عاشت إسرائيل لسنوات طويلة، بعد قمعها الوحشي للانتفاضة الثانية، فترة من الراحة النسبية، من حيث التكلفة المحدودة لمشروعها الاستعماري - الاستيطاني دائم التمدد. فقد تمكنت، ومن خلال خطة أمريكية مشتركة، من إعادة هندسة وإخضاع السلطة الفلسطينية الرسمية، وإلحاقها بمنظومة السيطرة الصهيونية، بصورة فعلية، عبر التدريب الأمريكي لقواتها الأمنية وضخّ الأموال للجهاز الأمني الفلسطيني. وهذه السنوات، حتى عام ٢٠٠٩، شهدت توسعا غير مسبوق للمشروع الاستعماري وتغولاً فاحشاً لنظام الأبارتهايد، ترافق مع تطور خطاب سياسي فلسطيني هابط، يتسم بالخنوع والخواء الأخلاقي، بمفهوم التخلي عن خطاب التحرر ومنظومة القيم الوطنية والإنسانية المرتبطة به. كما أن وقوف سلطة رام الله في وجه المقاومة، وضعفها، سهلا تعاظم قوة اليمين ليتعزز حكمه هو واليمين الفاشي، الاستيطاني، وعزز المبررات لدى أنظمة عربية ساقطة، لعقد تحالفات أمنية مع نظام الأبارتهايد. كل ذلك ضخّم الشعور بسكرة القوة لدى نظام الأبارتهايد، والمجتمع الاستيطاني الصهيوني. وكما هو الحال مع كل القوى الاستعمارية، التي أعمتها سكرة القوة، والنزعة الفوقية، عن رؤية أو استشراف نهوض عناصر القوة الكامنة في الشعب المُستعمَر، فإن الكيان الإسرائيلي، أو تمدد مشروعه الاستعماري، وتعاظم وحشيته، من جهة، والفعل الفلسطيني المقاوم، الممتد على طول فترة الوجود الصهيوني، من جهة أخرى، كل ذلك ولَّدَ معطيات/ مفاجآت عديدة، لم يتوقعها. إذْ منذ عام ٢٠٠٩، يشهد الشعب الفلسطيني يقظة شعبية جديدة، كانت بدايتها على شكل هبات شعبية، في القدس، وتطورت إلى واقع آخر وبأشكال متنوعة من المقاومة، لم يدرك نظام الأبارتهايد دينامياتها، إذ ظن أن ليس لهذه اليقظة المقومات للتوسع والتغلغل في صفوف الشعب الفلسطيني وفي أوساط الشعوب العربية، والمجتمعات المدنية في الغرب وأنحاء العالم. أو أنه قدّر أن بإمكانه احتوائها إلى ما لا نهاية، عبر القمع المادي المباشر، أو القوة الناعمة كالسلام الاقتصادي وغيره من أساليب الإغواء.
تعيش إسرائيل الآن نتائج غير متوقعة لأفعالها ولسياساتها، أو لمشروعها الاستيطاني الإحلالي، وضعتها في معضلة جدية، شهدنا بعض معالمها في حالة التلعثم والارتباك إزاء التطورات التي حصلت في الأقصى، وتفاعلاتها في فلسطين ولبنان أواخر الأسبوع الماضي، في إطار ما أصبح يعرف بوحدة الساحات منذ هبة الوحدة والكرامة في أيار لعام ٢٠٢١. أي التلعثم في كيفية الرد على كل ذلك، دون أن تنجر إلى مواجهة دامية شاملة في وقت يشهد الكيان صراعاً داخلياً غير مسبوق من حيث حدته واتساع نطاقه ومدته الزمنية. فجاء الرد محدوداً، ومحسوباً، مما عزز النقد الداخلي باستمرار تآكل قدرة الردع. ولا يعنى ذلك أن نظام الأبارتهايد الاستعماري بات ضعيفا وأن الانتصار عليه بات قريبا، فهذا التقدير يمثل خطورة كبيرة لأن قراءته على هذا النحو تجر ويلات على شعبنا. إنما تحفز على مواصلة النضال، وعلى التفكير والتخطيط المسؤول، القائم على قضم قوته بالتدريج وصولا إلى الغاية النهائية؛ التحرر والعدالة والمساواة.
ويمكن تلخيص عدد من النتائج غير المتوقعة التي أنتجها المشروع الصهيوني، وممارسات النظام الذي يديره. وهي نتائج تشكل عناصر هامة في استثمارها من قبل الشعب الفلسطيني في كفاحه الطويل من أجل التحرر والعدالة.
النتيجة الأولى؛ تفجر تناقضات المشروع الكولونيالي الصهيوني بصورة أوسع، الناجمة عن اعتماده على الأساطير التوراتية في تأسيس كيان أوروبي حديث غريب في قطر عربي . ولهذا العامل بعدان ليسا في صالح النظام؛ البعد الأول التناقض بين يهودية الدولة وديمقراطيتها، والذي انكشف في الثلاثة عقود الأخيرة كمدخل لفهم مصادر الظلم ضد الشعب الفلسطيني، ومصدر للتوتر الداخلي. والبعد الآخر، تعمق البعد اليهودي الديني، وتغلغله في الدولة والمجتمع. ولهذا الأخير نتائج وتداعيات تهدد تماسك الكيان، نراها الآن في حركة الاحتجاج غير المسبوقة في اتساعها وحدتها، وطول مدتها. وكما يقولون انقلب السحر على الساحر.
