بعد كل ما يمر به الوطن العربي من صراعات لم تكن على البال في الماضي القريب والتي أدت إلى تشرذُم الشخصية الوطنية على حساب الهوية الطائفية أو الدينية، ولما في ذلك من أثار مدمرة على المشروع القومي العربي النهضوي لصالح مشاريع التفتت والتشرذّم والرجعية، والتي في النهاية ستخدم المشروع الصهيوني وإفساح المجال له للهيمنة المطلقة على الأمة ومُقدراتها، لهذا كان من الضروري تسليط الضوء على محطات تاريخية شكلت مُجتمعة الشخصية الوطنية الفلسطينية المستقلة وخاصة بعد أن أصبح الانتماء الديني في المجتمع الفلسطيني أهم من الانتماء القومي الوطني.
ولأن جوهر الصراع مع الصهيونية هو صراع وطني تحرّري وليس صراع ديني كما تُثبت كل الأحداث الأخيرة، خاصة لأن الرواية الدينية لا تحسم الحق التاريخي كون كل دين يدعي المُلكية لهذه الأرض، وفوق ذلك فنحن أبناء الشعب الفلسطيني لم نرى الحد الأدنى المطلوب للتضامن معنا من قِبل الشعوب المسلمة أو المسيحية في العالم طيلة فترة الصراع، فباتَ من الضروري التأكيد على جوهر هذا الصراع وطني تَحرَري، ومن أجل ذلك وحتى ندحض الرواية الصهيونية القائلة بعدم وجود شعب اسمهُ فلسطين وأنهم جاءوا ليُحرّروا الأرض الخالية والمُحتلة من قِبل مجموعات هاجرت من أماكن مُختلفة أطلقت على نفسها شعبا فلسطينيا، ولهذا كُلهُ كان من الضروري الإشارة ولو بشكل مُختصر لبعض مراحل تَكّون هذه الشخصية المستقلة.
إنّ قلة المعرفة عند شعبنا خاصة الجيل الجديد ِمنهُ بتاريخهِ واعتمادهِ فقط على الحق الديني بالأساس تجعل من الرواية الصهيونية المزيفة والمدعومة بدلائل وإثباتات أغلبها مسروق أقرب للتصديق والحقيقة للرأي العام العالمي وخاصة بالغرب.
الأساطير المؤسسة للكيان الصهيوني والمدعومة بروايات دينية في أغلبها تعود للشعوب الأصلية ساكنة هذه الأرض وليس للمجموعات العابرة التي نسبت كل هذا التاريخ والتراث لها.
فعلى سبيل المثال نرى أن كل ما ورد بالتوراة نفسها يؤكد وجود شعوب وحضارات قطنت فلسطين وشكلت كيانات اجتماعية وسياسية مختلفة وذلك قبل تشكل أول مجتمع يهودي إن كان ذلك في مملكتي يهودا والسامرة التي بالمناسبة لم تربطهما أي علاقة إدارية سوى لمدة لم تتجاوز الثلاثين عاماً، وعدا ذلك فقد تشكلت في فلسطين كيانات ومجتمعات أخرى لها ثقافة وحضارة وتاريخ ولغة كالكانعانين والآشورين والكلدانين وغيرهم من الشعوب والقبائل، ومن هنا فأول سمات تشكل المجتمع الفلسطيني كان قبل التاريخ بوجود هذه الحضارات وأهم علاماتها اللغة الآرامية وأسماء المدن والقرى من فلسطين والتي سرقها الآخر وحوّلها للغة اسموها العبرية ولأسماء مدن وقرى مثل شكيم أورشليم وحبرون وغيرها لأسماء مدن يهودية وأصبحنا نحن نخجل ونهرب من هذه الأسماء الأصلية وتركناها لهم كأننا شاركنا في الكِذبة "المؤامرة" تهويد الأرض الكنعانية "الفلسطينية".
ثانياً: مرحلة الثورة المسيحية التي وإن دُرسّت بشكل بعيد عن العقيدة الدينية واللاهوتية، هي ثورة الفقراء والمظلومين أصحاب الأرض وسكانها من السيطرة والظلم الواقع عليهم من الكهنة اليهود المتأمرين مع المحتل الروماني وفي نظره محايدة لظاهرة المسيح يتبين أنهُ وبكل وضوح كان يحاول إظهار القمع والتسلط وتَغيب الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني ساكن هذه الأرض وكان يهدف ليس فقط إلى إحداث ثورة دينية بل أيضاً هي ثورة تحريريه وطنية للشعب الذي كان يعاني الظلمين من رجالات الدين اليهود وأسيادهم الحكام الرومان.
ثالثا: وهي فترة مُغيبة بالتاريخ الفلسطيني ما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر. وعلى ضفاف بحيرة طبريه وفي جبال الجليل ومرج بني عامر، بدأ رجل من عامة الناس رحلتهِ نحو أكبر هدف يمكن أن يحلم به إنسان في تلك الأيام، تحرير الأرض وانتزاع الاستقلال وإقامة الدولة العربية في فلسطين، مُتحدياً بذلك حُكم أكبر دولة في العالم آنذاك (الدولة العثمانية) وسطوتها المنبسطة على ثلاث قارات أوروبا وآسيا وإفريقيا، إنهُ ظاهر العُمر الزيداني 1689-1775.
أما المرحلة الرابعة فتظهر مجدداً مع نضوج المخطط الاستعماري الصهيوني وبداية تَشكُل الحركة الوطنية الفلسطينية بِتشعباتِها المختلفة ايديولوجياً لمحاربة المشروع التوطِيني.
في بداية القرن العشرين وصولا إلى انطلاق الثورة الوطنية التحررية المعاصرة عام 1965، والتي أبرزت وبحق الهوية والشخصية الوطنية المستقلة، هذه باختصار الومضات الرئيسية لمراحل تكّون الهوية الوطنية الفلسطينية، والتي تستدعي من الهيئات الرسمية الحومية وغير الحكومية والحركات والأحزاب السياسية دراستها لتعليمها للأجيال لمعرفة تاريخنا الصحيح وتكّوين رواية واقعية وعلمية مستندة إلى حقائق ودلائل تُثبت شرعية نضالنا الوطني التحرري، وأخص بالذكر هنا المسؤولية الأساسية في تطوير المناهج التربوية التعليمية في كل المراحل لمّا في ذلك أهمية قصوى في حقل وتربية الجيل الناشئ للتربية الوطنية الصادقة بعيداً عن التعصب أو التطرف أو المزاودات.