الخميس  21 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

أوراق خاصة| يوميات غسان كنفاني بين عامي 1959-1960

2023-04-09 02:50:21 PM
أوراق خاصة| يوميات غسان كنفاني بين عامي 1959-1960
غسان كنفاني

تدوين-ذاكرات- أرشيفات

نشرت مجلة الكرمل في عددها الثاني الصادر بتاريخ 1 تموز 1981، مقالة بعنوان "أوراق خاصة- يوميات 1959ــ 1960"، وهي عبارة عن مختارات من دفتر يوميات كتبه الروائي الفلسطيني الكبير الشهيد غسان كنفاني بين هذين العامين، خلال عمله في الكويت.

وقالت الكرمل إن هذه الأوراق الشخصية، هي نوع أدبي، نفتقده في حياتنا الأدبية العربية المعاصرة، متوجهة بالشكر إلى السيدة آني زوجة الشهيد وإلى مؤسسة غسان كنفاني الثقافية إلى الأستاذ فاروق غندور، الذين سمحوا لهم بنشر هذه المادة الخاصة، والتي لم يسبق لها النشر، والتي تضيء الكثير من جوانب حياة وإبداع كنفاني في شبابه المبكر".

وفيما يلي مجموعة الأوراق المختارة:

31/12/1959

"إن الضباب الأسود غير موجود في الطبيعة، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يؤكد أنه ليس ابعث على الراحة من الضباب الطبيعي الذي لا لون فيه؟؟".

2/3/1960

"أن يسقط الإنسان من السماء بلا مظلة.. ثم يمضي طريقه إلى الأرض؟؟؟؟ شيء لا يحتمل".

1/1/1960

.. ليلة أمس قررت أن أبدأ من جديد..

هذه اليوميات عمل كريه، ولكنه ضروري كالحياة نفسها..

هذه اليوميات عمل كريه، ولكنه ضروري كالحياة نفسها..

أتى القرار بسرعة وببساطة، كانت الساعة تمام الثانية عشرة، أي أننا كنا ننتقل من عام قديم إلى عام جديد، كانت الغرفة صامتة، تعبق برائحة وحدة لا حد لها.. عميقة حتى العظم، موحشة كأنها العدم ذاته.. وبدا كل شيء تافها لا قيمة له، فقررت أن أكتب شيئا.. لكنني فضلت، لحظة ذاك، أن أبكي.. ومن الغريب أنني فعلت ذلك بكل بساطة، ودون حرج، وحين مسحت دمعة أو دمعتين كنت كمن يهيل التراب على جزء آخر من جسد ميت سلفا ندعوه حياتنا..

وهأنذا أكتب من جديد.. يوميات كريهة، لحياة كريهة تنتهي بموت كريه، مستشعراً كم أنا مجبر على أن أكتب، كم أنا مجبر على أن أعيش، كما أنا مجبر على أن أموت.

4/1/1960

إنني مريض، نصف حي يكافح من أجل أن يتمتع بهذا النصف كما يتمتع إنسان بحياته كاملة.. وكل المحاولات التي افتعلتها لكي أنسى هذه البديهية تقودني من جديد لكي أواجهها.. وبصورة أمر.

لقد توصلت الآن إلى أن أؤمن بأن عنصر المشاركة يكاد يكون معدوما بين الناس.. إنهم يحسون أنك تتألم ولكنهم لا يعرفون كم تتألم، وليسوا على استعداد أبدا لأن ينسوا سعادتهم الخاصة من أجل أن يشاركوا الألم.. وعلى هذا فعلينا أن نتألم بيننا وبين أنفسنا.. وأن نواجه الموت كما يواجه واحد من الناس الآخرين نكتة يومية.. وهذا يجعل من الإنسان عالما بلا أبعاد، ولكنه في الآن ذاته، عالم مغلق على ذاته.

في الحقيقة إن المخرج الوحيد من هذه الدوامة الموحلة، هو أن يؤمن المرء بأن العطاء هو المقبول فقد لدى إنسان الحضارة.. وأن الأخذ عمل غير مرغوب فيه.. أن يعيش الإنسان باذلا نفسه هو المقابل، ولا مقابل سواه.. إنني أحاول الآن أن أصل إلى هذا الايمان بطريقة من الطرق، أو أن الحياة تصبح – بلا هذا الإيمان- شيئا لا يحتمل على الاطلاق.

