تدوين- تغطيات
إبان الحرب الأهلية اللبنانية، وعندما كانت الناس تقتل على الهوية عام 1978، علم الكاتب الجزائري واسيني الأعرج الذي كان يقيم في دمشق آنذاك بإحياء فيروز لحفل في مسرح قصر البيكاديللي، وعندما أتيحت له الفرصة للدخول إلى هذا الفضاء الكبير والمليء بعناصر الدهشة والإبهار كما يصفه، بقي عالقا في ذهنه وأعماقه صورا عديدة، لم يتمكن غبار الزمن من جليها عن ذاكرته، ما ولّد بداخله دافعا ليعود إلى المكان بعد سنوات طويلة، ويرى ماذا فعل به الزمن وكيف أصبح هذا الصرح الثقافي الهام، بعد أن أحرق وأغلق، ومن هنا انطلقت رحلة واسيني الأعرج في كتابة رواية "عازفة البيكادللي" الصادرة عن دار الآداب، والتي بحث فيها عن مجد المسرح الكائن في شارع الحمراء البيروتي.
وتروي "عازفة البيكادللي" قصة عازفة بيانو على المسرح الشهير الذي كانت تصعد من إحدى زواياه الآلة الموسيقية، وما إن ينتهي العزف حتى تنزل مجددا.
عام 1965 افتتح مسرح قصر البيكاديللي، بمساحة تزيد عن ألفي متر مربع، بقاعة تتسع لحوالي 800 شخص، تميزت بمقاعدها المخملية الحمراء، وزينت جدرانه بصور لكبار الفنانين.
والبكاديللي هو اسم مستوحى من أحد مسارح لندن الشهيرة، "بيكاديللي سكوير" وكان أول صرح فني ثقافي في شارع الحمراء، وأحد أهم المسارح البيروتية وأضخمها، وارتبط اسمه لاحقا بفيروز والأخوين الرحباني، الذين قدموا أعمالهم على خشبته.
وفي العام 2000 شب حريق داخله وأتى على معظم محتوياته النفيسة، ما أدى لإغلاقه.
وفي ندوة عقدتها مجلة غرفة 19 بعنوان "ذاكرة حريق"، بإدارة الأديبة اخلاص فرانسيس، عرج واسيني الأعرج على أهمية مسرح البيكاديللي كمكان ثقافي له رمزيته، إذ كان البيكاديللي مكانا يجمع كل القوى، ولم يقصف طوال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت ل 15 عاما، كما أنه جمع أناس من اتجاهات مختلفة، في زمن كانت فيه بيروت عاصمة عربية ديمقراطية.
وبإغلاق هذا المكان، أغلقت جميع المقاهي الثقافية من حوله، والتي كانت تضم المثقفين العرب من كافة البلدان العربية، وذهابه جعل كل شيء يندثر من حوله، فالخسارات كبيرة في هذا السياق، وفقا للأعرج.
وشارك في الندوة الالكترونية التي عقدت مساء أمس، كل من أ.د جمال مقابلة، وأ.د شريف الجيار، كما تخللت شهادات حية من بعض الضيوف.
وفي مداخلته، قال أستاذ الأدب العربي ونقده في قسم اللغة العربية في الجامعة العربية المتحدة والجامعة الهاشمية في الأردن جمال مقابلة، "إن هذه الرواية هي رواية واسيني المحترف الذي انقادت له شروط الصناعة الروائية مبدعا خبيرا وناقدا يقظا وكاتبا ذللت له كل الإمكانات فكتب بكفاءة يعز نظيرها".
وبحسب مقابلة ركز واسيني في أن يعرب بالشكر المفصل منذ الصفحات الأولى في هذا العمل المؤسسي الذي ينهض لتأليف الرواية، فقد رد الفضل إلى كثيرين جدا ساعدوه من جوانب عديدة ليؤكد أهمية أن تصدر الرواية فعلا جماعيا وعملا أشبه بالمشروع الثقافي والإنجاز الحضاري الكبير، بمسؤولية فردية عن العمل وإقرار بفضل المساهمين بإظهاره إلى حيز الوجود.
وعن الرواية يرى مقابلة أننا أمام عمل فيه من التوحيد والوحدة والاستثارة للقديم والوعي على العلاقة بين الدول العربية والمثقفين العرب والفنون المختلفة.
وفيما يتعلق بشخصياتها اعتبر مقابلة أن شخصيات هذه الرواية تم طبخها وصناعتها ووضعها للقارئ العربي منذ العمل الأول عند واسيني.
من جانبه، قال شريف الكاتب والناقد الأدبي شريف الجيار إن "عازفة بيكادللي هي وثيقة فنية لتاريخ بيروت ولبنان، ولتاريخ التنوير والثقافة والفن في لبنان، وأيضا وثيقة على قدرة الشعب اللبناني في العودة إلى الحياة مرة أخرى، وعلى قدرته على التمسك بالحياة وعلى التمسك بالذاكرة ومثالية ما يعرف بالمستقبل".
وبدأ الجيار مداخلته بكلمة من نص واسيني الأعرج (لولا الذاكرة ما استطعت أن أعيش وأن أتوازن في عالم بارد) وقال: "هنا واسيني الأعرج يعرض لنا ويطرح علينا نصا متوهجا في واقع بارد أليم وكأن هذه الجملة بالتحديد داخل نصه تضعنا من اللحظة الأولى أمام مفارقة داخل بنية الرواية".
