الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

نَحْنُ بِحَاجَةِ لِقَانُونِ خِدْمَةٍ مَدَنِيَّةٍ جَدِيدٍ| بقلم: مؤيد عفانة

2023-04-30 10:28:47 AM
نَحْنُ بِحَاجَةِ لِقَانُونِ خِدْمَةٍ مَدَنِيَّةٍ جَدِيدٍ| بقلم: مؤيد عفانة

تعيش فلسطين منذ سنواتٍ عدّة على وَقْع نزاعات نقابية، وإضرابات لنقابات واتحادات موظفي القطاع العام، من معلمين، وأطباء، ومهندسين، ومحامين، ومهن طبية وغيرها، بل بلغ الأمر الى إضرابات قطاعية لموظفي الوزارات المختلفة، ولا يكاد يخلو عام، ومنذ أكثر من عقدٍ من الزمن، إلا ويتخلله إضراب أو أكثر لموظفي القطاع العام، وربما كان إضراب المعلمين هو الأشد أثراً، كون تداعياته لا تقف عند فترة الإضراب، وانما تمتد لسنوات لاحقة، كون العملية التعليمية، عملية تراكمية مترابطة أفقياً، ما بين المباحث المختلفة، وعمودياً ما بين المراحل المختلفة.

وعادةً ما تنتهي تلك النزاعات، بحلول مُجتزأة هنا أو هناك، والتي غالباً ما تتم تحت الضغط، لإيجاد حلول سريعة، وضمن نظرية "سُلّم" النزول عن شجرة المطالب الكبيرة، وتعنت المفاوضين، وأحياناً تحت ضغوط من أطراف خارجية عدّة، أو من باب أقل الخسائر للأطراف المتنازعة، وليس ضمن استراتيجية مطلبية شاملة، قائمة على حلول شاملة ومتكاملة، وضمن رؤية مستقبلية، وبالتالي فإن معظم النزاعات النقابية كانت تنتهي بحلول غير مكتملة، وبكم ثغرات، أو قضايا عالقة، تكون بمثابة قنابل مستقبلية موقوتة، ومن باب ترحيل الأزمات للأمام، وهو نهج أثبتت التجربة، وتحليل السلسلة الزمنية فشله، بل على العكس، هو يحمل في ثناياه بذور النزاع القادم، والأمثلة كُثر، وربما إشكالية، أدنى مربوط الدرجة، مثال على ذلك، والتي تم الوصول الى حل منقوص لها منذ العام 2013، وتتفجر تلك المشكلة في كل عام على مدار السنوات العشر الماضية، وما زالت قائمة.

وبناءً على تلك النزاعات والاضرابات، والتجاذبات ما بين الحكومة والنقابات، فإن معظم الحلول المجتزآة تضمنت تعديلات على قانون الخدمة المدنية، وأحدثت اختلالات جوهرية في القانون ولائحته التنفيذية، والقرارات الخاصة به، خاصّة فيما يتعلق بالأبعاد المالية، مما نتج عنه "تشوهات" في القانون، وندوب غائرة في عدالة إنفاذ الأبعاد المالية للقانون على جميع الموظفين.

وقد تم إقرار قانون الخدمة المدنية منذ ربع قرن من الزمن، حيث أقره المجلس التشريعي الفلسطيني في العام 1998م ومنذ ذاك الحين، مر القانون بسلسة تعديلات كانت أبرزها في العام 2005، ومن ثم تمت سلسلة تعديلات له من خلال (قرار بقانون) في الأعوام (2015، 2017، 2019، 2021، 2022)، إضافة الى تعديلات جوهرية في لائحة علاوة طبيعة العمل، والعلاوات الأخرى "الاختصاص، المخاطرة"، تبعا لضغوطات النقابات، مما أثر بشكل جوهري على تلك اللائحة، لصالح فئات وظيفية على حساب فئات أخرى.

