الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

غاستون باشلار: مفاهيم ومرتكزات المشروع

2023-04-23 11:29:31 AM
 غاستون باشلار: مفاهيم ومرتكزات المشروع
غاستون باشلار

 

تدوين- ترجمة: سعيد بوخليط 

المعرفة العامة والعلمية  (الحلقة 2)                                                                                                                           

تقديم:

اقتراح مشروع معجم حول غاستون باشلار، يعني بالتأكيد التحلي بعدم الوفاء نحو إلهامه الفلسفي الخاص. لأننا سنقاربه مثل موضوع يلزمنا بدراسته في حين رفض باشلار باستمرار ذلك، وفضَّل أن يكون شخصا دارسا، وفاعلا بصدد الدراسة.

أما بخصوص الإبستمولوجي، فيعني ذلك تجميده ضمن نطاق الوضعية التي خلفها لنا باشلار، بينما يرتكز تصوره على ضرورة مصاحبة فقط الإنتاج الوحيد الذي يبدو جديرا بالدراسة والاهتمام، ذلك المتعلق بمعرفة لا تتوقف عن الاشتغال.

تكمن الطريقة الوحيدة كي نبقى أوفياء لباشلار (1884- 1962)، في السعي إلى مواصلة صنيعه بالتموضع عند أفق التطورات الأخيرة وكذا آخر تساؤلات المعرفة. حينها يبرز معنى التساؤل عن مضمون قوله عندما يستعمل هذا المفهوم أو ذاك، ثم الانخراط عند الاقتضاء، في سجال، استدعاه  باشلار دوما  شريطة انغماسه بين طيات تربة معرفة بصدد التشكُّل.

إذن، بناء على العلاقة التي وطدها سجاله مع سياق الوضعية الأخيرة التي بلغها العلم، قد نرتاب بخصوص قدرتنا على التوثيق ضمن إطار تاريخي محدد. صدرت أعمال باشلار حول فلسفة العلوم بين سنوات 1928 و1953: يعود أحدثها تقريبا إلى نصف قرن، وطيلة هذه المدة، لم تتوقف فاعلية العلم عن التبلور، بل على العكس.

كي نسرد الأشياء بسرعة، نقول بأنَّ باشلار شاهد عيان توخى اصطحاب ظهور النسبية الخاصة وكذا النسبية العامة ثم ميكانيكا الكمِّ، لكنه رحل قبل التطورات الحالية. ألن يظهر تحفظا أقل إزاء فكرة الكون، لو أدرك مثلا الأبحاث الجارية على مستوى علم الكون؟

ربما أمكن القارئ الذي يمتلك معرفة بالوضعية الحالية للعلوم، الانخراط في مناقشة بعض نتائج تحليلات باشلار، لكي يضمن له على الأقل ''انفتاحا'' جديدا، لكنه ليس بالموقف الذي نتوخى تبنيه هنا: من جهة، يقتضي الأمر كفاءة حقيقية على مستوى المباحث، ومن جهة ثانية نسعى فقط لتقديم مساعدة بخصوص قراءة مشروعه، بغاية التمكن تحديدا من إبراز الكيفية التي يواصل بها غاية اليوم إضاءة العلم.

تحضر دواع أخرى، تثيرنا بخصوص قول الكثير حين تناول قراءته التي بلورها الرافد الثاني من مشروعه المتعلق بالخيال. هنا، اقتحم باشلار مسارات عدّة وأشار غالبا إلى حقول لم يقف عندها قط لكن ينبغي اقتفاء أثره من أجل استلهام خطوات من هذا القبيل، بل وإتمام السعي قصد إنجاز عمله، الذي يستحيل عرضه دون التحسر على غياب إمكانية القدرة على الاشتغال بغية تمديد مرتكزاته.

الرافد الثاني منفتح كما الشأن بالنسبة لخلاصات مشروعه على مستوى العلم.

قليلة هي المشاريع المستفِّزة والمحرِّضة، مثلما الأمر مع نتاج باشلار: لا نقرأه دون انبعاث رغبة الاستعداد كي نكون عند مستوى أفقه.

ينتبه فكره إلى المستجدات، سواء استندت على مفاهيم أو صور، فيظهر باستمرار مختل التوازن، يبحث بلا كلل عن توازنه. في خضم ذلك، وضع لبنات معجم يقيس في الوقت نفسه اقتضاءه وكذا إبداعيته.

