الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

إعادة اكتشاف علم النفس

2023-04-06 11:30:31 AM
إعادة اكتشاف علم النفس
لوحة للتشكيلي الفلسطيني ميسرة بارود بعنوان "أجنحة محطمة" 2016 -حبر على ورق فبريانو 140*100سم

يكتب علي الحمدالله لـ تدوين

إذا اتفقنا أن علم النفس هو دراسة علمية لسلوك وتفكير وعقل وشخصية الفرد البشري، فعليه تكون مهمة علم النفس الكشف عن الأسباب الكامنة خلف تشكيل سلوكيات وأفكار وعقليات وشخصيات الأفراد. كما يمكن تصنيف مدارس علم النفس بتصنيف كلاسيكي إلى ما يلي:

  • علم النفس الفردي الذاتي. وهو الذي يحيل الأسباب المشكّلة إلى التجربة النفسية والروحية للفرد ونظام تفكيره، وينظر لنفس الفرد بانفصال عن الجماعة.
  • علم النفس الفردي الموضوعي. وهو الذي يحيل الأسباب المشكلة إلى التجربة الواقعية والبيئية والمجتمعية للفرد، وينظر لنفس الفرد بانفصال عن الجماعة، أي ينظر لنفسيّة كل فرد على حدا.
  • على النفس الجماعي الذاتي. وهو الذي ينظر في سلوك وعقل وأفكار وشخصية الجماعة محيلاً الأسباب المشكّلة إلى التجربة الفكرية والروحية للجماعة ومعتقداتها.
  • على النفس الجماعي الموضوعي. وهو الذي ينظر في سلوك وعقل وأفكار وشخصية الجماعة محيلاً الأسباب المشكلة إلى التجربة الواقعية المجتمعية البيئية للجماعة.

تسعى هذه المقال لتلمس وإعادة استكشاف بعض الأسس المادية من منظومة العلاقات الاقتصادية الاجتماعية لميول ونفسيّة وتوجهات الفرد والجماعة

وينبني رأي هذه المقال على إقرار أنّ جميع المناهج أعلاه هي أحادية الجانب، وأنّ علم النفس ليكون علماً، ينبغي عليه:

  • النظر إلى خصوصية الفرد وتجربته داخل الجماعة معاً وفي نفس الوقت.
  • النظر إلى الجماعة ليس كبنية واحدة متماسكة، بل كبنية تعجّ وتزخر بالتناقضات المادية والروحية، معتبراً أنّ مفهوم الجماعة من ناحية علمية هو مفهوم أجوف وفارغ إذا لم يأخذ بعين الاعتبار الاختلاف والتناقض المادي والروحي داخل نفس الجماعة.
  • إرجاع السلوكيات والأفكار والعقليات والشخصيات الفردية والجماعية إلى أسبابها المادية، أي إلى طبيعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي تتحرك فيها ومن خلالها الأفراد والجماعات.
  • الأخذ بعين الاعتبار الدور التاريخي الدائم للأفراد والجماعات في تغيير منظومة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، أي أنّ نفسيّة الفرد والجماعة ليست معطى جاهز ومسبق، كما أنّها ليست معطى نهائي سلبي عاجز عن التغيير والتأثير في واقعه.
  • أي منظومة أو تشكيلة اقتصادية هي بالضرورة محددة في الزمان والمكان، لها مقدمات تاريخية وبالتالي من الحتمي واليقيني أن تفضي لتشكيلة أو منظومة جديدة. فالواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي محكوم تاريخياً بضرورات التغيّر والتطور.

ومن هنا تسعى هذه المقال لتلمس وإعادة استكشاف بعض الأسس المادية من منظومة العلاقات الاقتصادية الاجتماعية لميول ونفسيّة وتوجهات الفرد والجماعة. فهي محاولة لإعادة طرح علم النفس على أسس مادية وطبقية واجتماعية.
كما تسعى هذه المقالة للكشف عن الأسباب الماديّة وراء انتشار حزمة واسعة من الأمراض النفسية العصرية، مثل القلق والارتياب والكآبة والانسحاب والبارانويا والفصام ثنائي القطبيّة والوسواس القهري وغيرها، ناهيك عن محاولتها للكشف عن الأساس المادي المعولم لانتشار أمراض الضغط والسكر والقلب. ولا تدعي هذه المقال اقترابها من الدراسة العلمية للسلوك والظواهر، وتدرك حدودها كمقال يساهم في تطوير منهج علم النفس وتطبيقاته.