لولا الذاكرة ما استطعت أن أعيش وأن أتوازن في عالم بارد
ويرى الناقد الأدبي أن البطل الحقيقي داخل هذه الرواية والشخصية المحورية داخلها، هو مسرح بيكاديللي، فهذا المسرح هو الشخصية المتوهجة الحقيقية التي بنى عليها راوي واسيني الأعرج عالمه، الذي هو عالم إنساني وسياسي وثقافي وتنويري.
كما يرى أن عازفة البيكاديللي تطرح سؤالا ضمنيا، أولا من هي، وثانيا، هل هي فعلا لينا أم أنها بيروت التي يتمنى واسيني الأعرج أن تعود مرة أخرى إلى العزف داخل مسرح بيكاديللي.
وبحسب الناقد الأدبي، في هذا نص يجعلنا واسيني الأعرج نشعر بالنوستالجيا إلى لبنان الممثلة للواقع العربي برمته، من خلال أسئلة ضمنية يضعها في نصه، والتي تتمثل في: من هي العازفة الحقيقة، ما هو الوطن، ما هي الهوية، من هو الإنسان البيروتي الحقيقي، من هو السياسي اللبناني الحقيقي، من هي القيادة التي عاصرت عقودا طويلة داخل الواقع اللبناني، كل هذه الأسئلة مضمنة داخل مسرح البيكاديللي.
في هذا نص يجعلنا واسيني الأعرج نشعر بالنوستالجيا إلى لبنان الممثلة للواقع العربي برمته، من خلال أسئلة ضمنية يضعها في نصه
ووفقا للجيار هذا المسرح هو رمز للتنوير، الذي شعرنا به وتلاحمنا فيه مع الموسيقى اللبنانية الرحبانية وشعرنا بأصوات جميلة في مقدمتها صوت فيروز الذي وصل إلى الجزائر في يوم من الأيام واحتفى به الشعب الجزائري.
ولا ينتصر واسيني الأعرج في نصه للهزيمة والرماد، والنكسة والحريق، بل يعلن في نهاية روايته أن المستقبل قادم بالتغيير الشامل داخل مسرح بيكاديللي.
وجعل واسيني الأعرج من شخصية ايما وهي إحدى الشخصيات الرئيسية في الرواية تكون بمثابة محقق كما رآها الجيار، وكأنه يقول نحن حتى اللحظة لا نعرف من حرق المسرح، كما أننا لا نعلم حتى الآن من حرق مرفأ بيروت، فالقضية واحدة وكأن هذا النص هو نص تاريخي، ولكن بذكاء الأعرج بيروت في الدائرة ولبنان في الدائرة والعالم العربي في الدائرة.
واعتبر الجيار أنه في غير موضع داخل هذه الرواية يلمس راوي واسيني الأعرج على الخروج من الخاص إلى العام، حينما يتحدث عن مسرح البيكاديللي الذي ذكر في هذه الرواية أكثر من مئة مرة. مقتبسا لحوار دار بين إيما ووالدتها لينا عازفة البيانو التي تمثل التنوير البيروتي، والتي تطلب منها ابنتها الخروج، لتجيبها والدتها "إلى أين أذهب، بيروت كلها خراب، لكن الناس مثلنا يقاومون من أجل حياة خارج هذا الرماد". وبهذه الكلمات يرى الجيار أن مسرح البيكاديللي هو مسرح بيروت وشعبها، والشعب العربي برمته.
بيروت كلها خراب، لكن الناس مثلنا يقاومون من أجل حياة خارج هذا الرماد
وفي تعليقه على النص، قال الجيار إن الأعرج استطاع أن يمزج في هذا النص ما بين البعد الإنساني والبعد التاريخي ويضع المتلقي أمام موسوعية في القراءة على المسرح وتاريخه وثقافاته والمسرحيات التي وجدت على خشبته، وأن يضعه أمام الحرائق الشهيرة في الفن والأوبرا، وأمام حرج الشخصية العربية، وأمام وضعها السياسي، وأمام ما يعرف بتغير اللغات والثقافات داخل بنية الرواية.
كما يضعنا واسيني الأعرج أمام أنفسنا كمتلقين عرب لنتساءل، هل سيتكرر حرق الثقافة مرة أخرى، وهل سينتهي التنوير في عالمنا العربي مرة أخرى، وفقا للجيار.
وفي قراءته لنص واسيني الأعرج يرى الجيار أنه يدفع بالقارئ أن يتساءل هل هو ماس كهربائي من أحرق هذا المسرح أم أن العم الذي كان يشرب حرقه، أم أن السلطة هي من أحرقته، أم أن العدو الإسرائيلي هو من أحرقه، كل هذه أسئلة تضع المتلقي حيال الشك من حرق من، ما يعني أنه يراهن على ذاكرة المتلقي، ويضعنا أمام الذاكرة العربية ليقول ينبغي أن تعودوا إلى الخلف حتى تحققوا المستقبل.
ولمشاهدة الندوة كاملة عبر الفيديو التالي: