تدوين- ذاكرات
نشرت صحيفة فلسطين بتاريخ الأول من كانون الثاني 1947، تقريراً حول أهم الأحداث التي مرت على فلسطين خلال العام 1947.
وفيما يلي ما نشرته الصحيفة:
كان عام ١٩٤٧ الذي ودعه العالم أمس، من أخطر الأعوام التي سرت على فلسطين، هذه البلاد العربية المقدسة المناضلة الصابرة، ففي هذا العام اتسع نطاق قضيتنا، وخرجت من طورها المحلي الضيق، إلى الميدان الدولي، فذكر اسمها لأول مرة من على أعلى منبر دولي، هو هيئة الأمم المتحدة، عندما قررت الدول العربية الشقيقة، أن تباشر هذه القضية المعلقة منذ أكثر من ربع قرن، أمام هيئة الأمم المتحدة ولا نود أن يمر هذا العام دون أن نستعرض أهم ما وقع فيه من أحداث، بالنسبة لبلادنا العزيزة.
منذ اليوم الأول الذي استقبلنا فيه عام 1947 الذاهب كانت الاتصالات بين الدول العربية مستمرة لبحث دعوة تلقتها كل منها لإرسال مندوبين عنها إلى لندن، حيث اعتزمت بريطانيا عقد مؤتمر "المائدة المستديرة" محاولة بذلك حل قضية فلسطين، ويكون الرؤساء العرب قد عقدوا مؤتمرهم في بلودان واتخذوا قائمة من القرارات السرية، أعلنوا أنها ستنفذ حتما في حال فشل مؤتمر لندن، وكان هذا المؤتمر تتمة لاجتماعات عقدت في العاصمة البريطانية، ثم تأجلت لأسباب ظلت طي الكتمان، وكان المندوبون العرب قد وضعوا مشروعا لحمل القضية أصدرت بشأنه الهيئة العربية العليا بيانا تضمن ملاحظاتها على المشروع، وقاطعت الهيئة العربية العليا للمؤتمر وتجددت دعوة بريطانيا لا أكثر من مرة، فقررت في النهاية انتداب رئيسها ليوم مجرد "مراقب" في المؤتمر ثم ينضم إليه أربعة آخرون.
وفي يوم الاثنين ٢٧ كانون الثاني انعقد مؤتمر المائدة المستديرة ورحب المستر بيفان بالوفود، وتولى السيد جمال الحسيني بسط وجهة نظر عرب فلسطين، أول المعنيين بقضيتهم، وتستمر أعمال المؤمر فترة غير قصيرة وتقدم في أثنائه عدة مشاريع لحل المشكلة: المشروع العربي/ ومشروع بيغن، ومشروع هوريسون وغيرها، ولكنها جميعها رفضت بعضها من الجانب البريطاني ويفشل مؤتمر لندن كما كان مقدرا له منذ انعقاده في يوم الجمعة ١٤ شباط وتجتمع الوزارة البريطانية فتقرر عرض القضية على هيئة الأمم المتحدة.
وفي هذه الأثناء - أثناء انعقاد مؤتمر لندن- يواصل المجرمون اليهود اعتداءاتهم على دوائر الحكومة والمنشآت البريطانية فيخطفون الموظفين وتعلن الحكومة أنها ستتخذ تدابير حازمة، "حاسمة شديدة"، لوقف الإرهاب الصهيوني، فترحل العائلات البريطانية وتعلن مناطق الأمن وتطوقها بالأسلاك الشائكة وفي هذه الأثناء أيضا، لا ينقطع الزعماء العرب عن إرسال تصريحاتهم بأن فلسطين ستبقى عربية إلى الأبد، وتكثر التكهنات عن المقررات السرية وعن قرب اجتماع الملوك والرؤساء، لبحث تطورات القضية، وتعقد البرلمانات العربية اجتماعات تؤيد فيها مساعي حكوماتها، كما يعقد مجلس العموم البريطاني اجتماعاته ويبحث القضية، ويبحثها حزب العمال، وبكلمة أخرى تقتل القضية -الواضحة وضوح الشمس- بحثا وتمحيصا، وتكثر الشائعات والتكهنات عن حقيقة موقف بريطانيا.
ويبدأ الحديث عن هيئة الأمم المتحدة وما يمكن أن تفعله بشأن فلسطين وتقول بريطانيا أنها ستعرض عليها القضية "مجردة" ويعلن الزعماء العرب أنهم سيباشرون القضية أمام هيئة الأمم وتعلن بريطانيا هيئة الأمم بقرارها، ويبدأ سكرتيرها العام تريجيف لي استشاراته، وتكثر الشائعات بأن السكرتير العام لا يرى ضرورة عقد دورة خاصة للجمعية العمومية، ثم تنكشف الأيام عن موافقة الدول على عقد الدورة الخاصة.