المقدمة الأولى: إنسان يصنع عالما لا يملكه

الانسان القديم الذي خضع للطبيعة ولم يستطع تفسيرها للسيطرة عليها، نسب ظواهر الطبيعة لقوى خفيّة مطلقة.

أمّا الإنسان في زمن الرأسمالية، فهو يخضع لقوى السوق الموضوعيّة المستقلّة التي تنشط وتتحرّك بمعزل تام عن إرادات البشر، بل ضد إرادتهم ومصالحهم.

فالسوق هو حلبة تتصارع فيها مجموعة كبيرة من رؤوس الأموال التي تسعى لتعظيم الربح، والذي لا يحدث إلّا عبر تعظيم استغلال الطبقة العاملة أي أغلبية البشر، آخذين بعين الاعتبار أن رؤوس الأموال نفسها تتحرّك بموجب قوانينها الداخلية بمعزل عن إرادة أصحابها أنفسهم، نستنتج: أنّ الانسان في زمن الرأسمالية أنتج حضارة لا يملك السيطرة عليها، وتتحرّك ضد مصلحته هو نفسه.

هذا الواقع الذي يقول بوجود قوى موضوعيّة تحرّك وتتحكم بالسوق والمداخيل ومستويات المعيشة والمديونية والاستهلاك والبطالة بمعزل عن إرادات البشر، يشبه ذلك الواقع القديم حيث كانت الطبيعة وهي مصدر رزق الانسان الأساسي (في حينه وقبل تطوّر الصناعة والعلوم) تتحرّك وتنشط بمعزل عن إرادة الإنسان وسيطرته.

وكما نسب الانسان قديماً ظواهر الطبيعة لقوى خارقة، ينسب الانسان الحديث ظواهره الاجتماعية الاقتصادية لقوى خارقة خفيّة.
لماذا خفيّة؟

المقدمة الثانية: يد خفيّة تعبث بحياة البشر

بما أنّ فكر الإنسان هو انعكاس لنمطه الاقتصادي الاجتماعي، فإنّ هذا العالم القائم على أسس الاستغلال والقهر والاضطهاد والاغتراب، والذي يلهث خلف العسكرة والأمننة المعولمة، ويعاني دورياً من أزمات وتقلبات اقتصادية عميقة وواسعة وعدم استقرار مستمر في ظروف وحياة البشر، أنتج معه ما نسمّيه عولمة أمراض القلب والضغط والسكر بالإضافة لحزمة واسعة معولمة من الأمراض والأعراض النفسية، مثل التي ذكرناها آنفاً. كما أنّ اختفاء القوى التي تحرّك العالم (قوى غير مرئية) ربط أعراض القلق والخوف وأمراض ضغط الدم والسكر والقلب بأعراض الضلال والفصام. كيف اختفت القوى التي تحرّك الواقع؟

منذ أن تحوّل الإنتاج الصناعي الصغير إلى شكله الأكبر، انسحب ربّ العمل من مكان العمل، ليحل محلّه طاقم إداري موظف، أي (اختفى) من المصنع السبب الحقيقي للاضطهاد والقمع والاستغلال الحقيقي، مخلّفاً وراءه طاقماً إداريّاً يمثّل مصالحه، ومع تطوّر منظومة الدول والحكومات كخادم لمصالح الرأسمال الكبير، ظهرت المنظومة السياسية الإدارية للواجهة، واختفت خلفها القوى الحقيقة المحركة لها، وهي مصالح الشركات الكبرى، وربما كان هذا التحوّل التاريخي أحد أسباب عودة الإيمان بالأشباح والشياطين والجنّ، أي قوى الشرّ (الخفيّة).

