أطلق الرئس السابق العجيب دونالد ترامب رصاصة الرحمة على أحلامنا وأوهامنا بعد أن فتح صندوق "باندورا" على مصراعيه، لتخرج الأرواح الشريرة كلها، وتهجم علينا لتنهش جسدنا العربي في بلاد الشام وباقي أراضي العرب. لطالما حسبت نفسي من زمرة المتشائمين. كنت أردد حتى مجيء ترامب أن العام 2030 (زائد أو ناقص بضع سنوات) سيشهد الهجوم النهائي للصهيونية عبر إعلان صريح عن ضم الأرض العربية كلها، وعلى رأسها ما تبقى من جيوب في الضفة الغربية. لكنني أثبت أنني مخطئ في توقعاتي: الصهيونية تسير بإيقاع أسرع بفضل رجل الأعمال البسيط والمباشر و"الشجاع" دونالد ترامب.
وعلى الرغم من "تشاؤمي" المفرط الذي كان يرد عليه بعض الأصدقاء بأن الوضع العربي والعالمي ...الخ لن يسمح لإسرائيل بابتلاع فلسطين كلياً، إلا أنني كنت أفكر دائما: هل كان أحدنا سيتردد لو كان في مكان نتانياهو أو أو باراك أو "الراحل" بيرس...الخ في ضم الضفة والجولان؟ ما الذي يمنع من فعل ذلك؟ الحق أقول لكم إنني كنت أفشل في العثور على أسباب تردع القيادة الإسرائيلية عن فعل ذلك. وأحيانا كنت ألجأ إلى ما يكتبه "المحللون" وعلماء السياسة الأمريكيين والإسرائيليين وغيرهم لكي أتلمس الأسباب التي يمكن أن تكبح جماح إسرائيل. لكنني لم أعثر يوما على ما "يطمئنني" إلى وجود قوة أو ظروف نتكل عليها كيما تكون درعاً يمنع عنا الهجمة الأخيرة التي ستجهز على معقل غرناطة الفلسطيني الأخير، وتتجاوزه إلى ابتلاع هضبة الجولان التي تقف وراءها سوريا بعزم واضح، على الرغم من إدراكنا لعدم قدرتها على خوض حرب تحريرية في هذه اللحظة بالذات.
في هذا السياق يجب أن نقرأ تصاعد الكراهية الصيو/أمريكية لإيران والمقاومة اللبنانية. ومهما كنا غاضبين من الشيعة بسبب مواقفهم القديمة من الصحابة وستنا عايشة إلا إن أمريكا وإسرائيل في حاجة إلى إزالة المقاومة اللبنانية من الوجود من أجل أن يمر قرار ابتلاع الأرض العربية بسلاسة. وسواء أعجبنا ذلك أم لا فإن مراكز صناعة القرار في واشنطون وتل أبيب ومعها النخب المفكرة تعد رأس حزب الله هو الرأس الأول الذي تأخر قطافه أكثر مما ينبغي. تدرك الولايات المتحدة مثلما تدرك إسرائيل أن حربا بالمعنى الجدي للكلمة أو مقاومة مسلحة فاعلة وشجاعة بالمعنى الدقيق للكلمة لا يمكن أن تتهدد إسرائيل إلا من جانب حزب الله والمجموعات أو الدول التي تنسق معه من قبيل سوريا أو الجهاد الإسلامي أو حماس خصوصاً إذا تبنت بشكل حاسم خيار المقاومة ومحورها. بالطبع يمكن لحماس أن "تفاجئنا" وتقبل بأن تكون في النهاية تجسيداً وحيداً للدولة الفلسطينية العتيدة في غزة (أو غزة وسينا أو أجزاء من سينا). نعرف أن السياسة "لعبة" معقدة تؤدي المبادئ فيها أدواراً أصغر بكثير مما يفترض بسطاء الناس. وفي هذا الحيز المسمى "الصراع العربي الإسرائيلي" توقفت معظم "القبائل" عن التعاطي مع الحقوق العربية على أنها حقوق تهم الحلف القبلي كله، أو ربما أن إسرائيل قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من تحالف القبائل العربية، وهو ما يعني أنها لم تعد طرفا خارجيا يعتدي على بعض من القبائل أو أملاكها. تعرفون أن إسرائيل هي الملاذ الآمن الأخير، وقد يكون الوحيد، لحماية القبائل العدنانية من بأس القحطانيين، ناهيك عن شر قبائل فارس وأطماع السلاجقة والتركمان.
