تدوين-ترجمة: سعيد بوخليط
وعي الوعي! ما يبدو غاية الآن مثيرا للاهتمام نحو النقد الأدبي المعاصر، يكمن في المجهود المبذول بغية ولوج وعي الآخر، دون الاستسلام في خضم ذلك إلى الاجتياح المتدفِّق لكثافة الصور التي يفرزها الوعي ويصعب عليه الانفصال عنها.
حدث اللقاء حول هذه النقطة، ابتداء من شارل دو بو، جاك ريفيير، مارسيل ريمون، ثم ألبير بيغان. يعتقد هؤلاء، دون ريب، بأنَّ تحقق الاستبطان النقدي وفق أفضل شروطه الممكنة، أساسه عدم تواري فكر الكاتب الذي يشتغلون عليه خلف موجة التجارب الحسية.
يطمح كل واحد من هؤلاء النقاد، بلوغ مرتبة الإدراك للوعي عاريا بين ثنايا المناطق النادرة للذهني المحض، مثلما كان الشأن بالنسبة لإحدى هواجس بول فاليري. مثلا، لدى شارل دو بو، ينفتح الوعي من تلقاء ذاته، عند مستواه الأكثر علوا، على انسياب ثراء روحي.
بينما تخيَّل مارسيل ريمون وعيا غير فكري، بل يقترب أكثر قدر استطاعته من اللاوعي، بغية العثور ضمن ذلك على كمال الشعور بالذاتية والذي لا يشبع الروح حقا سوى إذا تجرَّدت من كل شيء.
عموما، تعتقد زمرة كبيرة من نقَّاد حقبتنا، استحالة الإمساك بوعي الآخر أو اختراقه، سوى إن ابتعد بدوره عن فراغه الأولي وكذا الضوضاء التي يحدثها حشد الصور والإدراكات فتشكِّل إعاقة أمام كل شيء.
من هنا، الأهمية التي يضفيها كثير من النقاد، على لحظات مميَّزة، منتشية، تأملات شاردة، انبثاق ذكرى وجدانية، حالات اختلال للذاكرة، عندما لا يجد الفكر ذاته منغمسا وراء تدفق تجاربه العادية، بل سادته نصف شفافية تجعله أمام النظر رحبا ومِضيافا، دون أن يضايقه من جهة ثانية، إفراط على مستوى الوضوح.
فقط ربما جراء ضربة حظ، متحسِّسا طريقه تقريبا، اكتشف جاك ريفيير بين ثنايا وعي الآخر وجود منطقة محيطية غير محدَّدة بكيفية جيدة، مادتها أساسا حسية، تكشف عن نفسها باللمس؛ لكن بالنسبة إليه، فهذه المنطقة المضطربة والغامضة، التي صادفها عند تخوم الذهن، ميزتها بالأحرى خاصية حاجز عائق.
سيصطدم الفكر النقدي، بهذه المنطقة، والمجازفة بالوقوع فيها، تبعا لحركة شبه عمياء يحاول من خلالها بلوغ، أبعد من هنا، تحديدا منطقة وعي أقل تلوُّثا.
هل يكمن الاستحقاق الاستثنائي لغاستون باشلار، في تأسيسه لوعي جديد ونقد مختلف، أفق لم يبلغه جلّ النقاد تقريبا. قبل باشلار، ثم على الأقل لدى كل النقد اللا- نفسي (واللاماركسي)، فقد اعتُبِر على الإطلاق بمثابة الوعي المعطى الأقل مادية، ينبغي تحديدا تناوله ضمن إطار تلك اللامادية.
لكن، انطلاقا من باشلار، لم يعد ممكنا التحدث عن لامادية الوعي، وكذا صعوبة إدراكه بكيفية مختلفة سوى بناء على طبقات الصور التي تتكدَّس داخله.
إذن، ثورة باشلار كوبرنيكية، بحيث تغيرت عوالم الوعي بعده، مثلما لم تعد القصيدة والأدب قياسا للفترة السابقة عن باشلار. إنه أكبر من سبر أغوار الحياة الذهنية منذ سيغمون فرويد. لكنه اقتفى سبيل خطى مختلفة عن التي تبناها فرويد: ''يجدر بنا التمييز بشكل واضح جدا الإنسان المتأمِّل عن المفكِّر'' (2)، أشار باشلار في بداية كتابه التحليل النفسي للنار.