فاختفاء منبع الشر المادي وأساسه يفتح الباب لنسبة الشرّ لقوى خفية ما وراء الطبيعة.

المقدمة الثالثة: الهروب من الواقع واللهث في العالم الرمزي والافتراضي

نعتقد أنّ نمو رأس المال المالي- رأس المال الرمزي أو الوهمي (في نهايات القرن التاسع عشر) وسطوته على رأس المال الصناعي ونمط الإنتاج الزراعي، والذي عبّر عن نفسه بسطوة النظام المصرفي العالمي ونمو أسواق البورصة والميل نحو المضاربات؛ أنتج وعكس نفسه في حزمة واسعة من الضلال والأوهام والوساوس في عقل إنسان العصر.

لتكثيف هذه الحالة بجملة واحدة، نقول: {سيطرة الوهمي والرمزي على المادي الملموس في الاقتصاد الحديث أنتج إنساناً تسيطر عليه الأوهام والخيالات والضلالات، إنساناً منفيّاً عن واقعه الملموس وحقيقته.

مع نمو الرأسمال المالي الوهمي، نمى عالم التواصل الافتراضي، والذي رافقه نمو الأمن التكنولوجي، كل ذلك عمل على نمو ارتياب معولم وشعور عالمي بانتهاك الخصوصية، حيث تفشّت بين البشر، أفكار صحيحة وحقيقية تؤمن بقدرة أجهزة الاتصال الحديثة المدعمة ببرامج وتطبيقات التواصل الافتراضي على التجسس وانتهاك الخصوصية، ناهيك عن انتشار كاميرات المراقبة في كل شارع، وتكثيف أنماط الضبط والمراقبة على المعابر والمطارات والحدود.

لذلك نرى أنّ إنسان هذا العصر يعيش في داخل غرفته المغلقة، يعشش في جوفه الشعور والوساوس بأنّ هناك أذن خفيّة تسمعه، وعين خفيّة تراه، إلّا أنّ الآذان والعيون الخفيّة لا تنسب لقوّة رحيمة رؤوفة، بل تنسب للحكومات، التي تنظر لها الطبقات الشعبية في كل مكان على أنّها عدوّ وليس صديق، فهذه العيون والآذان المنتشرة في كل مكان، والتي يحملها الفرد في جيب بنطاله، هي عيون وآذان العدوّ.

إنسان هذا العصر عاري تماماً أمام الآخر المختفي، يشعر بعمق انتهاك خصوصيّته وحدود ذاته وشخصيّته، ويلهث خلف الاختباء من عيون الآخرين دون أن امتلاك القدرة على ذلك.

مع نمو الرأسمال المالي الوهمي، نمى عالم التواصل الافتراضي، والذي رافقه نمو الأمن التكنولوجي، كل ذلك عمل على نمو ارتياب معولم وشعور عالمي بانتهاك الخصوصية

وفي المقابل، فإنّ انتشار وسائل الاتصال الافتراضي، واغتراب نمط الإنتاج في سطوة الرأسمال الرمزي، أنتج إنساناً مغرماً بصورته في عيون الآخر، أكثر من عنايته بصورته الحقيقة، بحقيقة حياته وواقعه –تماماً كما أنّ الرأسمال المالي هدفه أن يضاعف ذاته، دون أن يلتفت لواقع الرأسمال الصناعي والزراعي الحقيقي- إنسان مستلب تماماً عن الحقيقة، غارق تماماً في الوهم والرمز. فالإنسان الحديث يسعى لحل مشاكل واقعه عبر اللهث اللانهائي في عالم الخيال والافتراض والرمز

بين خوف الانسان من انتهاك خصوصيته وسعيه الدائم للحصول على اعتراف الآخر الافتراضي (الحضور الإلكتروني الافتراضي للفرد عبر وسائل التواصل الاجتماعي) يعيش الانسان في تناقض وتأرجح دائم وعميق. فهو يسعى نحو ما يخيفه، ويخاف مما يسعى إليه.

