تدوين- سوار عبد ربه
التجوال، هو الموضوع الذي يتناوله هذا التقرير، والذي يبحث في دور المشي كتجربة تعزز علاقة الفلسطيني بأرضه وتبلور هويته الوطنية، وتخلق حالة من الوعي في معنى الأرض. وكيف يتحول التجوال من نشاط استكشافي ترفيهي لأصحاب الأرض في أرضهم إلى نقطة تماس مع العدو، الذي يسعى في شتى الطرق لتضييق الخناق عليهم، بالإضافة إلى النشاطات الأخرى التي تندرج ضمن برنامج التجوال والتي تأتي كمكمل للمشهد في هذا السياق، لتخلق حالة من المقاومة ضمن نشاط في ظاهره ترفيهي وترويحي، وفي طياته فعل مقاوم، للاحتلال من جهة، وللمساعي الرأسمالية من جهة أخرى، لذا التقت تدوين بمجموعة من منظمي هذه المبادرات لتفكيك مفهوم التجوال في السياق الفلسطيني.
بدأ الناشط الشبابي أحمد نبهان مداخلته بالمثل القائل: "ما بحرث الأرض غير عجولها"، ذلك ليشير إلى دور التجوالات في تعزيز ارتباطنا في أرضنا، لأنه من غير الممكن أن نتحدث عن فلسطين وتاريخها بشكل نظري دون العودة إلى الأرض واستكشافها، فإن لم نعرف الأرض، لن تعرفنا هي بدورها.
ويرى نبهان أنه من المهم جدا لنا كفلسطينيين أن نعرف المناطق التاريخية والأثرية في فلسطين، التي تعتبر مهدا للحضارات، والشاهدة على تصارع الحضارات فيها كي يتركوا أثرا يدل على مرورهم على هذه الأرض، الأمر الذي يتجلى بوضوح في مدينة القدس، على اعتبار أنها مدينة مقدسة حسب المفهوم الديني لكل الشعوب.
ومن ناحية أخرى، التعرف على هذه الأماكن الأثرية خلال التجوال يعزز مقاومتنا للمستعمر الصهيوني، لأنه يعطينا تصورا عن أن كل هذه الحضارات الممتدة لأكثر من 7000 سنة، ذهبت ولم يبقى في الأرض غير سكانها الأصليين، ما يعني أن الحركة الصهيونية بكل أشكالها وداعميها ستذهب وتصبح شيئا من التاريخ.
التجوال كمصطلح هو معاكس للمنع الذي عانى منه الفلسطينون لفترات طويلة، والذي يفرضه الاحتلال علينا،
وحول أهمية التجوال في السياق الفلسطيني قال الناشط حسين شجاعية أحد منسقي مجموعة تجوال سفر: "كبرنا كفلسطينيين على مصطلح غير موجود في أي مكان في العالم في الفترة الحالية سوى في فلسطين وهو منع التجوال، لذا فإن التجوال كمصطلح هو معاكس للمنع الذي عانى منه الفلسطينون لفترات طويلة، والذي يفرضه الاحتلال علينا، لذا فوجودنا في مكان ومعرفتنا فيه فعل مهم لكل الشباب الفلسطيني.
تهدف المجموعات التي تنطلق في تجوالاتها إلى كسب أكبر قدر ممكن من المعرفة، ذلك من خلال التنبه لأهمية الرواية التاريخية والشفوية كذلك.
وفي هذا الجانب أوضح نبهان أنه خلال التجوالات يسعى المتجولون لأن يكون معهم مرشد مختص، وكذلك أحد أبناء البلد التي يزورونها، والذي بدوره سيعطي معلومات ليست موجودة بالتاريخ ولا بالكتب المدرسية والمناهج، وكذلك لا تتوفر عبر الشبكة العنكبوتية، مشيرا إلى أن هذه الروايات الشعبية تكون سلسلة وتدخل القلب بسهولة.
