الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

سيمون دو بوفوار/ نيلسون أليغرين: تحسَّس حضوري بجواركَ مثلما أشعر بحضوركَ

2023-04-22 07:45:18 AM
سيمون دو بوفوار/ نيلسون أليغرين: تحسَّس حضوري بجواركَ مثلما أشعر بحضوركَ
سيمون دو بوفوار

 تدوين- ترجمة: سعيد بوخليط

*الخميس  3 يونيو 1947

منذ رسالتي الأخيرة، عشتُ يوميات على هدى أكثر المطمئِنِّين: التوقف عن الذهاب إلى النوادي الليلية، أو تلك الحفلات، بل وعدم الاهتمام بما هو فكري.

اندلع إعصار سخيّ، بعد يوم حارق جدا جعلنا نحتضر، وأحال بيننا وكذا مختلف دلالة الحب، العمل، السعادة.

فجأة، اكتسح السماء دخان أسود هائل، فانطلقت أشباح غريبة تستعرض حضورها بين طيات الضوء المعتَّم، بعدها لم نعد نلمح أثرا للسماء ولا المنظر العام، فقط شجرة كرز تتقاذفها الرياح بينما انهمر مطر مجنون ثم قصف الرعد كل مكان.

اقتُلِعت أشجار، وكابدت الأزهار مذبحة، هكذا تجلت مشاهد ساحة معركة حقيقية.

لم أعاين سابقا إعصارا بهذا الحجم، سواء في منطقة ديلفي اليونانية، يكتسي خلالها السياق أصداء دينية وجحيمة، ولا أيضا تحت فضاء نيو أورلينز الأمريكية، حيث يسود الجنون السماء والأرض. بعد فترة سكينة!

جاءني أصدقاء لتقاسم وجبة العشاء وقضاء أمسية طويلة: الفتاة صاحبة حادثة الدبُّوس الشهير (حدثتُكَ عنها سابقا)، رفقة زوجها، والمرأة العجوز (أيضا أخبرتُكَ عن شخصيتها) التي أحبها كثيرا، ثم سارتر.

 لم أتبيَّن قط أجواء السكينة، فقد أشعرني الإعصار بالغضب، لذلك ارتشفتُ أقداحا دون توقف، وضع، يجعلني حبيبي، أفقد صوابي كليا، بالتالي ما إن انتهت الأمسية وغادر الأصدقاء، حتى غدوتُ كائنا أشبه بإعصار، فصُعِقَ المسكين سارتر وأنا أتنبأ بحماقات حول الحياة، الموت، وكذا موضوعات أخرى من هذا القبيل.

نتيجة تأثير حالة الثمالة، بدا لي الوضع برمته مأساويا، يثير الشفقة، مرعبا، تشغل حقائقه أهمية قصوى، بقدر عبثيتها أيضا، ما دامت جميع السبل تفضي وجهة الموت.

أضرب الجدران برأسي. أتخيَّلُني هائمة وتائهة، أتسكَّعُ ليلا بين دروب الريف الصغيرة والهادئة.

مآل، جعلني أتخذ قراري بالامتناع نهائيا عن الاقتراب من الكحول.

تعلَمُ، بأنَّ الوجود لا يعكس لدي، وضعا بديهيا، مع أنَّي كنت دائما سعيدة للغاية، ربما جراء تطلعي نحو غاية اختبار مطلق لتجربة السعادة. هكذا، عشقتُ الحياة بشغف، وأبدي امتعاضا حيال  فكرة رحيلي، ذات يوم، عن هذا العالم.

أنا جشعة بشكل فظيع، أعشق كل شيء في الحياة، أن أكون امرأة ورجلا كذلك، يحيط بي العديد من الأصدقاء، دون التخلي في نفس الوقت عن العزلة، الانكباب كثيرا على العمل، تدبيج كتب جيدة، السفر، الاستمتاع، التحلي بالأنانية وإبداء السخاء في نفس الوقت.

كما ترى، ليس بالأمر الهين امتلاك كل ما أرغب فيه. عندما أعجز عن بلوغ الوضع الذي أصبو إليه، تنتابني موجة سخط عارمة.