هكذا، ينبغي في بداية مبحث يتبنى لنفسه كنهاية إضاءة هذا التمييز الأساسي، التطلع نحو البحث عبر عمل باشلار عن الصورة المتباينة بين كائنين أحدهما يفكِّر والثاني يحلم.
حتما، بوسعنا المجازفة دون الوقوع في الانخداع، افتراض بأنه داخل حياة الفيلسوف، يتبدى الحالم في المقام الأول. بعد قراءة بعض صفحات من كتابيْ شعرية التأمل الشارد وشعلة قنديل، يسهل تمثُّل طفولة باشلارية، بأثر رجعي، مُتأمَّلة بزخم، تكتسيها أحلام لم تُنْس قط.
ارتبطت عناوين هذا الصنف من أعمال باشلار، بمرحلة متأخرة، أنجزها خلال الحقبة الأخيرة من حياته. هكذا، يلتحق حلم الشيخوخة بحلم الطفولة، بحيث يتداخل الخيالان على الرغم من الأزمنة التي تباعد بينهما.
مع ذلك، هل تسود مرة أخرى صورة الرجل الحالم طيلة هاتين الحقبتين، بين النهاية والبداية، إبان فترة شيخوخة باشلار؟ يجب الإقرار في هذا الإطار، بأنَّ الذي تبلور حقا على أرض الواقع، يعكس النقيض. يكفي مجرد إلقاء نظرة حول كتابات باشلار العلمية خاصة، تحذير أنَّه خلال فترة طويلة جدا فقد شغل مضاد- الحالم مركز المشهد، وتواري منافسه المتأمِّل وجهة الظل.
تجلى كائن مختلف جدا، قدر الإمكان، طموح ومتعطش إلى اليقين، بدل كائن ثان منقاد خلف البناء الخيالي لعالمه. ليست بطموحات شخصية، يصعب إدراك توقعات غير مهتمة بهذا الجانب. طموحات انصبت أساسا على ''مستقبل العلم''، يأمل إرنست رينان الجديد. امتلك هدفا واحدا فقط، المشي على هدى مسار الحقيقة. خاصية مُقَرَّرة، واضحة، سلطوية، طبعت كتب باشلار الأولى. حين تصفحها نستخلص نموذجا باشلاريا، موصولا بحماس إلى اعتقاداته العقلانية، عازما على تحديد المناهج التي تمنح الأخيرة إمكانية تحقيقها مكاسب أو تلاحقها الخسارات.
عموما، بدأ باشلار مشروعه ملوِّحا بإصلاح العلم وفق نفس روح العناد الديكارتي. حتما، لا يشبه فكره الخاص في شيء فلسفة ديكارت. لكن منذ البداية، تجلى بهذا الخصوص قصده، حسب مقتضى نقاء يحيلنا بالضرورة على صاحب كتاب خطاب المنهج: تصميم يقتضي من الفكر علما، ليس مثاليا بلا شك - سيكون إفراطا في الالتماس- لكنه في كل الأحوال، يتجرد عن جلِّ الملتَبِس الذي يسود المعرفة العادية، بل وحتى معرفة العلماء.
نتاج دفعة، يمضي الفكر نحو معرفة تخلصت من أشياء خاطئة تحجبها: "فكر قلق، فكر يلتمس موضوعا'' (3)، يقول باشلار عن نوعية الفكر العلمي الخالص الذي يناصره. علاوة على ذلك، يحدد بحثه الخاص، ويدعوه بـ: "وظيفة الاستكشاف الموضوعية'' (4).
في الواقع، يكمن اندفاع أولي، سمة ديناميكية أولية تدفع فكر باشلار نحو الأمام، بحيث نعثر عليه ضمن سياق وجهة صوب المستقبل، مثلما يعكس وجهة نحو الموضوع. يلاحق الباحث هنا سعيه، ليس بالبحث عن ذاته، بل اكتشاف حقيقة خارجية غير شخصية.
لكن، هل يحق لنا التساؤل بخصوص الموضوع المقصود، بناء على هاجس عدم إفساده سلفا بمنحه دلالة نستبقها، ويرفض العالِم منحه بعض التحديدات كيفما جاءت.
يقتضي التقدم بخصوص معرفة الشيء، تجلِّي مسألة مثيرة، تكمن في تجنب معرفته، ولا تحويله إلى مجرد أقل إقرار يمكِّننا من التعرف عليه. هكذا، يشتغل الاقتضاء الأصلي لفكر باشلار.
