنتاج هوية ثقافية وطنية. في المقابل، تتلبس أيضاً بخدعة الثقافة الفلكلورية بعض النخب الاقتصادية الفلسطينية، التي تحاول أن تخلق حالةً من التوازن بين مشاريعها الاقتصادية، وما بين عدم اتهامها بالتطبيع. فتكون بوابة الثقافة، مخرجاً مفيداً لها، ويكون عاملاً مساعداً من جهة أخرى في تسليط الضوء على جوانب ثقافية لا تسبب إحراجاً أو تهديداً لعلاقاتها ومصالحها الاقتصادية. إن العلاقة ما بين الثقافي والاقتصادي فلسطينياً هي بحد ذاتها علاقة ملتبسة وفيها الكثير مما يقال، والذي يحتاجُ للوقوف عنده مطولاً.
أما الحالةُ الثانية، فتبدو متعارضة مع الأولى، فيها الكثير من الحداثة والانفتاح واستحضار تجارب ثقافية مقارنة، تساهم في زيادة انعزال الفلسطيني عن واقعه لأنها تؤكد له أنه لم يلحق بعد بركب الحداثة، بينما، وفي نفس الوقت، تواجهه بإيحاء أن ثقافته أكثرُ حداثة منه. وإذ كنا ندعو إلى اللحاق بـ "الآن"، فهذا اللحاق يعني فهمنا أن لحظة "الآن" هي لحظة متحركة دائماً لا تنتظرُ أحداً، وأنها عملية نبني فيها وخلالها أنفسنا وما حولنا، لأنها لحظةُ علاقة مع الزمن، وعن معنى وجودنا فيه، وعن كيف نعرِّفُ أنفسنا فيه. كان الفلسطيني يُعرَّفُ سابقاً ببندقيته مثلما كان يعرف بأدبه وفنونه، بروائيه وشعرائه، كما بالسياسي الفدائي، فبماذا يعرف الفلسطيني اليوم؟ إذا استطعنا مواجهة الإجابة على هذا السؤال، حينها نكون قد أدركنا شيئا من معنى الثقافة التي نحتاجها فلسطينياً.