بعد هدوء الإعصار، استعدتُ ثانية الطمأنينة، ثم شرعتُ في أوراق حول النساء، قصد الحصول على مكافآت بالدولار ثم التواجد معك في نيو أورلينز.

عدتُ يوم الثلاثاء إلى باريس، التقيتُ بالصديقة اليهودية التي حدثتُكَ عنها في إشارة سابقة. طالبة لامعة فيما مضى، لكنها تزوجت أحد الآريين دون قصة حب كبيرة، علاقة أرغمتها على التواري طيلة أربع سنوات، ولم تعد تمتلك حاليا تألقها السابق، إنها تعيسة. كانت متعلقة بي جدا، بينما أبادلها مشاعر محدودة للغاية.

أيضا، تجمعني أواصر الصداقة بفتاة روسية (1) تعاني من داء السلِّ، بدورها تحبني. لكن يحزنني الإقرار، بعدم اهتمامي حقا لأمر هؤلاء النساء، إنهن في غاية الشباب، أو معتوهات بما يكفي، لا أدري، وتبقى المرأة العجوز الوحيدة ضمنهن التي أضمر لها مشاعر الاحترام. أما بالنسبة للأخريات، فأمثِّل لهن مقام الأمِّ، أو الأخت الكبرى، بينما ينعدم لدي الإحساس بكونهن في منزلة بناتي. لا أرغب في وجود أيّ منهن.

سيمون دو بوفوار ونيلسون غرين

آه نسيتُ! ربما لدي بنت، أحبها كثيرا، يتعلق الأمر بالشابة الروسية التي تعيش رفقة زوجها في لوس أنجلس، سافرنا معا خلال هذه السنة. أحظى لديها  بموقع خاص، حدثتُكَ عنها سابقا.

سأنهي هذا الموضوع، لا يمكنني الاستطراد واستعراض مختلف جوانبه طيلة ساعات، فليس لدي الوقت الكافي.

غادر سارتر باريس، لمدة أسبوع، وقررتُ بدوري الذهاب إلى شاطئ البحر، تحديدا جزيرة كورسيكا، بغاية السباحة والتسلية.

غدا صباحا، سأتوجه بالطائرة إلى أجكسيو (بلدة فرنسية). أعرف جغرافية كورسيكا، فقد زرتُ المنطقة منذ اثنتي عشرة سنة، صحبة الشابة الشهيرة بقضية الدبُّوس وزوجها وأختها، نِمْنا جميعا داخل خيمة وهيَّأنا الطعام في الهواء الطلق. المكان ساحر.

منذ فترة، سيطر عليّ هاجس العودة مرة أخرى إلى هناك، لكن استعصت مسألة الظفر بحجز سواء على متن الباخرة أو الطائرة. حاليا، أنا سعيدة.

أتمنى عدم وقوع حادثة للطائرة تؤدي إلى احتراقي، ثم تطِّلع على الخبر بواسطة صفحات الجرائد. لا يباغتكَ صمتي طيلة أسبوع، فلن تصلكَ تباعا رسائلي من كورسيكا، بل يحتاج ذلك إلى وقت أكبر، غير أن إخلاصي دائم على مستوى الكتابة إليكَ.

منذ ساعة تقريبا، بعثت إليكَ إرسالية، تضم كتبي، ألتمس منكَ البدء أولا بقراءة رواية ''دم الآخرين''.

حبيبي،

كم أعشق منحكَ فائضا من السعادة بواسطة رسائلي تعادل نفس البهجة التي تلهمني رسائلكَ.

تحسَّس حضوري بجواركَ، مثلما أشعر بحضوركَ. صحيح لا يرى أحدنا  الثاني، فقط لأن مصابيح الإضاءة مطفأة، يمكنني أن ألمسكَ بيدي، وأقبِّلَكَ بشفتي، نعم أنا بصدد فعل ذلك، حبيبي، العطوف جدا. 

سيمون ملكُكَ.

 (1) الإشارة هنا إلى أولغا كوزاكيفيتش، يمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى كتاب بوفوار: ''حتمية العمر''.           

مصدر الرسالة:

Simone de Beauvoir :un amour transalantique(1947 -1964) ;Gallimard1997.PP :59. 61.