المقدمة الرابعة: الفلسطيني مطرود من واقعه

أمّا في خصوصية الحالة الفلسطينية ومن حيث جوهرها وهو استلاب الأرض وتشتت الشعب، حيث يعيش الفلسطيني دون أرض، وكأنّه معلّق في الهواء دون مرتكز لقدميه، بالإضافة لشعوره الدائم بمراقبة الموساد -الذي رغم كونه جهازاً مخابراتيّاً قويّاً ومهنيّاً ومدرباً ومجهزاً بأعلى المستويات، إلّا أنّه في النهاية ليس إلّا جهازاً بشرياً محدود القدرة- ناهيك عن تاريخٍ حافلٍ بالمجازر الدموية والقمع والترهيب والسجن، هذا ومع عيش الفلسطينيين على أرض فلسطين إمّا في سجن كبير مغلق ومعزول ومعرّض للقصف الجوي كما في غزّة، التي تدخلها وسائل المعيشة عبر شبكة خفيّة مظلمة من الأنفاق، أو في سجن الضفة التي امتلأت جبالها بمستوطنات تظهر مرئية للفلسطيني كشبح غريب يراقبه من علو، أو العيش في أراضي 1948، أي داخل المنظومة الصهيونية وحمل هويّتها وجنسيتها الإسرائيلية والخضوع لنظامها القضائي والإداري والاقتصادي في انسلاخ كامل عن التاريخ والجذور الفلسطينية.

هذا الوصف السريع والمختصر والمجحف لحالة الشعب الفلسطيني، يمثل باعتقادنا الأساس المادي الذي ينعكس في حزمة واسعة من الأمراض والأعراض النفسية، قلنا الأساس المادي، وربما الأصح أن نقول الأساس اللا-مادي، من حيث خصوصية استلاب الأرض والتاريخ وتشتيت الشعب. نستعيد هنا دراسة الأسير المفكر وليد دقة "صهر الوعي" حين أشار إلى ذهاب إدارة السجون لاستخدام آليات خفية لقمع الأسرى وضبطهم، تضع الأسير الفلسطيني في تجربة تنتج الألم النفسي دائماً، دون قدرة الأسير على إدراك أو تلمس مصدر الألم، وهذا أكثر إيلاماً!!!

ومن هنا، نعتقد أنّ الاغتراب في العالم الرأسمالي يظهر بصورته المكثّفة في الوضع الفلسطيني، وأنّ أعراض استلاب إنسان العصر تظهر بقمّة جلائها في الإنسان الفلسطيني.
ليست خاتمة

يذكر باولو كويلو في مقدمة إحدى رواياته "الخيميائي"، قصّة الكلب الذي ظلّ يخاف من انعكاس صورته على ماء البحيرة، إلى أنّ قرر أن يحشد شجاعته ويهاجم الصورة الوهم، فإذا بها تتبدد. هكذا الخوف ليس إلّا وهم لا يتبدد إلّا بالشجاعة والإقدام، أي بالمواجهة المباشرة.

ربما يساهم الطب النفسي بشقيه العلاجي أو الاستشاري والتوجيه النفسي والدعم، في الحد من بعض أعراض المرض النفسي على مستوى الفرد فقط، إلّا أنّ الطب النفسي من حيث جوهره لا يعالج إلّا الأعراض، أما منبع هذه الأعراض، وهو العالم المبني على القهر والاغتراب والاستلاب فلا يعالجه إلّا المقاومة.
نتيجة علمية

السعادة في هذا الزمن القبيح هي الانخراط في النضال الواعي والمستمر نحو تغييره، ليس إلّا.

هذا السبيل الوحيد نحو امتلاك الفرد والجماعة الشعور العالي بالاكتفاء والرضى النفسي والثقة والفخر وامتلاك السيطرة على الواقع ومسارات الحياة والمستقبل، والتسيّد على محرّكات الحياة والحضارة البشرية الخفية والمرئية، وبالتالي الخروج من حضارة بشرية تركبت ضد الانسان إلى فضاء مستقبل انساني يعمل على خدمة البشر في أطر تنظيمية عادلة.