أولا، يلتزم بمسار يبتعد به عن كل إدراك داخلي لنشاطه؛ لأنه استدار تماما نحو الموضوع، ولا يمكنه فعل ذلك بكيفية أخرى سوى بتجاوز ذاته.
من جهة ثانية، هذه الموضوعية المطلقة التي يتوخاها، بمثابة موضوعية، إذا أمكننا القول، تفتقر إلى الموضوع نفسه الذي ينبغي أن يجسِّد المركز: موضوعية تتخلى عن موضوعها ومحكوم عليه البقاء مجهولا أبديا: ''فكر في طريق الموضوعية'' (5).
إنها واحدة من الصيغ التي يوظفها باشلار قصد تحديده مثالا للعلم، بمقتضيات صارمة جدا، بحيث ما إن يبدو المفكِّر قد بلغ الموضوع الذي يبحث عنه، يلزمه أن يستبعده، يستنكره، يتحاشى بفضل هروب نحو الأمام، استمرارية عدوى الواقع بالخيال.
باشلار بطل الموضوعية الخالصة، يرى نفسه مضطرا كي يغدو خصما لكل موضوعية ملوثة. بالتالي، ينتمي فكره، إلى من عثروا على انطلاقتهم عبر الإقرار بالضد، وإبدائهم الرفض، ثم قولهم ''لا'' بخصوص ما يستبعدونه. إنها فلسفة الرفض: "ينبغي على الفكر العلمي، أن يتشكَّل ضد الطبيعة، ضد كل ما يوجد داخلنا وبعيدا عنا، زخم الطبيعة ثم إرشادها، ضد التدجين الطبيعي'' (6).
يبدو واضحا، تبلور بداية فكر علمي خلال القرن العشرين ضد الأحاسيس، ويلزمنا بناء نظرية للموضوعي ضد الموضوع (7). هكذا، فالموضوعية العلمية غير ممكنة، سوى إذا قطعنا مع الموضوع المباشر (8).
مع ذلك، لا ينبغي الانخداع بهذا الخصوص، بحيث يستدعي القطع مع الموضوع، حركة إبراء وصراع يتطور في إطارها الفكر ضمن مسار التجسيد، ليس بالقطع مع الموضوعي داخل الشيء، لكن على العكس من ذلك، استبعاد الذاتي القابع داخله. هنا، التعبير عن تفكير مضاد، والتحلي بروح المعارضة، يعني صراحة التسامي حيال موضوعية، خسرت بجلاء طبيعتها الموضوعية، لحظة تشبُّعها بالذاتي، من ثمة قيمتها العلمية.
يتحدّد ذلك أو يلزمه التحدّد، منذ اللحظات الأولى لاكتساب العلم. تدريس العلم، يعني حماية الذي نعلِّمه من التفسيرات السهلة، تلك المنطوية على صور انبثقت من الذاتية: "يجب دائما على المعلِّم التفكير في فصل الملاحظ عن موضوعه، الدفاع عن التلميذ ضد كتلة الانفعالات التي تتركز سريعا حول بعض الظواهر الرمزية'' (9). يجب استمراره في الانفصال عن موضوعاته، تنقية فكره، يجعله فارغا، غاية أن يستوطنه خلال لحظات مستقبلية غير محدَّدة، موضوع جديد يلزمه منذئذ.
حينما يحترز المفكِّر الباشلاري، من التخيُّل سلفا، سيشغل نتيجة ذلك حيزا خاصا؛ من جهة يمتنع عن استثمار الخيال حيال قضايا يكدُّ من جهة أخرى بخصوص التفكير فيها. يبدأ كل شيء لدى باشلار من خلال التفاوت بين فكر متجاوَزٍ وفكر ثان لم يتم بعد امتلاكه. ليست المعرفة العلمية قط بشيء مكتسب، بل يلاحقها الفكر. هناك، أبعد من اللحظة الحاضرة، يكمن هذا الاتجاه الساعي نحوه الفكر. يجهل الفكر الموضوعي الحقيقي الشيء الذي يقترحه. لا يعرف ما الذي سيصادفه، يشبه افتراضا دون صور، والذي يعكس المظهر الوحيد الأصيل مثلما يقدمه المستقبل.