وفي يوم الثلاثاء ١٨ آذار تفتتح الدورة السادسة لمجلس الجامعة العربية وتقدم الهيئة العربية العليا إلى الجامعة مذكرة خطيرة، ويؤلف مجلس الجامعة عددا من اللجان يتولى كل منها درس ناحية من جوانب القضية، وتسفر أبحاث الجامعة عن قرار واحد هو قيام الدول العربية بعرض قضية فلسطين على هيئة الأمم وإمداد عرب فلسطين بما يحتاجون إليه والمطالبة بوقف الهجرة اليهودية.
وفي يوم الأربعاء ١٦ نيسان يعقد وزراء الخارجية العرب اجتماعهم في دمشق ويتخذون قرارات.
وفي يوم الاثنين ٢٨ نيسان تفتتح الدورة الخاصة للجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة، وتتضمن جدول أعمالها علنيا لبريطانيا لبحث مسألة تأليف لجنة "لجمع الحقائق" وطلبا عربيا لبحث مسألة استقلال فلسطين، ويصر المندوبون العرب على منح الاستقلال الناجز لفلسطين، وتقر اللجنة طلب بريطانيا تأليف لجنة تحقيق ويرفض طلب العرب بحث إنهاء الانتداب، وفي الدورة الخاصة تنشب معارك ديبلوماسية بين العرب وبريطانيا، وتنتهي "طبخة" الجمعية العمومية بتأليف لجنة جمع الحقائق، من مندوبي أحد عشر دولة، وتعطي هذه اللجنة صلاحيات ضئيلة الغرض منها خدمة الصهيونيين والتوصية بتمزيق أوصال البلاد، وفي ١٥ أيار تنتهي أعمال الدورة الخاصة.
وتعود الوفود العربية من نيويورك لتبحث ما وصلت إليه القضية في القاهرة حيث يجتمع وزراء الخارجية العرب، هل يتصل العرب بلجنة التحقيق، أم يقاطعونها؟
مشكلة... لكنها تحل بسرعة، فالدول العربية لا تتصل باللجنة إذا دعتها هي لسماع رأيها أما الهيئة العربية العليا فتقاطعها.
وتضرب البلاد العربية بأسرها يوم الاثنين ٢١ حزيران وهو اليوم نفسه الذي بدأت فيه لجنة التحقيق أعمالها وتعقد اللجنة اجتماعاتها وتستمع إلى بيانات حكومة فلسطين وادعاءات اليهود ووكالتهم ثم تسافر، بعد أن تقضي في ربوع الشرق الأوسط قرابة شهر إلى جينيف لتضع تقريرها.
وفي آخر شهر آب يذاع على العالم تقرير وضعته لجنة عرف العرب ميولها ويقضي هذا التقرير بتمزيق البلاد المقدسة وتقديم أكثر من نصفها "هدية" إلى الصهيونية العالمية الآثمة.
وفي يوم الثلاثاء ١٦ أيلول تفتتح هيئة الأمم المتحدة الدورة العادية للجمعية العمومية وتستمر في انعقادها ثلاثة وسبعين يوما كاملا وفي ١٩ تشرين الثاني تصدر هذه الجمعية العمومية بأغلبية ضئيلة مأجورة قرارا هو أبعد ما يكون عن صلاحياتها فقد قررت هذه الأغلبية التي اشترتها أمريكا بالدولار، قررت تمزيق البلاد إلى دولة عربية ويهودية، أما كيف قررت هيئة الأمم المتحدة قرارها هذه الصفعة للسلام الدولي فلا يظن القارئ قد نسي أمر الدول وعمليات "التطبيق" والتهديد والوعيد التي تولتها الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا وروسيا.
وأضربت فلسطين والأقطار العربية جميعا ثلاثة أيام متتالية وبدأت استعدادها للحيلولة دون تنفيذ القرار الجائر الظالم، فعقدت البرلمانات العربية اجتماعات خاصة كما اجتمع رؤساء الدول العربية في هيئة مؤتمر تقرر فيه بدء العمل وإقبال المتطوعين على المكاتب يسجلون أسماءهم استعدادا لليوم العظيم المرتقب.
هذا هو العام ١٩٤٧ نودعه على أزيز الرصاص يلعلع في الفضاء والانفجارات تهز أرجاء البلاد والمعارك ناشبة في شوارع المدن وأزقة القرى وفي كل مكان في فلسطين والاستعدادات في جميع الأقطار العربية قائمة على قدم وساق والكل ينتظر يوما عظيما قريبا نخوض فيه نضالا طويلا مريرا لنعيش أحرارا في بلادنا العزيزة المقدسة.
وهذا هو اليوم الأول من العام الجديد ١٩٤٨ نستقبله بقلوب قوية ملؤها الإيمان بالله واليوم الآخر وأن الجنة قد أعدت للذين يعملون في سبيل الله.