دفعني لأكتب هذا الكلام.. جرح سببته الحقنة اليومية هذا الصباح، وأعتقد أنه ما زال ينزف إلى الآن.. لو قلت لإنسان ما أنني أتألم منه لاعتبره شيئا يشبه النكتة الطريفة، ويرددها على هذا الأساس، متسائلا: "كيف يستطيع إنسان أن يجرح نفسه؟ لا شك أنها تجربة طريفة!!" أو أنه على أحسن الاحتمالات سوف يقول" "إنه يتألم" ويغير الموضوع.. أما بالنسبة لي فهي تعني، وسوف تبقى تعني كل يوم، أنني أريق جزءاً من احتمالي، وإنسانيتي، وسعادتي من أجل أن أعيش... وإنه لثمن باهظ حتماً ... أن يشتري الإنسان حياته اليومية بموت يومي...

15/1/1960

أفكر في كتابة قصتين، الأولى قصة إنسان مخذول، خذلته القيمة التي اعتقد أنها مقياس الحياة الوحيد وإذا هي قيم لا تعتبر في عالم الحضارة المعاصر... إنني لم أتوصل بعد إلى اصطياد الحادثة الملائمةـ ولكنني أحتاج أن أصل منها إلى التعبير عن الانخذال الكامل الذي يحسه إنسان صفع بشيء آمن به، فإذا به عند الآخرين لا يساوي شيئا، وليس يهمني على الإطلاق أن يكون هذا الإيمان خطأ أو صوابا. يهمني فقط أنه إيمان يحمل على دعائمه كل طموح ذلك الإنسان، ايمان مبثوث في عروقه مع أمه. جنبا إلى جنب.

أما القصة الثانية فتدور حول نفس المحور.. ولقد سمعتها اليوم من صديق رواها ببساطة حرقت محجري.. أترى أستطيع أن أنقلها ببساطة إلى محاجر الآخرين، إنها قصة مثقف أضاع ذراعه في اعتداء غادر.. وحينما خرج من المستشفى(...) وجد نفسه مرفوضا من قبل الحياة التي لا تعترف بالضعف.. إنني لم أصل بعد إلى صياغة جميع تفاصيل هذه القصة ولكنني أشعر أني أستطيع أن أفهمها بإخلاص وصدق.. بل وأن أعانيها.

لقد كتبت إلي إذن، تقول ببساطة، أنني أصبحت مركوما في ماضي، لا علاقة لها به، لقد نسيت كل الحب الذي وهبتها خلال عامين كاملين.. ونسيت المستقبل الذي بنيناه في كل كلمة.. مركوما في ماض لا علاقة لها به.. أقف في وجه عاصفة اطمع في شيء كبير لن أناله على الاطلاق... كتبت ذلك ببساطة... أيكون الغضب الذي أحسه إنخذالا يتملق معنى من معاني التحدي؟؟ أيكون النصف الباقي من حياتي ما زال ينتفض بشيء من الكبرياء الذبيحة؟؟ أأكون ما زلت أعتقد أنني كالآخرين؟

هذه هي المشكلة.. أن أستسلم ... أن أعترف... أن أستسلم.... أستسلم.. هذا كل ما في المشكلة.. ولكنني ما زلت أرفض هذه البديهية.. إذ يبدو لي صعبا بعض الشيء أن أخرج من حياتي، وأراقبها من مقعد المتفرجين كأنني في سيرك؟؟ لوجدت أنه معمر متهدم...

في الفترة الأخيرة أصبحت أتردد في رواية أية حادثة مخافة أن يرد فيبعث القرف في حلقي.. أما اذا كانت الحادثة طويلة فإنني لا أفكر في التكلم عنها على الإطلاق..

كل تصرف يقوم به له جذور، كل فكرة يقولها يحفظها منذ الأزل.. ورأسه عبارة عن شبكة رادار تعكس كل ما في العالم، إلا نفسها.. وأعتقد أن هذا هو السبب الأولي في أنني لا أستطيع أن أتخذ موقفا منه... إنه دائما ليس هو.

9/1/1960

مرة أخرى سمعت حفيف ريش الملائكة – كما يقول سكير واشنطن- حينما رأيت الجبال تدور حول رأسي بصخب مخيف ثم أحسست بالرمل ينسحق بين أسناني..

كيف حدث ذلك؟ إنني لا أذكر التفاصيل، أما الزملاء فكل واحد منهم عنده جانب من القصة... لقد ذهبت معهم إلى رحلة تقع خلف الحدود، وفي لحظة واحدة، حوالي العاشرة، أحسست بقليل من الدوخان ولكنني لم ألال.. كنت قد أعددت عدتي من الصباح ولذلك فلقد استبعدت اطلاق أن يحدث لي أي اضطراب..

