تدوين- ذاكرات/ شخصيات وأحداث
"لم يعانق عامه الثامن إلا وقد غدا كسائر القرويين يخرج أيام عيد الفصح إلى بساتين البرتقال لقطف ثمارها. وفي ذلك القطاف أبصر امرأة تجني وتبكي مما أثار تساؤله فأحزنه قولها بأنه "ربما كان موسم القطاف الأخير فالصهاينة يتدفقون ويطغون"، ومع تلك الحاثة تفتح كمال ناصر على شؤون الوطن وشجونه وفي سن العاشرة بدأ يقود مظاهرات تنادي بإنهاء الاحتلال البريطاني لفلسطين". هذه الحادثة التي كانت أولى فواصل التحول في حياة الشهيد كمال ناصر أوردها سهيل سليمان في كتاب "كمال ناصر الشاعر والأديب والسياسي"، الصادر عن دار الأصالة في بيروت عام 1986. والذي وثق فيه الجوانب المختلفة في حياة الراحل.
في واحدة من قصائده كتب كمال ناصر:
مأساة هذا الشعب مأساتي .. وجراحه الثكلى جراحاتي
أنا بعض ما ينساب من دمه .. وكأنه من بعض آهاتي
قدران في درب المنى اعتنقا .. هيهات ينفصلان هيهات
كانت هذه من أوائل الأبيات التي كتبها ناصر في عمر صغير، والتي كشف فيها عن علاقته بشعبه، وطنه، وكل ما يعانوه، ليبدأ رحلة سياسية نضالية أودت إلى ارتقائه ورفيقين آخرين شهيدا.
ولد كمال بطرس ناصر يوم العاشر من نيسان عام 1924 في غزة حيث كانت العائلة بحكم عمل ربها، وكان أصغر اخوته سامي، ألين، لوريس، وديع، وسلوى.
يقول سليمان في كتابه: "المتتبع لنضال رجالات غزة تحت الاحتلال غب وقوعه متقطعا حتى استمراره لا يستغرب أن تحل الروح النضالية الغزية في هذا الوليد الجديد".
وتربى ناصر في بيرزيت شمال رام الله، والتحق بالجامعة الأمريكية في بيروت ليحصل منها على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية عام 1945 وعمل في التدريس لفترة من عمره، فقام بتدريس اللغة الإنجليزية، إلا أنه لم يجد نفسه إلا في الصحافة، ليعبر عن أفكاره السياسية ويلبي بعض طموحه الثقافي.
عام 1949، تعاون ناصر مع هشام النشاشيبي وعصام حماد على إصدار صحيفة الجيل الجديد عام في القدس. وكتب في افتتاحيتها مقالا بعنوان "شعب أضحكته النكبة" الذي تحدث فيه عن سبب النكبة بقوله: "حطم المستعمر الغاشم العالم العربي بمؤازرة العرب".
يقول سهيل سليمان: "يلاحظ من المقالة صحفيا يتوسل السخرية الممتزجة بالتألم سبيلا للتأثير في قارئيه مستخدما الألفاظ والعبارات الهائلة المتهكمة يعالج بها اللامبالاة التي تسيطر على الوضع العام للبلاد".
أما عن مقالاته السياسية بشكل عام فيرى سليمان أن ناصر كان كاتبا سياسيا ناجحا، ذا ثقافة عريضة عميقة، وواحدا من أبرز مفكري الوطن العربي، وصاحب قدرة عالية على اكتساب مركز مرموق في المجتمع الذي عاش لأجله.
وفي العام التالي أسس ناصر حزب البعث العربي الاشتراكي في رام الله، لتبدأ مرحلة جديدة في حياته تنتقل به من السجن إلى المجلس النيابي، حيث انتخب نائبا عن دائرة رام الله عام 1956.
وكان ناصر من أركان جريدة البعث التي أصدرها عبد الله الريماوي في الضفة الغربية ناطقة باسم التنظيم الفلسطيني للحزب هناك.
نشط كمال صحفيا، وذهب إلى دمشق وكتب في حينها لأخيه: "إنني الآن أعلم اللغة الإنجليزية وأعمل في بعض الصحف".
وبعد حرب حزيران عام 1967، نتيجة لمواقفه الوطنية والنضالية أبعدته سلطات الاحتلال عن فلسطين، وبعدها بعامين انتخب عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتولى رئاسة دائرة الإعلام والتوجيه القومي ومجلة فلسطين الثورة، وكان المتحدث الرسمي باسم المنظمة، ورئيس لجنة الإعلام العربي الدائمة، المنبثقة عن جامعة الدول العربية.