لقد أقام باشلار التعابير التي يحتاج إليها سواء بأن يبدع التئاما غير متوقع حول اسم وصفة تضمنتهما اللغة، سواء بتحويل كلمة عن دلالتها المتفق عليها، سواء بخلقه كلمة جديدة حينما يصبح ضروريا. ليس بالإمكان اتباعه هنا من خلال إبداعاته المعجمية المبرَّرة دائما. نتطلع فقط لمساعدة القارئ حتى يركِّز انتباهه حول عدد صغير جدا من المصطلحات.

عموما، اشتغل باشلار على رافدين اثنين، فلسفة العلوم، لا سيما علوم الواقع، ثم فلسفة الصور، أساسا الصور الشعرية. هل يتعلق الأمر بنفس الفلسفة، أو هل ينبغي جعلها متعارضة في إطار فلسفة للنهار وثانية تسكن الليل، واحدة متعلقة بالمفاهيم وأخرى تراهن على الصور؟

سنلاحظ هنا بأنَّ استعراض قاموس باشلار يقدم حججا كي ننتصر للوحدة، لكنها وحدة نقتفي أثرها وتتشكَّل باستمرار عبر إعادة التصميم التي تفرض نفسها كي تتجلى باعتبارها فلسفة تهتم بصياغة الجديد.

إذن، سأحاول طيلة ستة عشر حلقة، رصد أهم مرتكزات مفاهيم باشلار ومعجمه على مستوى العلوم أو تصوراته الشعرية، مثلما رتَّبته دراسة الباحث جان كلود باريونت عبر إصدارات سلسلة معجم الفلاسفة التي يشرف عليها جان بيير زرادر(*).   

 باشلار: المعرفة العامة والعلمية

تمثِّل تحديد العلاقة بين المعرفتين العامة والعلمية كـ''قطيعة''، التأويل الذي تختزل إليه غالبا فلسفة العلوم عند غاستون باشلار. سنجد أولى تجليات هذا التعبير سنوات 1940، وتواتر ذلك باستمرار ضمن صفحات مؤلفاته الثلاثة الأخيرة حول فلسفة العلوم.

هكذا، تتشكَّل المعرفة العلمية قبل كل شيء نتيجة سجال دائم يفضي بها نحو الصدام مع المعرفة العامة، ثم  بعد ذلك يتحول للاشتغال داخل العلم نفسه.

تتحقق المعرفة العامة في خضم تماسِّنا الإدراكي والفعال مع العالم المحيط بنا، تؤلفها  الصور والقيم. مع ذلك، سيبدو مضلِّلا فك ارتباط أحدهما عن الثاني دون رجعة، بالاعتقاد أن الصور ترتبط أساسا بالإحساس  وتعود القيم كليا إلى الفعل.

حقيقة، تتدخل القيم على الأقل ضمن الاختيارات التي نتبناها بين صور كثيرة تتأتى لنا من الإدراك كي نشكل بعضها كمبادئ تفسير مباشر للظواهر. هكذا، حينما نشارك عفويا حركة أجسام تطفو، نعتقد بأنَّ تدخلنا علَّة طفوها: يصعب بعد ذلك فهم مضمون مبدأ أرخميدس، الذي أوضح ما يلي: حينما نرغب في دسِّ جسم وسط الماء، يتأتى مصدر المقاومة من الماء وليس الجسم. أو أيضا، يخضِعُ نفس القانون الجسد البارز وكذا المنغمِسِ. ملاحظات أولى للمعرفة، تنسج خيوط قطيعة: ''نتعلَّم  بدلا عن معرفة قائمة''.

ينبغي على المعرفة العلمية توطيد قيم العقل، ضد المعرفة العامة التي تسودها معطيات الحواس. يمثل اكتشاف ثقب الأوزون حصيلة مسار حقيقي استطاع التخلص من التأثيرات الحسية. عند الإقرار بأنَّ الأوكسجين، يصبح معطَّرا، جراء إذعانه لتأثير شرارة كهربائية متكرِّرة، سنعتقد خلال الآن ذاته، اكتشافنا نوعية رائحة المادة الكهربائية.

بما أنها رائحة تفوح بعد حدوث العواصف الرعدية، فقد أضفنا على المسألة قيمة كونية تقترن بخاصية تعقيمية. بالتالي، نحتاج إلى سلسلة طويلة من التعديلات كي نستعيد تماما التأويل المادي، بالبحث تحديدا في الجوهر الكيميائي المناسب.

تكمن الطبيعة الحقيقية للمعرفة العلمية بين طيات عملية التعديل الاستطرادي الذي يتحقق خلال الآن ذاته على المستوى النظري (نقيِّد الموضوع الذي نرغب في دراسته بجسم من المفاهيم يحظى داخله بموقعه الصائب)، ثم على المستوى التقني (بتقديم الوسائل التي نضبط وفقها إنتاجه).