إن تضمَّن الفكر الباشلاري عنصرا أوليا يلزم تسليط الضوء عليه، تنبغي الإشارة إلى افتقاد هذا الفكر لكل إرساء أولي، بما أنَّ فعل الاكتشاف لا يمكنه فقط الاكتفاء بمقتضيات العلم الأكثر دقة، سيتوخى النفاذ بعيدا عن تمحوره حول موضوع محدَّد ظاهريا من طرف العقل، أبعد من كل موضوع، نحو موضوعية فكرية خالصة.
باختصار، حظر تمثيل الموضوع الذي نبحث عنه، ضمن ذات سياق تركيزنا عبر على كل نشاط فكري قصد البحث عنه. حظر، لا تقل صرامته كيفما جاء مفعول تحويلنا لنشاط موضوعنا الحصري وغير قابل للتعيين، بيد أنه يُستدعى دون توقف، بحيث تضاف هنا إلى الدفاع عن تسمية موضوع البحث، مسألة عدم الاهتمام بفكر الباحث. لا زال جاريا موضوع بحثه.
لكن عن أيِّ باحث يمضي كلامنا؟ ما تطلعاته، وحافز فكره؟ كيف يتناول هذا الفكر ويبلغ ضمن جوهره، المبدأ المحرِّك لفعله، قوة معرفية حين تحققها ستتبنى كغاية ملاحقة موضوع تجهله؟ جملة أسئلة تبدأ هنا لكن الباحث لا يطرحها، ويمتنع عن التطرق إليها.
باختصار، يبدو فعلا بأنَّ فكر باشلار انطلق بكيفية تتناقض مع الكوجيطو: رفض الاستناد قبليا على ما يفكر فيه، ولا على الكائن الذي يفكر. قبل أن يتأكد بالنسبة للمفكر التوجه الموضوعي والقصدي لفكره، يتواصل كل شيء كما لو ينعدم وجود المفكِّر والفكر. يكتب باشلار: ''كيف نتوخى الإمساك بذات بسيطة ومتجرِّدة، خارج فعلها الأساسي على مستوى المعرفة الموضوعية" (10). الدفع بالموضوعية الظاهراتية، في هذا الإطار، غاية نتائج ربما تدحض مرتكزاتها.
لكن حين انعدام وسيلة (أو ضرورة) الإمساك بذات بسيطة ومتجرِّدة: ''قياسا إلى لحظة انخراطها في ميدان المعرفة الموضوعية، ألا توجد وسيلة للإمساك بها إبان لحظة، التزامها بهذا الفعل، وقد استوعبت نفسها بين طيات موضوعها، أو على الأقل، تبعا للحركة التي بواسطتها تذهب وجهة البحث عنه؟ بالرغم من الصرامة التي سعى بحسبها باشلار، للتصدي للحيلولة دون تشويش عواطفه على تطور فكره، فقد أظهر صرامة أكثر حتى يحصِّن عقله ضد كل اختراق للذات: ''أن تحيا ثم تحيا ثانية لحظة الموضوعية، يعني التموقع دائما عند حالة الموضوعية الناشئة'' (11) .
هذه المقولات الجميلة، التي تمثل هنا لدى العالِم مهنة إيمان وبرنامج، لا تتيح أمام عنصر مناقض لما تتوخى التعبير عنه، رغم حرارة حدَّتها، إمكانية بلوغ داخل نص اتجه نحو امتداح عقيدة الموضوع المميَّز.
يسهل تبيُّن ذاتية تمجِّد نفسها، تحديدا عبر الفعل نفسه الذي بواسطته تركز على تمجيد الموضوعية. بالتالي، لا يوجد فقط نشاط تجسيدي، خلال لحظة الفكر الأولى "عند حالة الموضوعية الناشئة''، بل تكمن حالة ناشئة للوعي تتبلور في خضم فعل الموضوعية ذاته. وضع يستوعبه باشلار ويقرُّه، ثم يدرجه صراحة ضمن الكاثوليكية الحاسمة لموضوعيته، مع المجازفة أيضا بإضعاف نقائها أو حمولتها.