تركت حربا عام 1948 و1967، أثرا عميقا في شخصية "ضمير الثورة الفلسطينية" كما لقبه صلاح خلف "أبو إياد"، وفي مذاكراته كتب: عندما كنت أنام بعد هزيمة عام 1948، كنت أستقيظ من نومي مذعورا في السنوات الأولى للنكبة من جراء كوابيس وأحلام كانت تعذبني باستمرار، وتذكرني بالمعارك المزيفة والاستسلام، والمسرحية التي مثلت على أرض فلسطين. كما اكنت هذه الكوابيس تطاردني فتصور لي الذبح والقتل الجماعي والتشريد الذي حدث لبني قومي وهم يطردون من بلادهم فلسطين".
خلال حياته، أرخى كمال ناصر العنان لقلمه يصول ويجول في أية مجلة أو صحيفة عبر الوطن العربي الذي تواجد فيه أزمانا، وأصدر صحفا خاصة به وكتب لأخرى، بدءا بجريدة الوحدة ثم البعث والجيل الجديد ثم فلسطين ثم جريدة الميثاق الأردنية.
كما ترك كمال مجموعة كبيرة من الكتابات والأعمال الشعرية. وأهم آثاره النثرية افتتاحيات "فلسطين الثورة"، المجلة الرسمية الناطقة باسم منظمة التحرير الفلسطينية، وكان يتولى رئاسة تحريرها منذ إصدارها في حزيران 1972 حتى تاريخ استشهاده في نيسان 1973.
وأبرز آثار كمال ناصر الشعرية مجموعة قصائد نشرت سنة 1959 تحت عنوان "جراح تغني"، وملحمة بعنوان "أنشودة الحق" غنى فيها للوحدة العربية، ومجموعة شعرية بعنوان "أناشيد البعث"، وديوان "أغنيات من باريس". كما كتب ثلاث مسرحيات هي "التين" و"مصرع المتنبي" و"الصح والخطأ". وقد تألفت بعد استشهاده لجنة لتخليد تراثه نشرت أعماله النثرية والشعرية الكاملة سنة 1974.
يقول سهيل سليمان إن كمال ناصر في قصائده الوطنية، القومية، الإنسانية والاجتماعبة، الوجدانية، مجد الحق والحرية وثار على الاستعمار الظالم، وأشعل الحماس في الصدور باسترجاعه صور البطولات العربية الماضية عبر عبد القادر الحسيني وخالد اليشطري، وعربيا عير جميلة بوحيرد والشهيدة رجاء في الأردن، وعدنان المالكي في سوريا، والمهدي بن بركة في المغرب. وفي هذه الذكريات كان كمال يتقلب بين مشاعر الحزب والتضحية والشك والإيمان.
أدرك كمال أنه بالشعر يمكن الاتصال بالماضي والارتباط به فأركن إلى القصيدة العمودية في تقليد معنوي للتراث العظيم.
وإلى جانب الشعر كان ناصر محبا للموسيقى، وعزف على آلة البيانو وكان يلحن بعض قصائده بنفسه ويغنيها لأصدقائه.
في العاشر من نيسان عام 1973، هزت العاصمة اللبنانية أكثر عمليات الاغتيال تعقيدا في تاريخ القضية الفلسطينية حتى حينه، ونفذ جهاز مخابرات الاحتلال ليلتها ما أطلق عليها لاحقا "عملية فردان" ببيروت، راح ضحيتها ثلاثة قادة فلسطينيين هم: كمال عدوان، كمال ناصر، وأبو يوسف النجار.
وفي تفاصيل المجزرة كما ورد في الكتاب المذكور أعلاه: "عند الساعة الأولى من فجر العاشر من نيسان 1973، كانت عصابات صهيوينة قد دخلت لبنان بطرق مختلفة توزعت ما بين شاطئ بيروت الشمالي وشاطئها الشرقي، وأحد أحياؤها السكنية في القلب، تقتل وتدمر البشر، وأمام المبنى الكبير وسط العاصمة كان هناك نفر من الحراس الضحايا بأسلحة رمزية يقومون على حراسة ثلاثة من كبار قادة المقاومة، محمد يوسف النجار، كمال ناصر، كمال عدوان، هؤلاء الحراس جردوا من أسلحتهم المناسبة، بناء على طلب السلطات الرسمية، مرة بعد مرة، وتسلقت مجموعة إرهابيين المبنى إلى الدور الرابع لتفتحه بقنابلها ورصاصها فتصرع مضيفة طيران إيطالية لقد أخطؤوا وفتحوا بابا آخر ليصرعوا برصاصهم الغادر طفلا ينسج شعر الحب والحرية، وليطلقوا عشرات رصاصات على فمه لاسكات لسان الحق إلى الأبد ليصلبوه كالسيد المسيح ويخرجوا يجر بعضهم جراحهم التي أصابهم بها رصاص الشهيد مدافعا عن نفسه".
دفن كمال ناصر إلى جانب غسان كنفاني وفقا لوصيته، وكان كمال ناصر قد قال يوم رحيل غسان كنفاني: "يا سلام هكذا يكون عرس الكاتب الشهيد". متسائلا: "هل ستتاح لي مثل هذه الجنازة يوماً؟".