الخميس  21 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

نبذة من تاريخ أبي الطيب المتنبي بمناسبة وفاته في رمضان قبل ألف عام

2023-04-12 11:44:11 AM
نبذة من تاريخ أبي الطيب المتنبي بمناسبة وفاته في رمضان قبل ألف عام

تدوين- ذاكرات/شخصيات وأحداث

 

نبذة من تاريخ أبي الطيب المتنبي

بمناسبة وفاته في رمضان قبل ألف عام

"بقلم الأستاذ الشيخ درويش أفندي الدباغ"

نشرت صحيفة الدفاع، في عددها الصادر بتاريخ 22 كانون الأول 1933، مقالاً كتبه درويش الدباغ عن أبي الطيب المتنبي بمناسبة مرور ألف عام على وفاته في رمضان. 

وجاءت المقالة على النحو التالي:

بمناسبة وشوك انتهاء شهر رمضان المبارك الذي توفي فيه شاعر العرب الأكبر أبو الطيب المتنبي قبل ألف سنة، وبمناسبة الاحتفالات الألفية لتخليد ذكراه بحلب وسوريا رأيت أن أتحدث عن اتصاله بسيف الدولة سلطان حلب وما والاها ثم اتصاله بكافور مولى بني اخشيد فأقول:

إن أبا الطيب عندما رأى النفوس متوثبة للثورة على الحكم الجائر اغتنم هذه الفرصة فهيأ معدات القيام باختلال سياسي كبير لقلب الحكم العاسف والمتحيز الخائف، لكن مع الأسف وقع مضمون قوله:

ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تجري الرياح بما تشتهي السفن.

لأن الرقباء الأشرار وشوا بأبي الطيب عند والي حمص التابعة للحكم المصري إذ ذاك فألقى عليه القبض وحبسه مدة مديدة ثم خرج هائما على وجهه يتخبط الآفاق بدلالة قوله:

أبداً أقطع البلاد ونجمي

في نحوس وهمتي في سعود.

إلى أن ألقى عصا التسيار في ظل أبي العشائر الحمداني والي أنطاكية وصادف مرور سيف الدولة الذي نشر سلطانه على حلب وما وراء النهرين، عند أنطاكية فقدمه واليها إليه واصفا أدبه الجم وشعره المطبوع- وقد كان الأمير سيف الدولة تذوق الأدب وأخذهه عن شيوخ أفذاذ أيام ولاية عهده، فصدق خبر أبي الطيب خبره، وقد كان الأمير خصص جناحا في قصره الحلبة، "وهو أعظم من قصور أباطرة الرومان" وجعله كعبة للأدباء ومحجة للشعراء، ومثابة العلماء من كل قطر إسلامي، فلازمه من الشعراء المجيدني السري الرفاء وأبو العباس النامي وأبو الفرج الببغاء وأواء الدمشقي وأبو الفرج العجلي، ومن العلماء الفارابي – عالم الفلسفة والموسيقى- وابن خالويه من علماء البلاغة وغيرهم من الفضلاء الاعلام، وكان اتصال أبي الطيب بالأمير الحمداني سنة 337هـ فتلمس فيه الشاعرية الحقة وتقرى فيه ميلا قويا للفروسية فسلمه لرواضي الحرب، فأتقن الفروسية والطعن والضرب، وحضر الحروب مدة اقامته الطويلة:

تَمَرَّستُ بِالآفاتِ حَتّى تَرَكتُها

تَقولُ أَماتَ المَوتُ أَم ذُعِرَ الذُعرُ

وَأَقدَمتُ إِقدامَ الأَتِيِّ كَأَنَّ لي

سِوى مُهجَتي أَو كانَ لي عِندَها وِترُ

الفرابي

بقي أبو الطيب لغاية 346 هـ وهو عند الأمير بين منازلة الأعداء في الحرب ومساجلة الشعراء أيام السلم وفكر الولاية معشعش في ضفاف قلبه وحب الإمارة متغلغل في حنايا ضلعه ينطلق لسانه أحيانا فيما يكنه بقوله.

أَهُمُّ بِشَيءٍ وَاللَيالي كَأَنَّها
تُطارِدُني عَن كَونِهِ وَأُطارِدُ
وَحيدٌ مِنَ الخُلّانِ في كُلِّ بَلدَةٍ
إِذا عَظُمَ المَطلوبُ قَلَّ المُساعِدُ

وقوله:

فَقُل في حاجَةٍ لَم أَقضِ مِنها
عَلى شَغَفي بِها شَروى نَقيرِ
وَنَفسٍ لا تُجيبُ إِلى خَسيسِ
وَعَينٍ لا تُدارُ عَلى نَظيرِ
وَكَفٍّ لا تُنازِعُ مَن أَتاني
يُنازِعُني سِوى شَرَفي وَخَيري
وَقِلَّةِ ناصِرٍ جوزيتَ عَنّي
بِشَرٍّ مِنكَ يا شَرَّ الدُهورِ