لا يوجد فقط فكر تمتصه موضوعاته، هناك فكر حين استمرار سعيه في بحثه عن تلك الموضوعات يتأتى له التجلي حيال ذاته: يتبدَّى وعي بالذات في غضون أو أعقاب المعرفة العلمية، مثل مكافأة وكذا مناسبة للسعادة، وأخيرا مثل ضمانة حول دقة الفعل، والذي بغير تركيزه على هذا التأثير، ينتهي إلى ذلك مثل تحقق إضافي. حين ممارسة التأثير، يأخذ الفكر وعيا بفعله نفسه. يمضي نحو الموضوع، يعني التوجه صوب ذاته؛ يتحقق هذا الاكتشاف الثنائي للذات والحياة الخارجية، خلال لحظة صفاء يكتشف معها الفكر اندفاعه غاية الأوج: "يختبر كل شخص، لحظة النور تلك، سواء من خلال الألم أو السعادة، بحيث يفهم بغتة رسالته الخاصة. تكمن الشجاعة الذهنية، في الإبقاء على لحظة هذه المعرفة الناشئة، فعالة وحية، ونجعل منها دائما مصدرا باعثا لحدسنا'' (12).
إذن، ترتبط ''حالة الموضوعية الناشئة''، مع ''لحظة المعرفة''. تنبثق إحداها من الثانية. تجسِّد الواحدة الأخرى. لذلك، لن تحقق قط حركة الفكر العلمي الاستشرافية، اكتمالها عند باشلار إذا لم تنته نحو مايسميه بـ''امتلاك وعي معَقْلن'' (13). يضيف: ''في نظرنا، يلزم تحقق تطابق بين النمو المتطور للفاعل، مع القوة الإبداعية الموضوعية للثقافة العلمية'' (14).
انبثاق استثنائي للذاتية ضمن إطار أقصى تجلٍّ للموضوعية! حينما يتخلص الكائن من صوره المعتادة جدا، وأحلامه الأكثر حميمة، تتبلور آلاف الوسائل التي تشعر ذاته السرية بتأثيرها بين طيات الفكر الموضوعي نفسه، هكذا يبرز الفاعل ثانية كقوة مبدعة وواعية بفرضياتها، وسط عالم يستعصي على الخيال تسوده حاليا موضوعية دون موضوع. كل شيء في غضون طريق تقود إلى الموضوعية الأكثر وضوحا، مما يتبدى للفكر، هي أيضا صبغة للذاتية: ''هنا وليس في مكان آخر، ينشأ التأمل الشارد الروحاني، ذلك المغامر وهو يفكر، مثلما يفكر إبان مغامرته، يبحث عن إضاءة للفكر بالفكر، ثم يجد حدسا مفاجئا بين طيات أبعد من الفكر المتعلِّم'' (15).
وقد بلغ الفكر العلمي أوجهه، بحيث تجرَّد من كل صورة، وأثر انفعالي ثم تأمل شارد، سينبثق للمفارقة، نشاط حالم داخل وعي العالِم ''خاصية تأملية'' تعتبر في الوقت نفسه، نقيضا ومماثلا، لهذا التأمل الشارد المنصبِّ على الأعماق، صار باشلار مكتشفه وكذا موضوعه، بفضل لعبة وثب تنتقل به ضمن أقطاب الحياة الروحية، خَوَّلت له وفق مسارين متناقضين جدا، اكتشاف وممارسة تأملين شاردين، تأمل شارد للظلمة وكذا حُلُمية مرتبطة بضوء النهار.
مع ذلك إذا تخلينا عن التأمل الموضوعي، وبلغنا تجربتنا الداخلية، سيتغير كل شيء وتصبح الخاصية المظلمة سمة مضيئة، بحيث تتقدم التجربة الديناميكية الباطنية إلى المقام الأول بينما تكتسي تجربة حركاتنا مظهر الانسياق والتبعية'' (16) .
هامش:
(1) مصدر المقالة:
George poulet :La conscience critique ;troisième édition ;1986 PP :175-209.
(2) التحليل النفسي للنار، ص 13 .
(3) الفكر العلمي الجديد، ص 177.
(4) النشاط العقلاني للفيزياء المعاصرة، ص 3
(5) الفكر العلمي الجديد، ص 177 .
(6) تشكل الفكر العلمي ص 23
(7) نفسه ص 250
(8) التحليل النفسي للنار، ص9
(9) تشكل الفكر العلمي، ص 54
(10) الفكر العلمي الجديد، ص 10
(11) تشكل الفكر العلمي، ص248
(12) حدس اللحظة، ص 9
(13) النشاط العقلاني للفيزياء المعاصرة، ص 3
(14) نفسه
(15) فلسفة النفي، ص 39
(16) جدلية الديمومة ص 68