النتيجة الثانية؛ تبلور من نجا من عملية التطهير العرقي، أي فلسطينيو الـ ٤٨، في جماعة قومية كبيرة نسبيا، ومتميزة، باتت تشكل تحدياً ديمغرافياً وسياسياً وأيدلوجياً، ليس بمقدور الدولة اليهودية منحهم مساواة كاملة ولا قادرة على التخلص منهم، لأسباب كثيرة. وبتصنيفات الجهازين، الأمني والسياسي لنظام الأبارتهايد، فإن هذا التحدي هو ذو بعد أمني، ذلك أن الخضوع لمبدأ المساواة الكاملة معناه، بنظر النخبة الصهيونية، نهاية لمشروع الدولة اليهودية. هكذا نُظر إلى هذا الوجود الفلسطيني منذ إقامة إسرائيل، ومؤخراً تتم ترجمة هذه النظرة عبر تطوير أجهزة الرقابة والقمع المعتمدة، إلى أجهزة أكثر عنفا، مثل إقامة ميليشيا تختص بقمع هؤلاء الفلسطينيين، رغم أنهم رسميا يعتبرون مواطنين إسرائيليين، لأن هذا الجزء بات يمارس انتماءه للشعب الفلسطيني، كونه أيضا ضحية الممارسات الاستعمارية التي تعود إلى عام ١٩٤٨ بل إلى أكثر من قرن.
النتيجة الثالثة؛ انكشاف نظام الأبارتهايد. منذ البداية أرادت إسرائيل، في زمن حركة العمل الإسرائيلية "اليسارية"، السيطرة على الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، وتفنّنت في طرح المشاريع التي تُموّه السيطرة، مثل خطة أيلون والحكم الذاتي وغيرها، للإيحاء بأن الاحتلال مؤقت، وليس دائما. ولكن دينامية السيطرة والسماح لمجموعة متطرفة من المستوطنين وتحديدا حركة غوش أمونيم، في الاستيطان في مدينة الخليل، وغيرها، بعد الاحتلال مباشرة، خلقت ديناميات وولدت حركات متطرفة أخرى، مما نتج عن ذلك نظام أبارتهايد سافر، بحيث لم يبق لمنظمات حقوق الإنسان الدولية، سوى الإعلان رسميا في تقاريرها أنها نظام فصل عنصري، تنتمي إلى عائلة نظام الأبارتهايد البائد في جنوب أفريقيا. وترتب على هذا الانكشاف، نشوء حركة مقاطعة فلسطينية، دولية، باتت مصدر تهديد لشرعية هذا النظام العنصري.
النتيجة الرابعة؛ واشتقاقا من النتيجة الثالثة، التي كشفت عن توجه نظام الأبارتهايد بأن حق تقرير المصير هو حق حصري لليهود، في فلسطين، فإن الفلسطينيين، وبخلاف ما توقعت إسرائيل أي أن يستسلموا ويتخلوا عن حل الدولتين، ويقبلوا العيش تحت نظام الأبارتهايد بدون حقوق، فإنهم يعودون الآن إلى التاريخ، إلى جذور القضية، بصورة عفوية من خلال تشابك الساحات، ومن خلال مبادرات منظمة ينخرط فيها مثقفون ونشطاء، تدعو إلى تفكيك نظام الأبارتهايد الاستعماري، وتحقيق حل الدولة الديمقراطية الواحدة الذي تخلت عنه منظمة التحرير الفلسطينية، عندما وُعدت بدولة في الضفة والقطاع. وبكلمات أخرى، فإن مخطط التجزئة والتقسيم، الصهيوني، بدأ يواجه تحدياً حقيقياً، على المستوى الثقافي على الأقل. ما معناه أن الشعور المتنامي في أوساط الشعب الفلسطيني، بأنه شعبٌ واحد، يتعاظم، وينحو نحو الوحدة من تحت. أما على المستوى السياسي، فإنه لا يزال مجزأً، ولكن الوحدة الشعبية المتنامية لا بد أن تنتج سقفاً سياسياً موحداً، وهي صيرورة تاريخية، تحتاج إلى تراكمية الفعل والزمن، وميلاد طلائع قيادية جديدة عصرية وقادرة.
النتيجة الخامسة؛ على المستوى الخارجي؛ تحولات في الرأي العام الأمريكي، واليهودي الأمريكي، ضد نظام الأبارتهايد، ونحو دعم الحق الفلسطيني. وهو تحول يتوقع أن يبلغ ذروته في غضون عشر سنوات، الأمر الذي يعتبره محللون إسرائيليون خطرا استراتيجيا قادماً، لأنه يأتي من الإمبراطورية الأمريكية التي تشكل مصدر بقاء المشروع الاستعماري في فلسطين.
أما على المستوى الإقليمي، فقد جاء الاتفاق بين النظامين السعودي والإيراني، لتطبيع العلاقات ليوجه صفعة لسياسات نتنياهو ولنظام الأبارتهايد ككل، بإقامة تحالف عربي خليجي ضد إيران. لا يشكل هذان النظامان نموذجين للشعوب الساعية لتحقيق حقوقها وحرياتها، والمتورطان بحروب بدول عربية جارة، ولا يعني استبعاد إمكانية إقدام النظام السعودي على التطبيع مع إسرائيل، ولكن هو اتفاق هام على المستوى الاستراتيجي، لأن من شأنه أن يكبح الاندفاع الإسرائيلي إلى الخليج، ويفتح الأفق لخلق حوار عربي إيراني حول مستقبل المنطقة، ويخفف من تدخلاتهما في دول الجوار، هذه الدول التي تحتاج إلى مناخ يتيح لها تحقيق أهداف ثوراتها المجيدة. إن تحقيق ذلك يعني سلب أوراق قوة راكمتها إسرائيل عبر تحالفاتها الخليجية وغير الخليجية.