ضوء في الدَّغْل
يعيشُ العالمُ العربيّ اليوم، ثقافيا، نوعا من السكونية المخيفة رسخها التشابهُ الذي صارَ المحرِّك الأوَّل للفكر والتَّلقِّي. وصارَت الخطاباتُ المقبولةُ هي تلك التي تداعبُ عواطف النّاس، وتعبِّر عن المألوف ثقافيا واجتماعيا وتعيد إنتاج الماضي. ولذا تحوَّل كلُّ فكر حرّ، في نظر الجماعة، إلى عداءٍ، وأصبح التعاملُ معه بكثير من الريبة، وغالبا برفضٍ عنيف يكشف عن الحالة المتدنية التي صار عليها التلقي العربي بسبب ثقافة مهادنة دورها الأوّل هو التدجين، وإفراغ العقل العربي من روح الاحتجاج، وتحويلُه إلى وعاءٍ يستقبل فقط الأفكار التي وافق عليها النسق الثقافي السائد والمتخلّف في آن واحد.
يقودنا هذا إلى الحديث عن الروح الشعبوية التي تسود كل المجالات، والتي تقوم بمغازلة الشعوب بغرض تركها في الوهم. وقد تجذّرتْ هذه الروح في الثقافة، لدرجة جعلتْ الفكر النقدي يغيب، ومنحت فرصة لأشباه المثقفين حتى تشرق شمسهم على وسط يصفّق لكلّ ما يهادن ذائقته ويؤكّد اختياراتها وقناعاتها حتى ولو كانت خاطئة أو متجاوزة زمنيا. إنّ إطلالة واحدة على سوق الكتاب مثلا، تثبت أنّ الكتب الأكثر مبيعا هي الكتب الأكثر دغدغة لمشاعر الناس، وهي الأكثر خطرا على عقولهم لأنّها تساهم في صناعة عقل جبانٍ لا يتساءل بل ينقاد، وتحصر العقل، هذا الطاقة الخلاّقة المبدعة، في معناه اللغويّ، وهو ما يتضمن معاني القيد والتقييد.
وفي مقابل هذا الرواج الخرافي للخطابات التي تأسر الإنسان في المهادنة وتسجنه داخل التشابه والتقليد، نجد التلقي العربي صار ينفر من الكتابات الحقيقية التي توقظ فيه السؤال وتدفعه نحو التفكير. ونفورُه منها بسبب بعض الخطابات الدينية المتطرّفة تحديدا أو غير المؤمنة بحركة التاريخ وتغيّر الأفكار، والتي تفتح نار الإقصاء والتكفير وإهدار الدّم على كل مفكّر حقيقي يهمّه أنْ يستفيق الفرد العربي وأنْ يخرج من قوقعة نومه التي طالتْ إقامتُه فيها. وقد تعرّض لتلك الخطابات غير العالمة محمد أركون في الجزائر، وهو المفكّر الإشكالي، والعقل الأكاديمي المتّقد، ونصر حامد أبو زيد في مصر من طرف رجال دين ظلّوا يزعمون الاعتدال والتسامح، وسليمان بشير في فلسطين. وغيرهم كثير في مختلف البلدان العربية. ولم ينجُ إلا أولئك الذين فرّوا بجلودهم خارج حدود العالم العربيّ. وإذْ نذكر هؤلاء المفكرين فنحن لا ندعوا إلى تبنيهم المطلق، ولكن على الأقلّ نتمنى قراءة إسهاماتهم بعقل نقديّ متجرّد من العاطفة ومؤمن بنسبية الحقيقة وتعددها أحيانا.
إنَّ واقعا عربيا كالذي نحياهُ يكشف عن كثير من المآزق الثقافية، وعلى رأسها أنّ الشعوب العربية محكومة بأفكار الماضي التي أخذتْ مع الوقت صفتيْ التقديس والتأبيد. وصار الماضي بكلّ أشكاله وتناقضاته الرهيبة هو الحاضر الوحيد الذي نعيشُه. وقد تأسستْ بهذا ثقافة سلفية لا تؤمن إلا بأفكار ماتَ أصحابُها منذ مئات السنين. فلا يتمّ فتح نقاش جاد وحقيقي حتى تنفتح عليه رشاشات أصوات الماضي السحيق على ألسنة بشر يعيشون في سنة 2015.
أخيرا أودُّ أنْ أختم بالحديث عن التاريخانية، وهي الفلسفة التي تبنّاها بعض المفكّرين المتنورين في العالم العربي، وبسببها تمّ رفضهم وإقصاؤهم من دائرة الثقافة العربية، وتمّ اعتبارهم متغربين وحاقدين على تراث الأمَّة. والتاريخانية تدعو ببساطة إلى قراءة الأفكار والخطابات ضمن شرطها التاريخي الذي أنتِجتْ فيه، لأنّ كل فكرة مهما كانتْ قوّتها فهي تعبّر عن زمنها وعن الظروف التي تكوّنتْ فيها. هذا التفكير العلمي غائب عربيا، لأنّ هناك جهاتٍ رسّختْ في الناس أنَّ أفكار الماضي صالحة لكل زمان ومكان. هنا أزمتنا الثقافية، ومن هنا، من نقد هذا الفكر التأبيديّ لأفكار الماضي تبدأ كل محاولة جادّة للتغيير، ويتحرر التلقي من سجن الرجعية المخيف.