بعد هنيهة قمت إلى زميل اداعبه بضربة أو بضربتين، ولكنني حينما رفعت في عنه رأيت الجبال الصخرية التي كانت حولنا تدور برقصة مخيفة، وعبثا حاولت أن أوقف رأسي عن اللف معها.. لقد كانت، ثمة، مطارق تهوي على مؤخرة عنقي، وكانت الفكرة الوحيدة التي سيطرت على رأسي هي أنني يجب ألا أقع في الوادي، فلو وقعت، فمن الحتمي ألا يستطيع الرفاق إيصالي إلى فوق حيث سيارتنا، إلا بعد مشقة هائلة ووقت طويل.. وعبثا حاولت أن أسيطر على رأسي... لقد انسحق كل شيء، إلا رغبتي في أن أصل إلى فوق، حيث السيارة، بأي ثمن..

ثم صحوت على السفح، كان الرفاق يتبعونني لاهثين، وكنت أطوي الصخور صاعدا بكل ما في طاقتي من احتمال... وحينما لامست عيوني سيارتنا هناك عاد إلي غثيان قاس، وصحوت مرة أخرى على طريق المستشفى...

إلا أن الذي حدث لم يكن هذا فحسب، لقد سبق صعودي الجبل إغماء استمر أكثر من ربع ساعة، قيل لي أنني دفنت رأسي في الرمل، وكان يدي تشير إلى الجبال بحركة لولبية.. بينما أخذ جسدي ينتفض بحيث عجز ثلاثة من رفاقي عن مسكه وتثبيته في مكانه، كانت عيوني، أيضا، مفتوحة حتى أقصاها، ولكنها عمياء... وكفاي ينبشان الأرض بجنون... لقد مسكوني هناك، بعيدا عن كل شيء، وحشروا قطعا من البسكوت في فمي – كنت أشكو نقصا في السكر- ورشقوا وجهي بالماء.. وقالوا أنني حينما صحوت قليلا انطلقت أعدو فوق الصخور ميمما شطر السيارة البعيدة، باذلا جهدا مسعورا كي أصل إلى هناك، في حين حسبوا هم أنني ما زلت مشدودا إلى إغماءة قاسية....

وفي المستشفى كانت شفتي تنزل ولساني مجروحا، لا أدري، أهو البسكوت الذي دفع إلى حلقي بقسوة سبب هذا أم أنني كنت أعض على إرادتي كي أصل إلى فوق؟ أما في المستشفى فلقد اكتشفوا أن إنخفاضا حدث في القلب، وبذلوا جهدا طيبا من أجل اعادتى إلى ما كان عليه..

حينما عدت منهوكا إلى الأصدقاء كانوا ينظرون إلي بشفقة.. وكنت أنا أحس أنني أستحقها.. لأنني أنا نفسي كنت أبكي في أعماقي.. أبكي بكل ما في طاقتي..

10/1/1960

أمس، توفي الفيلسوف الوجودي ألبير كامو.. صاحب فلسفة العبث، مات في موقف عبث، وأي رثاء له نوع من العبث ليس غير.. لقد انتهى، وعليه أن يقنع بحياة عاشها عريضة، وإن لم يستطع أن يجعلها طويلة...

15/1/1960

رأيته بأم عيني... وحينما سرت القشعريرة في جسمي كان الها ما صب على رأسي قارا مغليا رفعت كفي أغمض عيني حتى لا أرى أكثر.

أكتب خائفا من أن يصفع المنظر أعماقي فيودي بما تبقى من كبريائي؟ .... أم أنني كنت لا أريد أن أرى كيف يذل الإنسان نفسه من أجل أن يحتفظ بحياته؟.. كيف يناضل طفل بكل ما لديه من طاقة كي يصير كالآخرين؟؟ كيف يسحق كبرياءه بإرادته من أجل أن يعيش؟

كان، في رأيي كما يلي:- طفل صغير صغير، يتحدى إلها كبيرا كبيرا... طفل قزم، يشد عنقه المتوتر إلى حضارة الخزي، ويبصق في وجهها .. طفل تجثم على صدره كل أخطاء الرب.. ولكنه لا يدفعها باذلا جهده في أن يتغلب عليها..

