تدوين- فراس حج محمد
يستطيع القارئ أن يفكر برسم بعض ملامح لشخصية علي بن أبي طالب، هذه الصورة المتخيلة التي قد تبدو ونحن نقرأ شيئا من مرويات التاريخ. فقد جاء في كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير وصفه- رضي الله عنه- لابنة حاتم الطائي سفّانة بعد أن وقعت في الأسر، فقال: "لما أتي بسبايا طيئ وقفت جارية حمراء لعساء ذلفاء عيطاء شماء الأنف، معتدلة القامة والهامة، درماء الكعبين، خدلة الساقين، لفاء الفخذين، خميصة الخصرين، ضامرة الكشحين مصقولة المتنين. قال: فلما رأيتها أعجبت بها وقلت لأطلبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلها في فيئي".
أتذكر هذه الصورة كم استفاد منها مخرج أحد الأعمال الدرامية عندما جسدت الممثلة المصرية عفاف شعيب دور بنت حاتم الطائي، بجسمها المكتنز عندما حضرت ذلك المشهد منذ زمن بعيد، وإني إلى الآن أقرن بين الشخصيتين دائماً، فعندما تذكر أحدهما تحضر الأخرى تلقائياً.
الآن، ما هي أوصاف علي بن أبي طالب المستنتجة من هذه الرواية- إن صحت؟
- رجل لا يغض الطرف، بل يمعن في اختراق جسم هذه المرأة التي أثارت انتباهه. وهذا يعني أيضاً أنه قادر على وصف كل امرأة يراها، وأن عقله مليء بصور لنساء كثيرات.
- رجل يقدر الجمال ويحترمه، ويقول فيه ما يجب أن يقوله حسب قناعته.
- جريء لا يخشى شيئاً.
- فحل وذو مقدرة جنسية واضحة، وسأفصّل القول بهذه الصفة لاحقاً، وكيف تم اقتباسها لتكون جزءا من صورة عليّ.
- بليغ فصيح: وظف بلاغته في هذا الوصف الذي يقربها للذهن، بحيث كان يرسم بالكلمات، ولا يستطيع أن يرسم بالكلمات بهذه الطريقة إلا من نظر فتأمل وتأنى، وأطال، وتدبر، وتأثر، فقال وأفاض فيما قال، ولذلك لم يبتعد المخرج في اختياره عفاف شعيب لتجسيد الشخصية.
هذه الصورة المتخيلة لعليّ بن أبي طالب تؤكد أن المرء هو لغة، أو كما قالت العرب: "المرء مخبوء تحت لسانه"، ويؤكد هذا كذلك الفكر المعاصر حيث قال أحد الفلاسفة: "تكلم حتى أراك". وقد تكلم عليّ وأبان صورة من نفسه في النظر إلى النساء.
هذه الصورة المتخيلة أو المرسومة لعليّ بن أبي طالب تكشف عن مدى تقبل المجتمع في ذلك الوقت لسماع مثل هذه الأوصاف التي كانت دارجة في المجتمع، ويشاهدونها على أرض الواقع ويرسمها الشعراء في قصائدهم، بل لم تكن تخفى على أحد، يراها الجميع، فينفعل، فيكتب شعرا أو يتمنى أمنياته بينه وبين نفسه، ولا شيء عليه في الحالتين، ونقل تلك الأخبار والمرويات، والاعتراف بها.
الأوصاف التي أتى بها علي بن أبي طالب لسفانة بنت حاتم الطائي، وقد أصبحت صحابية بعد أن أسلمت، يغلب عليها البعد "الأيروتيكي" الشهواني الذي يبين مكامن الشهوة في المرأة، شفتيها، فخذيها، ومحيط خصرها، وساقيها. فقد جاء في المعاجم العربية تفسير لهذه الأوصاف وسأتحدث عن بعضها:
لعساء: اللعس سواد مستحسَن في باطن الشفة، وهو صفة جمالية، لها ارتباط بشهوة التقبيل، فتثير ذلك في الرجل، خاصة وأن المعاجم أيضا تقول إن اللعس في النبات يعني: "كثُرَ والتفَّ لأنه من رِيِّه يضرب إِلى السواد"، هذا التداخل بين الريّ والكثافة والسواد، يبين دلالة اللفظ الشهوانية أو الدافعة لإثارة الشهوة.
دلفاء: تمشي رويدا، وتقارب الخطو من سمنها. هذه صورة مستحسنة لدى النساء في العصر الجاهلي، وتشير إلى استمرار المقاييس الجمالية في العصر الإسلامي، إذ كان يفضل العربي عموما المرأة السمينة، لأنها كما يعتقدون أمتع عند الجماع. فقد قال شاعرهم: "تروي الضجيع"، وهذه الصورة أيضا ذات بعد أسطوري يشير إلى الخصوبة والجمال معاً.
