تدوين- نصوص
في الذكرى الأولى لشهداء عملية "الفردان" (محمد يوسف النجار، كمال ناصر، وكمال عدوان)، كتب الشاعر سعيد تيم قصيدة بعنوان "مواسم الجراح"، في الدوحة عام 1974.
وقال تيم في رثائهم: "وطني ترنيمة حب خضراء.. زنبقة طالعة من جرح وحكاية كبر حمراء ترويها أرواح الشهداء.. تنقشها فوق التل وفي السهل.. يتناقلها جيل عن جيل وترددها ألسنة الأطفال.. في ذكرى نيسان. ذكرى شهداء الفردان الأحباب.. يخضلّ الجرح ويورق.. يحملني لألوف ألوف الشهداء.. منهم من رحلوا دون رثاء... منهم مغمور الأسماء.. منهم من مزّق أشلاء.. منهم من لم يدفن بضريح.
ما همّ فهم أحياء أحياء، في ذاكرة الأرض يقيمون".
قالوا: سكتَّ وما دروا برحائي
لا تجرحوا صمتي وسر عيائي
ذهلت طيوف الشعر عن طرف همى
فأساي أكبر من رؤى الشعراء
غاضت حروفي في ضمير براعي
عفو الرجولة هل يسد بكائي؟
أقسى ضروب الحزن حزن صامت
معه يموت اللفظ في الأحشاء
رحلوا.. وما رحلوا كأني واهم
وكأنما الفردان حلم حلو نائي
غابوا... وما غابوا كأن لم يبرحوا
أتراهم هل يسمعون ندائي؟
أحبابي الشهداء ماذا في يدي
إلا بقايا أحرف خرساء
عذرا رفاقي ان تعثّر منطقي
فأنا أحز الحرف من سودائي
تتخضب الكلمات قانية الرؤى
لما تهب نسائم الشهداء
تتخشع الأشعار في محرابهم
تمشي على وجل على استحياء
ذكراهم... نيسان يحرق نفسه
فيضوع عرف الجنة العذراء
ذكراهم جذر تعمق في الثرى
ليمد فرع الثورة الشماء
ذكراهم الإقدام ينسل ذاته
يسري من الآباء للأبناء
من قال قد ماتوا؟ وتلك عيونهم
خلف الكوى وهاجة اللالاء
قسماتهم منقوشة في فجرنا
وعلى مطل الصبح والامساء
حفرت على جذع الخلود رسومهم
كتبت أساميهم على الأشياء
من قال قد ماتوا ؟ وملء دروبنا
منهم ثبات مقاتل وفدائي
من قال قد ماتوا؟ وفوق جباههم
شرف تخطر بادي الخيلاء
لما تسجوا والإباء مكلل
والكبرياء مهيبة الإصغاء
هل في صدورهم مغز رصاصة
ما مزقته ضغائن العملاء؟
ناموا هنيئا يا أحبائي فلا
هجعت عيون الجبن والجبناء
يرتد طرف الموت عنكم حاسرا
طوبى فتلك مصارع العظماء
سكبوا على سجف المساء دماءهم
فإذا الدجى متألق الأضواء
بكروا لإيقاظ النيام وصوتهم
يعلو .. يقض مضاجع الدخلاء.
ومشوا على وخز المدى وخطاهم
محفوفة بالغدر والإيذاء
رادوا المخاوف والمهالك والردّى
هجروا الأمان ولذة النعماء
حطموا نطاق ذواتهم وتجاوزا
وترفعوا عن حمأة الأهواء
فكوا القيود عن الرقاب وكفهم
تنزو تلم إرادة الضعفاء
ذابت همومهم بهم بلادهم
حملوا جراح الأهل والقرباء
وعلى سجون الظالمين تمردوا
وعلى سياط القهر والبغضاء
ساروا على درب الكفاح وما ونوا
ما أذعنوا لوصاية الكبراة
ومضت مسيرتهم مخضبة الخطى
عربية القسمات والأسماء.
نذروا لتحرير الجموع نفوسهم
لم يعبأوا بدسائس العملاء
وهبوا لتحرير التراب شبابهم
في البدء هم كانوا من الشهداء
يا عابرا بيروت... طف بركابنا
حول الصنوبر وارف الأفياء
لبنان كم لي في ثراك مواسم
لكن أنضرها صوى الشهداء
واها محمد والرجال أعزّة
رجل المواقف أين أين عزائي؟
في ذمة الأجيال جرح نازف
سيظل نبع شجاعة وإباء
واها محمد والشهادة مطمح
أتكون يوم الحشر من شفعائي؟
أتراك تذكر يا كمال نبوءة
رددتها كالطعنة النجلاء
"ما بعد أيلول بعمري فضلة"
يا للنجيع الطاهر المعطاء
أعناب "بربرة" ظمي شوقها
أيبثها "رامي" هوى الآباء؟
"قطر" التي أحببتما محزونة
تسقي الوفاء مواجع الخنساء
أكمال يا "جرحا يغني" شعبه
و"ضميره" كالشعلة الحمراء
باق كطود في بلادي شامخ
ترتد عنه زوابع الإفناء
خسئوا فلم يسكتك حقد رصاصهم
فمك الممزق غاية البلغاء
أحنيت رأسي خجلة ومهابة
لشهيدة مخضوبة الأحناء
يا أم يوسف ضرّجي لون الوفا
ليظل للثوار رمز فداء
لبنان إن عبث اللصوص بأرضه
فجموعه الغضبى ترد ذمائي
بيروت يا بحرا تدفق صاخبا
متلاطم الأمواج والأنواء
حملوا نعوشهم على أعناقهم
وعلى زنادهم عهود وفاء
ذاك العزاء ولا عزاء بفقدهم
كتلاحم الشرفاء بالشرفاء
لا يصنع التاريخ إلا ثائر
لبس الشهادة فوق كل رداء.
في كل شبر من بلادي وردة
حمراء يسقيها جنان فدائي
فقضيتي إلياذة مكتوبة
بدم على هذا المدى المتنائي
شطآن غزة إن تسلها تروها
وذرى الجليل ومهبط الإسراء
تلك الربوع تلالها وسهولها
كم ذا يرويها مسيل دماء
غنيت للشهداء ما بذلوا الدما
لهم الجنان وذروة العلياء.
الدوحة – نيسان 1974