لماذا يتعذب طفل دون أن يخطئ. إننا نعرف كيف؟ ولكنا لا نعرف لماذا؟ أليس هذا صحيحا؟؟

بدأت القصة بأنني وقفت على شرفة غرفتي أراقب مباراة في كرة القدم بين فريقين من أطفال الحي.. جمال المباراة كان في الجهد المبذول لا في مستوى اللعب.. بدا لي، في لحظات، أن العالم كله، والله، والحضارة، لا معنى لها بالنسبة لهؤلاء الصغار سوى نتيجة هذه المباراة، وهكذا كانت الدنيا كلها مخلوعة إلى خارج طموح هؤلاء الصبية، وكانت السعادة شيئا يمكن أن ينال بواسطة بذل الجهد فحسب..

وفجأة برز بينهم، كان يلبس سروالا اسودا قصيرا وقد أرخى قميصه الطويل فوقه، شعره كان مشوشا، ووجهه يبتسم بعناد رجولي لا يتناسب وعمره، كان صدره عريضاً، ولا يتناسب إطلاقا مع تلك الساق التي كانت تشبه خيطا من القنب، والتي كان ينقلها إلى جوار ساق سليمة، ينقلها مشوهة، مرتخية، نحيلة، لينة، مشلولة..

وكان يركض بكل جهده، عناد رجولي في وجه طفل، كان يخجل، نعم، هذا أصح: رافعا ساقا سليمة، متريثا على ساق كريهة، مشلولة، نحيفة كأنها ليست لهذا لجسد المتفجر بالحياة والجهد، وكان وجهه، إلى ذلك كله، جميلا..

أكان جميلا فعلا؟؟؟ ... لماذا يتعذب الطفل بلا سبب.. كانوا يلعبون هناك، صغارا، باذلين جهدا خارقا كأن الحياة كلها لا تعني لهم سوى أن سيصلو إلى نتيجة مشرفة، أو كانت كذلك فعلا.. وكان هو بينهم.. وكانوا لا يعاملونه بشفقة أو مجاملة، وبدا لي أنه كان سعيداً بذلك إلى آخر حد سعيداً لأنه أقنع نفسه للحظة، بأنه سعيد!! لماذا رفعت كفي إلى وجهي وأخفيت هذا المنظر عن عيني؟ ... ألأنني عرفت كم هو كبير وكم أنا صغير؟.. ألأنني عرفت كم يناضل الإنسان من أجل أن يجعل حياته أكثر معنى وأكثر جمالا؟ أم لأنه لم يرق لي أن يبيع الإنسان كل حياته في سبيل لحظة كرامة واحدة؟...

لماذا؟؟

23/1/1960

قررت اليوم أن أبدأ بكتابة قصة طويلة. (سوف تكون أقل طموحا من (كفر المنجم) التي كتبتها في العام الفائت وفشلت)، لأنني سوف أحكي فيها قصة إنسان فرد... وأعتقد أنها لن تستغرق وقتا طويلا.. وفكرتها في رأسي منذ زمن بعيد: الخذلان. سوف لن أستشير أحدا فيها إذ أنني وجدت أن أنسب مكان للآخرين يفرغون فيه أحمال عقدهم النفسية هو الثغرات المفتوحة في نفوس القلقين.

6/2/1960

بلادة وخمول ولا شيء غير هذا على الاطلاق.. هنا، في هذا البلد المصرور في الجمود والصمت نموت رويدا رويدا دون أن نعرف كيف يعيش أي إنسان ناضل قرونا طويلة في سبيل لحظة طمأنينة واحدة!.. صور الفتيان معلقة على الجدران تستذل رجولتنا، والموسيقة الحزينة تمتص أحاسيسنا، وكلمات المجاملة الكاذبة تهدهد طوحنا.. إلى أين؟ لسنا ندري! كسف؟ لسنا ندري... كل ما نعرفه هو أن غدا لن يكون أفضل من اليوم.. وأننا ننتظر على الشاطئ بلهفة، سفينة لن تأتي.. وبأنه حكم علينا بأن نكون غرباء عن كل شيء.. سوى عن ضياعنا..

إنني لست راغبا في أي شيء.. كل الأشياء التي اعتقدت أنني أحبها فقدت معناها تماما... لست أحسن التصرف مع الأصدقاء ... ولست راغبا في الاستمرار أكثر داخل هذه الدوامة التي تدور كساقية مجنونة تفور في رمال صحراء عطشى منذ الاف السنين...

أصحيح أن عمري خمس وعشرين سنة؟ إنني أتصور أحيانا أنني عجوز متهدم، ينتظر بصمت واستسلام دفة من الخشب ينقلونه فوقها إلى استقراره الأخير.. أو إلى استقراره الحقيقي.