عيطاء: طويلة العنق، أيضا هذه صورة معروفة لدى العربي، ويفضلون المرأة ذات الجيد الطويل، "بعيد مهوى القرط".
وكذلك القول في كل تلك الصفات التي أسبغها علي بن أبي طالب على سفانة بنت حاتم الطائيّ. وقد لا تكون إلا صورة متوهمة غير حقيقية، بمعنى أنها فقط صورة ذهنية لا واقع لها بكل تلك التفاصيل، كما جاء في خبر آخر يرويه راويه على أسماع عبد الملك بن مروان، فيه هذه الألفاظ وغيرها، فاجتماعها معاً يدل على استحالتها، "فقال ويحك وأين توجد هذه. قال: تجدها في خالص العرب، وفي خالص الفرس".
والآن؛ هل تعد هذه الصورة المستقاة لعليّ صورة غريبة؟
لا أعتقد أن هذه الصورة يمكن أن تخدش صورة الصحابي الجليل الذي كرم الله وجه، زوج سيدة النساء فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم. بل إنها صورة يتصف بها كل الرجال عموما إذ تلفت نظرهم المرأة بصفاتها الجمالية تلك، واستدلال الباطن المخفي من دلائل الظاهر العلني، وكانوا في الأغلب يتمتعون بفراسة كبيرة في هذا المجال.
عدا أن هذه الصورة للمرأة صورة مستقرة في عقول الرجال وصناع الثقافة، وتسوّق في كل الأندية، وهي من المقبول والسائد على الرغم من إيحاءاتها الأيروتيكية التي لم تكن لتثير ضد المتحدث به أي اتجاهات سلبية، كما أسلفت. بل إن بعض هذه المرويات أخذت طريقها إلى العقل الجمعي العربي، وصارت من الأدب الشعبي. إذ يلاحظ أن الأدب الشعبي لأي شعب فيه كثير من الأمثال والقصص ذات الإيحاء الجنسي، إلا أنها تعاد وتستعاد دون أن تثير الاستهجان أو الاستياء بين من يتداولونها.
هذه ملامح لصورة عليّ الرجل الذي يعيش ويتصرف ضمن ثقافته السائدة الشعبية، لكنْ ثمة صور أخرى لعليّ في مرويات أخرى يبدو فيها شجاعاً مقداماً، ومقاتلا شرسا، أو حكيما أديباً، شاعرا وبليغاً، وحاكماً عدلاً، إذ لا تؤخذ للمرء صورة كلية من خبر واحد، إنما هي عدة أخبار وروايات تتضافر كلها لتعطي الرجل- أي رجل- أو أي شخص صورته المتكاملة، على الرغم من أن هذه الصورة المتخيلة لعلي من خلال خبر ابن كثير لا تتناقض مع جوانب شخصيته الأخرى التي تقدمها روايات أخرى، إذ إن هذا الجانب معترف به في شخصية الإنسان الطبيعي، ولا شيء فيه إن وجد، بل ربما لا بد من أن يوجد.
وعلى هذا المعنى وقف بعض المفسرين عند ضرورة ذكر فعل الهمّ في قصة سيدنا يوسف القرآنية، ليؤكد بشريته، واستعداده الكامل لما يفعله الرجال لولا وجود برهان ربّه. فامتناعه ليس عن ضعف فيه، وإنما عن عصمة وتقوى، وهذا أدعى ليكون من المُخلَصين. ومن كمال النبوة- كما تذكر الروايات ذات العلاقة- القدرة الجنسية، وفي ذلك كثير من الروايات التي تتصل بحياة الأنبياء، عليهم السلام.
تومئ هذه الأوصاف التي قدمها علي بن أبي طالب لسفانة أيضا إلى صفة "الفحولة" والعرامة الجنسية التي كانت معروفة عند علي بن أبي طالب، فلغة المرء ليست محايدة، وإنما لها دلالات نفسية، فقد وصف علي نفسه في حديث آخر: "كُنتُ رَجُلاً مَذَّاءً، فَاسْتَحْيَيتُ أَن أَسأَل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لِمَكَان ابنَتِهِ مِنِّي، فَأَمرت المِقدَاد بن الأسود فَسَأَله، فقال: يَغْسِل ذَكَرَه، ويَتَوَضَّأ". ولا يستطيع الرجل "العِنّين" أن يستخرج أوصافا للمرأة ذات بعد أيروتيكي إن لم يكن فيه شهوة للنساء، ويثيره جمالهنّ للجماع، ولذلك ترى الشعراء إن خبت عندهم نار الشهوة مالوا إلى الزهد والتنسك، وتحسروا على مآل حالهم كما قال أحدهم: "ألا ليت الشباب يعود يوماً، فأخبره بما فعل المشيب"، وماذا فعل به المشيب سوى أنه أصبح عاجزا مع النساء، وربما إلى هذا المعنى اللطيف جدا أشار القرآن الكريم في حديث زكريا عليه السلام عن نفسه عندما بشره الله أنه سيكون له ولد وقد بلغ من العمر عِتياً، فقال في معرض الدعاء وإظهار الضعف: "رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا".