في سياق مريب "لحل" المشكلة السكانية والسياسية الفلسطينية على نحو "مرض" لورم الهوية الفلسطينية المزعومة التي تمت دغدغدتها في مواجهة الإقليميات العربية المتنافسة والمتناحرة، يفكر المبدعون في هارفارد وبارإيلان وبرنستون والعبرية من أمثال ديرشوفيتز في الطرق التي تلبي احتياجات الفلسطينيين النفسية والعاطفية. وربما نقرأ القلق الذي يعيشه "جيراننا" في عمان في هذا السياق بالذات.
يتجه الأردن نحو "الهاشمية" التي قد تعني فيما تعني فتح المجال لكي يكون الفلسطينيون مواطنين "هاشميين" عاديين إلى جانب "فئات" المواطنين المختلفة "المنابت والأوصول" التي ستصبح كلها هاشمية بحسب التعريف الجديد. كان ملك الأردن قاد سارع إلى التأكيد على تمسك الأردن بحقوق فلسطين وشعبها ورفضه نقل السفارة إلى القدس...الخ ولكن ذلك النفي أمر معتاد في السياسة العربية التي تنفي في النهار وتقر في الليل مثلما اتضح في أكثر من مناسبة فيما يتصل بسلوك زعماء عرب من أقاليم مختلفة بما فيها إقليم فلسطين ذاته.
الماضي مضى وانقضى، وهذا ينطبق على القدس التي لم يعد أحد يتحدث الآن عما فعله ترامب بها، وربما ينطبق بعد قليل على نابلس ورام الله والخليل التي قد نصحو فنجدها أرضاً إسرائيلية مثلها مثل تل أبيب وأورشليم القدس. وكما تعلمون لا يوجد اليوم في أوساط السياسة الإسرائيلية من يمين أو يسار أو وسط من يعارض الرأي القائل بضم الضفة قريبا. وإذا كانت المسافة الزمنية بين ضم القدس وضم الجولان لم تتسع بما يكفي لكي يجف حبر القرار الأول، فإن قرار ضم الضفة قد لا يتأخر أكثر مما تأخر قرار ضم الجولان. القيادة الإسرائيلية تعرف تماما أن العرب إما موافقون ضمنا/سراً، (وأحيانا صراحة/علناً)، وإما معارضون على طريقة سوريا دون أن يكون بمقدورهم فعل شيء. من هنا أهمية الهجوم على إيران والمقاومة اللبنانية وسورية حيث توجد بعض القدرة على "إثارة المشاكل" وخلط الأوراق وتصعيد مقاومة واسعة يمكن أن تمتد إلى الجولان والضفة وغزة وربما الأردن. لذلك يتم استثمار الواقع كما ينبغي داخل لبنان وعلى امتداد الأرض العربية. ولا بد في هذا الاتجاه من عزل حزب الله لبنانيا وعربيا إلى أقصى حد ممكن لأن ذلك مرة أخرى هو المقدمة الضرورية لابتلاع الأراضي العربية دون حاجة إلى مضغها.
كثيراً ما لمنا اليسار لأنه لم يفعل "ما يجب" من أجل أن يربح قلب الجماهير. لكن حزب الله العظيم كشف أنني كنت مخطئاً. حزب الله قدم على امتداد ثلاثة عقود طويلة وعامرة بالعطاء نموذجاً مذهلاً في الذكاء والشجاعة الثوريتين، واجترح معجزات في حربه ضد الجيش الاسرائيلي "الذي لا يقهر". كذلك اجترح الحزب معجزة أخرى تتمثل في طهره الديني والأخلاقي العظيم، وتضحية قادته بدلاً من أن يستغلوا مناصبهم بأي شكل من الأشكال.
اليسار مثل الجبهة الشعبية او البعث القومي متهم بالإلحاد، وهو متهم بعدم الفاعلية في صراعه ضد إسرائيل، ونستطيع أن نضيف إلى ذلك تهم الانحلال وشرب الخمرة وما يختص بشعارات من قبيل "الرفيق للرفيقة والشبل للتنظيم....."الخ وهذه كلها هنات يمكن أن تستغل لتقويض شرعية هذا اليسار.
لكن حزب الله المسلم الثوري المبدع الطاهر دينياً وأخلاقياً، لم ينجح في الصمود في قلب الجماهير السنية المعبأة بقناة الجزيرة القطرية وقناة العربية الإماراتية وقنوات السعودية وأمريكا واسرائيل، وقد وصل نجاح الإعلام "السني" المرتزق حد اعتبار حزب الله والشيعة اخطر من اليهود والصهيونية واسرائيل.