21/2/1960

كتبت اليوم رسالة إلى (...) و (...) كانت قصة حب بلا شك. أمّا الان فهي مأساة... إن رسائلها الأخيرة لي كانت تحمل طابعا خاصا كأنها كانت تريدني أن أقول موقفي بوضوح كي تعرف ماذا يتعين عليها أن تفعل.. وهذا حقها بلا أدنى شك. لقد كتبت لها رسالة اليوم حاولت فيها أن أكون مخلصا لها ولنفسي، وحينما قرأتها بعد كتابتها اكتشفت بوضوح أنني فعلا أحبها.. سوف أنقل إلى هنا بعض مقاطعها.

"... أنا مشوش جدا.. لذلك تبدو أفكاري مهزوزة.. والذي يشوشني خبر زفة الطبيب إلي ظهر أمس.. لقد بدأ هذا القلب المسكين يتعب.. إنه يخفق بلا جدوى... وحينما أنظر الآن إلى الأشياء أحس بأنني خارجها .. أنها مسحوبة من المعقول... إنني لا أخاف من الموت، ولكنني لا أريد أن أموت.. لقد عشت سنوات قليلة قاسية وتبدو لي فكرة أن لا أعوض فكرة رهيبة.. إنني لم أعش قط.. لذلك فأنا لم أوجد.. و أريد أن أغادر دون أن أكون، قبل المغادرة موجودا. أتعرفين الذي أعنيه؟؟.... إن شعوري غريب جدا.. شعور إنسان كان ذاهبا إلى مكان ما كي يتسلم عملا ملائما، فمات – فجأة- في الطريق..

إن شعوري الآن هو هذه "الفجأة" بالذات..

... لقد فكرت طويلا طويلا في رسائلك الأخيرة.. ووجدت أنك على مطلق الحق في موقفك.. ولكنني أنا الآخر أملك شيئا منه لماذا لا نضع النقاط على الحروف جيدا؟ لماذا لا نعترف بأننا "حطان متوازيان يسيران معا ولكنهما لن يلتقيا..؟" لقد كتبت هذا الكلام لي منذ أول تعارفنا، وكنت وكنت في أعماقنا نرفضه على الاطلاق!. أيتها الغالية.. لماذا قدر للإنسان أن تكون أعمق جروحه تلك التي يحفرها بيده؟ تريدين أن أكتب لك بوضوح أن أكفن سرابي بيدي وأستمر بضياع بلا قاع؟ سألت في رسالتك الأخيرة": هل مات الداتشمان؟" إنني أعتقد أنه مات منذ رأى باندورا لا يستطيع أن يأخذها معه عبر المحيط إلى السعادة.. وكل الذي كان بعد لقائهما هو حاولة مستميتة لنسيان هذا الموت... بالاقتراب منه أكثر فأكثر....

أعرف أنك غضبى.. ولكن الغضب شيء يذهب.. أما الخذلان فيبقى.. أنا رجل مخذول. هل تستطيعين أن تحسي أعماق هذه الكلمة؟ كل الوحشة والغربة والضياع التي تعشعش فيها؟ الخذلان لا يذهب.. أما الخذلان الذي يصنعه الإنسان بيده فإنه ينمو ... ينمو حتى يصبح غولا..

لتحاولي أن تنسيني.. أنا لا أستحق ذكراك عني، كوني متأكدة من ذلك.. أنت تملكي الأمل والألوان والحياة والذكاء والجمال.. فلماذا تتمسكين بإنسان لا يملك سوى سواد قدره؟ حاولي أن تنسي.. أو حاولي أن تصعدي ذلك الحل إلى صداقة.. أنا لن أحاول شيئا، سوف أرقبك وحينما أراك سعيدة.. سوف أشعر بأنني لست سببا في تعاسة إنسان أحبه.. أحبه رغم كل شيء.. كوني متأكدة أنني لا أعتقد أنك سبب تعاستي.. لقد شغلت ثلاث سنوات من حياتي بأمل لم أذق مثله كل عمري.. وهذا يكفي في عالم لا يعطي بالمقابل..

آه يا عزيزتي لو استطعت فقط أن أمزق هذه الرسالة وأكتب لك واحدة أخرى أكثر إشراقا.. آه لو استطعت.. ولكنني أعرف أنني لا أستطيع. إن الذي يستحق المزيق هو حياتنا جميعا..