ويعزز هذا الفهم ويؤكده ما جاء في قول شاعر آخر واصفاً حال النساء، وما يرضيهنّ في الرجال، وما يجعلهنّ ينفرن منهم:
فَإِن تَسأَلوني بِالنِساءِ فَإِنَّني بَصيرٌ بِأَدواءِ النِساءِ طَبيبُ
إِذا شابَ رَأسُ المَرءِ أَو قَلَّ مالُهُ فَلَيسَ لَهُ مِن وُدِّهِنَّ نَصيبُ
يُرِدنَ ثَراءَ المالِ حَيثُ عَلِمنَهُ وَشَرخُ الشَبابِ عِندَهُنَّ عَجيبُ
هكذا رأى الشاعر النساء وطبعهنّ، وفي الشطر الثاني من البيت الثالث ملخص الحكاية وسرّها؛ فشرخ الشباب عجيب في أن المرأة تفضل الشباب والصحة، بما تعنيه من قدرة جنسية، فهو مقدم عندهن على المال، لذلك قال "وشرخ الشباب عندهنّ عجيبُ". فقدرة الرجل الجنسية تغفر فقره في كثير من الأحوال، وتزخر المدونة العربية بأخبار كثيرة تنطلق من هذا الاعتبار الإنساني الحيويّ المهمّ التي تريده النساء، عدا ما تؤكده الأمثال الشعبية، فقد درجت القناعة الشعبية على أنّ المرأة تحتاج إلى "خُرُجْ يِدُرّ، وإير يِكُرّ".
وكلما أفاض المتحدث باللغة الإيحائية كانت هذه اللغة أكثر دلالة على فحولته، إذ إن الموقف الذي تحدث فيه عليّ بن أبي طالب كان- على ما يبدو- عفويّاً، غير شعري، إنما هي لغة مما يفيض به المتحدث معبرا عن إحساسه الذاتي في اللحظة التي يتخلق فيها الكلام النفسي، أو ما يعرف بالخاطر أو الهاجس الأول، فجاء الكلام كما يجول في خاطره، إذ إن عملية استدعاء الوصف بهذه اللغة تؤكد هذا الذي اعتمل في نفس عليّ، وكأنه اشتهى سفّانة. وهل في ذلك عيب؟ وهل يمكن ألا يشتهي رجل امرأة مكتنزة بهذه الأوصاف؟ إن اللغة بهذه الأوصاف تقول إن عليّاً قد اشتهى وتمنى، وهذا ما أفصح عنه في نهاية الرواية بقوله: "فلما رأيتها أعجبت بها وقلت لأطلبن إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يجعلها في فيئي". أي أن تصبح جارية له، ملك يمينه، ليتمتع بها.
لكنْ، ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، لاسيما أن بقية الرواية أبانت أن هذه "الجارية" المسبية ابنة سيد من سادة العرب. فماتت شهوة علي في نفسه، ولم يبق منها غير هذه الألفاظ التي دلّت عليها، ولن يحاسب عليها، إنما هي حديث نفس، معفيّ عنه، وكما قال الرسول الكريم في هذا الجانب تحديدا: "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"، ولذلك بقيت الفروج بعيدة، لم تتماسّ، وخلّفت الشهوة النفسية أوصافا لغوية لا أكثر.
وبقيت مسألة في هذا الباب، وهي أن الروايات التاريخية لا يعوّل عليها، فقد تكون مكذوبة، أو مختلفة بين مصدر ومصدر، ومتزيّد فيها حسب شهوة الراوي؛ إذ لا تخضع الروايات التاريخية في النقل إلى تلك القواعد الصارمة في نقل الحديث الشريف.
وربما كانت مُختلقة لأهداف شتى، أهونها أن تكون خبرا للمتعة، يقضّون بها وبأمثالها من القصص أسمارهم، لكنها في كل الأحوال، إن صحت أو لم تصحّ، تعبّر عن أحوال الناس، وأفكارهم، ووجدت في مصادر تنتمي إلى تلك الحقبة الزمنية التي لا فرق كبير بين أن تكون واردة عن عليّ بن أبي طالب أم غيره، إنما هي رواية تاريخية وردت في عقل شخص ما، تحمل صورة ضمنية لقائلها، ضمن سياق ثقافي شائع ومستقرّ. وهذا أهم ما في الرواية كلها، ولذلك تكتسب هذه الروايات أهمية كبرى في تحليل ذلك السياق ودلالاته الفردية والجماعية.