مع أنه كان بمنزلة الشاعر الكبير أبي نواس عند الخليفة الأموي وبمنزلة البحتري عند الخليفة المتوكل، لكنه يتوق إلى امارة ولو كانت من نوع ما تولاه الشاعر الكريم مسلم ابن الوليد أيام الفضل بين سهل وزير الخليفة المأمون (وهي إدارة بريد جرجان) أو ما تولاه الشاعر المبدع أبو تمام أيام الوزير حسن بن وهب (وهو إدارة بريد الموصل) إن لم يكن أعظم من ذلك وكان سيف الدولة يعرف ما تمكنه نفسه لكنه تغاضاه وأغدق نعمه عليه فأفعم وطابة ودرت له اختلاف الدنيا فتسلى بالعطايا وقيد نفسه لخدمة الأمير ومدحه.

تَرَكتُ السُرى خَلفي لِمَن قَلَّ مالُهُ
وَأَنعَلتُ أَفراسي بِنُعماكَ عَسجَدا
وَقَيَّدتُ نَفسي في ذَراكَ مَحَبَّةً
وَمَن وَجَدَ الإِحسانَ قَيداً تَقَيَّدا

وعندما نبغ بتفوقه الشعري وأدبه الجم وبز أقرانه وأصبح صاحب الطريقة الجديدة باطراحه الغزل في أول القصائد والدخول بالموضوع مع حسن التخلص ومزجه الفلسفة والحكمة بالشعر الذي قلده به أبو العلاء المعري وإبن هاني شاعر الاندلس الكبير وجملة من شعراء زمانه.

حينئذ جعله سيف الدولة حال لواء الشعراء فميزه عليهم بأن ينشد قصائده قاعدا ولا يكلفه بتقبيل الأرض بين يديه وهذه الميزة والعطايا وحضور المواقع الحربية ألهبن شعره أيضا فأصبح العلم الفرد اذ كان بطبيعته فيلسوفاً اجتماعياً، ولما زادت خبرته بالناس أتى بالعجب العجاب من مزج التصوير والحكمة في هذه الفلسفة كقوله:

وَمِن نَكَدِ الدُنيا عَلى الحُرِّ أَن يَرى
عَدُوّاً لَهُ ما مِن صَداقَتِهِ بُدُّ

وقوله: ومن ينفق الساعات فى جمع ماله

                                  مخافة فقر فالذي فعلَ هو الفقر

وقوله:

وَما بَلَدُ الإِنسانِ غَيرُ المُوافِقِ
وَلا أَهلُهُ الأَدنَونَ غَيرُ الأَصادِقِ

وقوله:

ومن العداوة ما ينالك نفعه

ومن الصداقة ما يضر ويؤلم

وقوله بالحث على الإقدام:

يرى الجبناء أن العجز عقل

وتلك خديعة الطبع اللئيم

وقوله:

من الحلم أن تستعمل الجهل دونه

اذا اتسعت في الحلم طرق المظالم

وقوله:

واذا لم يكن من الموت بد

فمن العجز ان تموت جبانا.

وقوله:

عش عزيزا أو مت وأنت كريم

بين طعن الغنا وخفق البنود

وليس هذا أحسن شعره.

لا، بل له أحسن وأجود، ولا يوجد لشعره واصف أحسن من بيته هو في قسم الفخر وهو :

إِنَّ هَذا الشِعرَ في الشِعرِ مَلَك
سارَ فَهوَ الشَمسُ وَالدُنيا فَلَك

بشهادة قوله: ومن يك ذا فم مر مريض

يجد مرا به الماء الزلالا.

على أن سيف الدولة كان يفتح باب المناظرة بينهم علما منه أن هذا التنافس كسب للأدب وثروة للفنون وتمهيد لولادة العبقريات بين العلماء من كل صنف عدا عما في هذا الحوار من تصادم الأفكار من شغل شاغل لشاعر العرب عما يدر في خلده، كان شعر المتنبي من المعجزات أكبر دليل على ذلك أن أبا العلاء المعري اختصر ديوانه وسماه "معجزة أحمد" وقد حسده أصحاب الطريقة القديمة وعافصه ذلك الشعوبي أبي خالويه وناصبه العداء انتصارا لمبدأ الشعوبية بدلالة قوله

أزل حسد الحساد عني بكبتهم

فأنت الذي صيرتهم لي حسدا

اذا شد زندي حسن رأيك فيهم

ضربت بسيف يقطع الهام مغمدا

على أن تلك المذاكرة أفضت إلى مناحرة فترك حلب مودعا بلاط الأمير سيف الدولة بقوله:

يا من يعز علينا أن نفارقهم

وجداننا كل شيء بعدكم عدم.

وفي فرصة أخرى سأتكلم عن هبوطه مصر واتصاله بكافور.