كما أن المتجولون يحرصون في طريقهم للوصول إلى الحديث عن كل الأسئلة التي تجول في ذهنهم، ويتمكنوا من هذه الأحاديث الحصول على رؤوس أقلام من المعلومات، الأمر الذي سينمي في داخلهم فضول المعرفة.
من جانبه، قال الناشط الشبابي حسين شجاعية إن المعرفة التي يتم تناقلها بشكل شفهي تكون مبنية بشكل أساسي على ذاكرة كبار السن، والحكايا والأساطير التي لا تتواجد في الكتب، ما يعطي معنى أعمق وأكبر للمعرفة حول كل قرية ومدينة وخربة فلسطينية، سيما في ظل خلو المناهج الفلسطينية سواء المدرسية أو الجامعية من هذه المعلومات.
لمعرفة التي يتم تناقلها بشكل شفهي تكون مبنية بشكل أساسي على ذاكرة كبار السن، والحكايا والأساطير التي لا تتواجد في الكتب، ما يعطي معنى أعمق وأكبر للمعرفة
لا تخلو التجوالات من المنغصات التي تفتعلها قوات الاحتلال والمستوطنين، فالوجود الجماعي للفلسطينيين في قرى ومناطق معينة قد يتحول في لحظة فاصلة إلى اشتباك بفعل ما يقترفه الاحتلال من انتهاكات بحق المتجولين، وبهذا يمكن النظر إلى التجوال في هذا السياق على أنها نقطة تماس مع العدو.
حول هذا قال الناشط الشبابي أحمد نبهان إن التجوالات هي نقطة تماس مباشرة جدا، ذلك لأن المستوطنين في كل تجوال نقيمه يأتون للتنغيص علينا في محاولة منهم لفرض السيطرة وطردنا من أرضنا، ومن هذا المنطلق يعتبر التجوال نقطة تماس".
واعتبر نبهان أن التجوالات هي واحدة من وسائل المقاومة بالحيلة التي تحدث عنها الكاتب والسوسيولوجي الأميركي جيمس سكوت، ذلك لأن المتجولين يفرضون سيطرتهم على الأرض، في وجه مجموعة المستوطنين التي تطلق على نفسها "فتيان التلال".
التجوالات هي واحدة من وسائل المقاومة بالحيلة التي تحدث عنها الكاتب والسوسيولوجي الأميركي جيمس سكوت، ذلك لأن المتجولين يفرضون سيطرتهم على الأرض، في وجه مجموعة المستوطنين
ويمكن التعبير عن الفكرة التي يطرحها نبهان في هذا الجانب من خلال ما أشار إليه جيمس سكوت في كتابه المذكور أعلاه، والذي يخلص إلى أن "خلف الإيهام والتلميح، والغمز واللمز، والنكت، والأغاني، يتحصن الخطاب المستتر للمقهورين، وهذا التحصين يكون بسبل، أهمها إخفاء الخطاب في صورة لا يعيها إلا أفراد المقاومة".
وأكد نبهان على أن بعض المجموعات الشبابية تتعرض للضرب نتيجة الاحتكاك المباشر الذي يحدث بين الفلسطينيين والمستوطنين، ذلك لأن تواجدنا على الأرض يؤلمهم.
وأشار الناشط الشبابي إلى نقاش دار بين المجموعات الشبابية حول التجوالات في ظل الإضرابات العامة التي تعم البلاد عقب ارتقاء الشهداء، وتوصلوا إلى أن هذه التجوالات يجب أن تستمر حتى في ظل الإضراب، ذلك لأن الأرض لا يجب أن تكون مفرغة من أهلها.
وتحوي غالبية التجوالات على فقرات غنائية ترتكز على الأغاني الوطنية والشعبية، إلى جانب المأكولات الشعبية، تفاصيل في جوهرها، تأتي كمكمل للمشهد ضمن رؤية مدروسة لبلوغ الهدف المنشود من التجوال.