إذن المعرفة العلمية نسبية بكيفية ثنائية: نسبية قياسا إلى مجموع الوسائل النظرية والتقنية التي نرتِّبها خلال لحظة معينة. يلعب في هذا الإطار، إضفاء الرياضيات على الظواهر الطبيعية دورا أوليا؛ بحيث لا تقتصر، خلافا لما نعتقده غالبا، عند إمكانيات القياس التي تقدمها وتجعل العلم معرفة دقيقة، بل يتجه اهتمامها خاصة كي تحول العلم إلى معرفة برهانية، بينما المعرفة العامة لا تتجاوز مستوى تعميمات تجريبية، متنافرة ومتناثرة. 

يقتضي هذا التمثيل للعلاقات بين المعرفة العلمية والعامة، استبعاد الصعوبة واستحضار التدقيق. مصدر الصعوبة تلك الموضوعات المتواصلة التي تحكم الفكرة المعتادة التي نستشفها من هذه العلاقات.

نعتقد باستمرارية هذين النمطين من المعرفة لثلاثة أسباب أساسية:

أولا، نستند على استمرارية السرد التاريخي لتطورات العلم، الذي يتجلى كحصيلة سعي اتجاه سريع تقريبا، لكنه مستمر. هكذا، نهمل السمة التي تشعرنا بمعجزتها قياسا إلى سياق الاكتشافات الكبرى، مثلما الشأن مع النشاط الإشعاعي الاصطناعي. حينما اتضح لنا الجانب المأساوي لهذه الأخيرة، نحيل استحقاق ذلك على التأثيرات، مؤكدين على فكرة: ''لقد كانت في الهواء''.

ثانيا، تجري محاولات كثيرة، تحول بيننا ثم تذكر بأنَّ التقدم العلمي باعثه أولا النقاش، النقد، السجال.

أخيرا، لا ينبغي تهميش دور البيداغوجيا بخصوص الصياغات المتواصلة، لأن موضوع البيداغوجيا جعل العلم سهلا بوضعه ضمن استمرارية المعرفة العامة أو ماضيه الخاص: يأخذ العلم الذي يلقَّنُ مظهرا هادئا، بينما يحيا العلم أثناء اشتغاله ضمن التوتر الفكري الأكثر توقُّدا، توتر القطيعة.

لكن هل القطيعة مع المعرفة العامة  نهائية، جذرية، تامة؟ الاعتقاد بذلك، يمثل انسيابا وجهة أسطورة أخرى، وجدت تعبيرها الأكثر اكتمالا مع السرد الديكارتي قصد الولوج إلى العلم من خلال بوابة الشك الجذري الذي يخلِّصنا إلى الأبد ونهائيا من كل الأحكام الجاهزة مثلما تبثُّها التجربة الحسية.

لا يمضي العلم بناء على شكٍّ عام ومبدئي، لكنه يطوي شكَّا يتجدد باستمرار حول كل نقطة خاصة. ينبغي باستمرار إزاحة سبيل المعرفة العامة عن المعارف الأكثر صلابة والتي تجد معها دائما إطارا لإيواء تلك الأحكام القبلية، ثم يشكِّل هذا السعي باستمرار نحو التعديل، نموذجا يوجه المعرفة العلمية. قدمت فلسفة النفي البرهان، بخصوص المجهودات التي ينبغي حاليا استثمارها من طرف ثلاثة علوم كي تتحرّر وتتسامى عن ضغوط الحس المشترك.

فيما يتعلق بالعناصر، يجب على الكيمياء المعاصرة العدول عن فكرة منحها وحدة وانسجاما داخليا لصالح لا جوهرية تقرن كل واحد من العناصر بتعددية منسجمة.

نفس الأمر، بالنسبة للرياضيات، مثلا عند دراسة الصلات المكانية الأولية.

أخيرا، ما يتعلق بالمنطق حيث قادت الحاجة إلى نظرية الكم، نحو انبثاق صياغات صورية، بدا معها المنطق الكلاسيكي، حسب قيمتيه بخصوص الحقيقة المتوافقة مع التجربة العامة، كما لو أنه يعيش تدهورا.

أمثلة توضح، عدم توقف تطلع المعرفة العلمية، نحو القطع مع المعرفة العامة.   

    *المرجع:

     جان كلود باريونت: معجم باشلار، 2016، منشورات إيليبس. ص: 7 -9