ومن الملاحظات الرئيسة على القانون، أنه منح مجلس الوزراء، صلاحية إعادة النظر في جدول الرواتب والعلاوات، كلما اقتضت الضرورة ذلك، وتحديد قيمة علاوات الاختصاص والندرة والمخاطرة أو أية علاوات أخرى ومستحقيها، الأمر الذي استغلته بعض النقابات للضغط على الوزير المختص، أو الحكومة، من اجل رفع أو تعديل أو إضافة لتلك العلاوات، وتبعا لمدى قوة، أو نفوذ، أو ضغوطات تلك النقابات، بمعزل عن مدى عدالة تلك العلاوات مقارنة بباقي علاوات موظفي القطاع العام، مما أحدث اختلالات وتشوهات في مبنى العلاوات، ولمن تُصرف.

ومن الملاحظات الرئيسة الأخرى، أن القانون تقادم، بحكم مرور 25 عام على إقراره، وبحاجة إلى تعديل يواكب التطورات في الإدارة العامة، والتي شهدت في السنوات الأخيرة تطورات دراماتيكية، خاصة في عصر الرقمنة، والتوجهات الحديثة في الإدارة العامة، وبروز مصطلحات: الحوكمة، والهندرة، وترشيق الإدارة العامة، وإدارة الجودة الشاملة، وغيرها.

كذلك من الملاحظات على القانون، أن فئات الوظائف وسلم الرواتب والعلاوات، أقرت في العام 1998، وتم تحديثها في العام 2005، ومنذ ذاك الحين، لم تشهد تحديثات في سلم الرواتب الأساسي، رغم مرور 18 عام على اقراره، ورغم التغيّرات الكبيرة في غلاء المعيشة، والقيمة الشرائية للنقود، والتضخم، وأسعار الفائدة، وأنماط الاستهلاك، وغيرها من المؤشرات الاقتصادية، بل ومن المفارقات الغريبة، والتي لا تستقيم، ومفهوم العدالة الاجتماعية، أن قيمة بعض الرواتب للفئات الدنيا "الخدماتية" في الوظيفة العامة، أضحت دون الحد الأدنى من الأجور والذي أقرته الحكومة في العام 2021.

وفي ضوء ما تقدم، فأننا في فلسطين، بحاحة إلى قانون خدمة مدنية جديد، بقالب عصري ضمن التوجهات الحديثة للإدارة العامة، يقوم على المهننة، وتعزيز ثقافة التميز، وبسلم رواتب عادل ومنصف لكافة الفئات الوظيفية، ويواكب المؤشرات الاقتصادية، وبما يحقق العيش الكريم لكافة فئات المجتمع، وتضييق الفجوات في الرواتب والأجور بين الفئات العليا والدنيا، مع ضرورة توفير رزمة حوافز مادية ومعنوية، مما يشجع التنافسية بين الموظفين، ويكفل مبدأ تكافؤ الفرص، يتضمن تناوب وتدوير الفئات الإدارية العليا، واعتماد تقييمات قائمة على النتائج، إضافة الى ضرورة تحديث لائحة بشأن التقاعد المبكر لموظفي القطاع العام، من أجل ترشيق الإدارة العامة.

بحيث يعالج القانون الجديد الاختلالات القائمة، والتشوهات في مبناه، خاصة في القضايا المالية، وبما يتناغم مع التشريعات الأخرى، مثل قانون الخدمة في قوى الأمن، وقانون العمل، والقوانين القطاعية ذات الصلة (صحة، تعليم، زراعة، حكم محلي، ...)، من أجل خلق مؤسسات عامة فعالة، وبيئة محفزة لموظفي الخدمة المدنية؛ ومشجعة للأبداع، والحفاظ على الموظفين الأكفياء من التسرب للقطاع الخاص، أو الهجرة خارج الوطن.

والأهم من ذلك كله، خلق عدالة اجتماعية، واستقرار، ورضى وظيفي، لدى كافة الفئات الوظيفية، بما يضمن انتظام عمل القطاعات المختلفة، بعيدا عن النزاعات والتشويشات، من أجل انفاذ الخطط الاستراتيجية القطاعية وعبر القطاعية، والتي تصب في خطة التنمية الوطنية، وصولا إلى أهداف التنمية المستدامة 2030، وضمان توفير الخدمات العامة بشكل مستمر وسلس، وتطويرها، خاصة وأن الخاسر الأول من تعطلها وشللها، هي الفئات الفقيرة والمهمشة والأقل حظاً في المجتمع، والتي تعتمد على القطاع الحكومي في التعليم والصحة وغيرها من الخدمات الحكومية.