ويرى نبهان في هذا السياق أن التجوالات هي نوع من أنواع المقاومة الشعبية ولا تقل أهمية عن أي نوع آخر من المقاومة، ففيها ما يحفظ التراث من خلال ترديد الشبان للأغاني الشعبية في وجه المستوطنين، الذين يقفون مكتوفي الأيدي أمام هذه الحالة.
كما أن الأكلات الشعبية التي تكون ضمن فقرات التجوال يكون مخططا لها بشكل مسبق لتحضير الأدوات، إلا أن المجموعات تسعى دوما لاستخدام منتوجات من الأرض نفسها، لخلق ارتباط عضوي معها.
ناهيك عن أن بعض المشاركين في التجوال يحرصون على الاحتفاظ بتذكار من المناطق التي يتجولون فيها، كحجر نادر أو جميل المظهر، أو نبتة تشتهر بزراعتها منطقة ما، وهذا كله يأتي في سياق خلق ارتباط عضوي كامل مع الأرض.
ويشارك في التجوالات فلسطينيون من كافة المناطق، الأمر الذي يؤدي إلى احتكاك في الهوية الفلسطينية المشرذمة بفعل الاحتلال والتقسيم الجغرافي الاستعماري.
وفي هذا الجانب قال الناشط الشبابي إن التجوالات لا تقتصر على مشاركين من منطقة معينة، بل يشارك فيها الكل الفلسطيني، الأمر الذي يعزز ارتباطنا بالهوية الفلسطينية، كما أن الأسئلة التي تطرح من أهالي الداخل المحتل تختلف عن الأسئلة التي يطرحها أهالي الضفة الغربية، ما يعني أننا نتعلم من بعضنا البعض ونتبادل الثقافات ورؤيتنا للأرض.
من جانبه، قال حسين شجاعية في هذا السياق إن النسيج الذي يشكله التجوال للشباب الفلسطيني مهم لنا لتوسيع معرفتنا الجغرافية والتاريخية، والاجتماعية بالحد الأدنى في كل مناطق الوجود الفلسطيني.
يحرص المشاركون في التجوال على استخدام خاصية البث المباشر التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي، بغرض التعريف بالأرض سيما للفلسطينيين في الشتات، إذ يحرص هؤلاء بدورهم على متابعة ما ينقله المشاركون، في محاولة منهم لاستعادة الهوية والذاكرة مع المكان الذي هجروا منه.
وفي هذا السياق أوضح نبهان أن أوائل الناس المتابعين للبث المباشر هم من أصلهم من المنطقة التي نتواجد فيها، ونبث من دخالها، كي يستذكروا أرضهم، المحرومون منها، مشيرا إلى أن هذا أيضا في جوهره جزء من المقاومة من خلال تعريف اللاجئين بأرضهم.
وفي الختام، اتخذ الفلسطينيون المشي، وسيلة تعبيرية في كثير من المناسبات كإحياء يوم الأرض، ومسيرات العودة، والوقفات الإسنادية للأسرى والشهداء في محافظات الضفة الغربية، حتى فلسطينيي الشتات يمشون في المناسبات الوطنية إلى المناطق الحدودية، انطلاقا من هذا يمكن النظر لفعل المشي في السياق الفلسطيني على أنه فعل مقاومة.
حول هذا قال الناشط الشبابي أحمد نبهان: "نحن في صراع إحلالي وجودي، والمشي هو نوع من أنواع المقاومة، إلى جانب كونه نشاط يقف في وجه كل المغريات الرأسمالية التي تحاول فرضها علينا، وتريدنا أن نكون آلات خلف مكاتبنا فقط، ووجودنا في الأرض يوقف الزحف الرأسمالي لأننا نريد للأرض أن تبقى كما هي وأن نتعلم من الفلاحين والمزارعين".