"آه لو استطعت أيها الحب ان نتفق أنا وأنت والقدر.

على تمزيق هذا الطابع الحزين للعالم

إلى قطع صغيرة صغيرة..

ثم نعيد بناءه... كما تشتهي قلوبنا!"

أتذكرين القصة؟ قصة "باقة ورد على ضريح الخيام"؟ لقد أوحيت إلي بها.. ولكنني أوحيت لنفسي نهايتها حينما كتبت"

"شعر بأن لم يخلق ليلى أبدا.. بل أنها هي التي خلقته، وراوده إحساس طاغ بأنه لم يكن يستحقها على الاطلاق.."

المخلص..."

لقد كانت رسالتها لي أمس فيها بعض الحياة.. ولهذا فأنا أتصور جيدا كيف سيكون وقع هذه الرسالة على رأسها وإلا أنني أتفاءل أن تجد طريقا للخروج.. إنها مؤمنة بأن السعادة موجودة في مكان ما... ولهذا فهي ستواصل البحث عنها.. وسوف تنساني.. لقد كتبت لي:

"إنني أفتقد رسائلك بشكل مخيف.. فأنت تكتب ببراعة وعمق – حتى ما تؤلمني به.. ولقد آليت على نفسي ألا أجد في المستقبل سوى إنسان يكتب بمثل براعتك.. عندما أنظر إلى صدر المسيح، في الصورة، أحس بك تلفح وجهي.. وأحس بنفسي تغرق في الإبحار من الحب مع الداتشمان.. ألا تخبرني بالله عليك هل مات؟ هل مات؟ هل تاه الداتشمان؟"

كتبت منذ يومين قصة "الخراف المصلوبة" وهي الفكرة التي كانت في رأسي عن "الخذلان" بدوي يقف في شمس الربع الخالي ينتظر من يعطيه ماء لأجل خرافه.. ولكن القافلة التي تمر من سيارات الحجاج ترفض اعطاءه ماء بسبب حاجة السيارات له، اما البدوي في يستطيع أن يفهم كيف تكون السيارة أثمن من الخراف..

لقد قصدت إلى إبراز شعور الإنسان المخذول الذي تتهاوى قيمه العليا ومثله بسرعة وهدوء.. وحاولت أن أبرز مدى أهمية هذه القيم في نظر هذا الإنسان المتفرد بحوار هامشي على لسان طبيبين في القافلة"

"- أنظر.. ها نحن ذا أمام أسطورة اسبارطية من جديد.. الرجل والآلة في مكان واحد.. ترى ماذا يفعل هنا؟؟

يتعبد..."

وحاولت أيضا أن أبرز المشابهة في الصورة: قافلة حجاج تحمل للإنسان اله خذلانه...

وأعتقد أنها قصة ناجحة..

22/2/1960

كتبت إلى صديقي فضل النقيب في ياكيما – واشنطن اليوم: " تأخرت في الكتابة لك، أنا أعترف، ولكن يشفع لي أن لا جديد عندنا هنا سوى استمرار هذه العجيبة: أن لا يكون أي جديد..."

ثم كتبت له أرد على لمحة استسلام شعرت بها بين سطور رسالته :" تريد أن تنسحب؟ لماذا؟ لأنك بعيد؟ إذا كان فضل يبعد عن القضية ألف ميل فنصف شعبه يبعد عنها ألف سنة!.. المسافة لا قيمة لها لمن يعيش في لحظة الشروق... تريد أن تنسحب؟ لا بأس، ولكن صدقني يا فضل أن الانسحاب أصعب بكثير جدا من التحدي.. لقد حكم علينا بأن لا ننسحب..."

وكتبت إلى عدنان، صديقي السجين الذي كتب إلي يقول أنه لا يعرف إذا ما كان تغير خلا مدة سجنه، فهو لا يملك مقياسا ولا يعرف كيف تغيرت الأشياء وتغير آخرون.. كتبت له:" أنت نفسك تعرف أنك تغيرت، لأنك تعيش من أجل ذلك.. إننا نحتاج للآخرين كي نعرف أننا تغيرنا ... نحتاجهم فقط كي نعرف كم هو ضروري تغيرنا..."

الواقع لم أكن أفكر بنشرها، ولا في جعلها قصة كاملة.. إن هذا كله دخل بها، إلا أنني أعتقد أن شعوري تجاهها بالضبط قد تحدد خلال كل تلك الأحداث... هو الشعور الذي عبرت عنه – قبيل أسطر- بكلمتين :" لست أدري"