لذلك أود أن أعتذر لليسار والقومية العربية: في مثل هذه التربة، ليس سهلاً أبداً أن تربح. يلزم عمل كثير قبل أن يصبح المواطن العربي، مواطناً عربياً حقاً. إنه ما يزال لحزننا الشديد كينونة ما قبل حداثية متشظية الهوية موزعة الاتجاه بين العائلة والعشيرة والقبيلة والطائفة.
اليوم المسلم السني الذي لا يعرف عن المسيحية أكثر من أنها تقول إن المسيح ابن الله (بالمعنى البيولوجي حسب فهمه) يرى على نحو عجيب أن هناك تحالفاً بين الأرثوذكسية الروسية، ممثلة بفلادمير بوتين وبين الشيعة الاثني عشرية ذات الاتجاه الفارسي الهوى. نظن أن الناس في بلادنا لا تعرف عموما الكثير عن الشيعة أو الأرثوذكس، لكنها تزحف في جموع هادرة على غير هدى. في هذه البيئة الآيديولوجية التي يهيمن فيها فكر ساذج حد الفجاجة يتحرك محور محلي في تناغم مع محور كوني قطبيه بكين وموسكو باتجاه تغيير قواعد المونديال الدولي.
لكن ما زال أمامنا الكثير، الكثير جدا.
يلزمنا العمل السياسي الواضح والشجاع بالوسائل المختلفة من أجل القدس/فلسطين، وسورية والعراق واليمن ومصر، بعيداً، بعيدا جداً عن مشاكل السنة والشيعة وما لف لفها من تفاصيل تاريخية أو "أسطورية" لا علاقة لها بالصراع الفعلي الذي تقوده أمريكا وأدواتها من أجل ابتلاع المنطقة، وعلى رأسها فلسطين. لكن هذا الذي يرجى تحقيقه يحتاج إلى سرعة الضوء من أجل مسابقة الزمن، لقد بدأ العدو هجومه الكاسح النهائي، وما لم ننهض من المحيط إلى الخليج فإن مقولة مظفر النواب ستغدو واقعا لزجا لا فكاك منه: "سنكون نحن يهود التاريخ ونعوي."
من هنا يغدو جليا أن على القوى العربية "الحية" أن تقارع بالنضال المسلح أولا، وبالسبل النضالية الأخرى سيرورة انتزاع القدس والجولان قبل أن تتقدم الصهيونية إلى ضم الضفة، وفرض إسرائيل دولة يهودية كاملة السيادة على فلسطين وسوريا في هذه المرحلة التي قد تتلوها، في حال بقاء أوضاعنا كما هي، مراحل أخرى تتوسع فيها ناحية الأردن أو أكثر.
وعلينا أن لا نستغرب في هذه اللحظة أية أطماع أو أحلام جنونية صهيونية، فقد انفتح الباب على مصراعية بفضل حالة الضعف والاستخذاء للدول العربية التي تتردى لتصل إلى مستوى التآمر والتحالف سرا وعلنا مع المشاريع الأمريكية الصهيونية التي تقرض فلسطين والجولان وتتطلع ببصرها نحو اراض عربية أخرى.
لا نميل اليوم، بعد كل الذي انكشف وانفضح، إلى افتراض أن السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير أو الأردن أو مصر أو أية جهة عربية "معتدلة" ما تزال تتوهم أن التسوية السياسية ما تزال على جدول الأعمال. ولا بد أن العرب جميعا المعتدلين قبل "المتطرفين" قد وصلوا إلى لحظة الحقيقة: إن برامج التسوية منذ منتصف السبعينيات قد هدفت على ما يبدو منذ بدايتها إلى سحب العرب والفلسطينيين بعيدا عن استراتيجة الكفاح المستند إلى القوة بغرض إضعافهم ثم ابتلاع أرضهم. بالطبع لا نميل إلى القول إن إسرائيل وامريكا والصهيونية هي قدر يمسك بخيوط الزمن ومفاتيح الأيام. ونقصد بذلك أن من الممكن أن إسرائيل قد فكرت في لحظات معينة في إعادة بعض الحقوق للعرب مقابل "السلام". لكن ذلك حتى لو صح، فقد أصبح جزءا من الماضي. في الأحوال كلها من البين بذاته الآن أن القوة الذكية الشجاعة القادرة على سلوك درب الآلام لزمن طويل هي الوحيدة التي يمكن أن توقف المشاريع الصهيو-أمريكية. للأسف لم يعد أمامنا إلا الصليب أو مغادرة التاريخ.