قبل فترة وجيزة قررت حكومتنا الرشيدة إصدار قرار بقانون يخولها إنشاء شركة مساهمة عامة تسمى "شركة كهرباء فلسطين"، تملك الحق الحصري كمالك ومشغل وحيد لمنظومة نقل وتوزيع الكهرباء في "دولة فلسطين". إن هذه المحاولة تستدعي الرفض الصريح ووقفة جادة من القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني، وحتى حركة فتح "أم الصبي" التي دفعت في الماضي وتدفع حاليا فاتورة ترهل وسوء الأداء الحكومي.
ونعدد أدناه المحاذير والمخاطر التي ستنتج عن السير قدما في هذا التشريع وغيره من على شاكلته.
1. يتضمن المشروع إشارة واضحة إلى أن أموال الشركة ستكون أموالا عامة، وهذا يتعارض مع نصوص قانون الشركات وغيره، ويمنح الحكومة حقا مطلقا بأموال الشركة بما فيها الاستحواذ عليها ومصادرتها، على الرغم من وجود مساهمين من غير الحكومة ممن لهم حقوق مالية فيها. والأخطر أن الحكومة منحت لنفسها في هذا المشروع حق وضع اليد على الشركة وإحالة إدارتها لمشغل خاص. والسؤال المشروع هو إذا كانت الحكومة تعتقد أن الشركة الوليدة تحتمل التعثر والفشل، وإن كان موزعو الكهرباء والخبراء يرون بأن هذه الخطوة هي قفزة في الهواء، فلماذا لا تختصر الحكومة كل هذا التشويش والإيذاء الذاتي وتسقط الموضوع من حساباتها.
2. حتى لو سلمنا بجدوى هكذا مغامرة، فإن مشروع القانون يتضمن مواد مرعبة فيما يتعلق بحقوق من سيتم دمجهم، حيث إنه سيتم دمجهم عنوة بقوة هذا القانون وليس وفقا لجميع القوانين الأخرى التي تعالج هذا الموضوع. وللدلالة على أن الاستحواذ المخطط له هو استحواذ عدائي، تكفي الإشارة إلى أن المشروع يمنح أعضاء الحكومة في مجلس إدارة الشركة (وعددهم 3 من أصل 13) حق الفيتو على أي قرار يصدر عن المجلس، مما يمنع استقلالية المجلس وتمثيله الأمين لمصالح المساهمين، ويمنع ممثلي المستحوذ عليهم من أمانة تمثيل مصالح هيئات وشركات توزيع الكهرباء والمساهمين فيها، وأفترض أنهم يمثلون أغلبية مساهمي الشركة الوليدة.
3. حيث إن الشركة المنوي تأسيسها ستكون حكومية، ولكون اتفاقيات أوسلو لم تشمل قطاع الطاقة، فقد تقوم إسرائيل بتقييد نشاطها بصفتها أحد أذرع السلطة، خاصة في المناطق المصنفة "ج". مما قد يؤدي إلى منع أي نشاط للشركة في هذه المناطق، بما فيها أعمال التطوير والصيانة وإصلاح الأعطال للخطوط المغذية لمحولات المجالس القروية والبلدية التي تشتري الطاقة من شركة الكهرباء القطرية مباشرة.
4. إن ضم شركة كهرباء محافظة القدس لهذه الشركة يعتبر هدية تقدمها السلطة لشركة الكهرباء القطرية وحكومة اليمين الإسرائيلي، والتي من المؤكد أنها ستبادر فور إنفاذ القانون لوضع اليد على عمليات وموجودات شركة كهرباء القدس بمناطق امتيازها في الجزء الخاضع للقانون الإسرائيلي من محافظة القدس، وإلغاء الإمتياز في "القدس الكبرى". ناهيك عن أن هذا الإجراء يمس باتفاقيات دولية حول المحافظة على الوضع القائم لمؤسسات القدس، ومنها شركة الكهرباء، حتى بعد اتفاقيات أوسلو.
5. تملك بلدية القدس، بصفتها ورثت حقوق تمثيل أسهم أمانة القدس في شركة كهرباء محافظة القدس، حوالي 10% من الأسهم، وبعد دمج شركة كهرباء القدس مع الشركة الوليدة، ستكون بلدية القدس مساهمة فيها فكيف والحالة هذه سيستقيم الأمر؟. هل ستقبل حكومتنا بأن تكون لديها شركة مساهمة عامة حكومية تساهم فيها بلدية القدس اليمينية؟، وماذا سيكون مصير استثمارات 3,575 مساهم من الأفراد في شركة كهرباء محافظة القدس.
6. وحيث أن قطاع الكهرباء ما زال حتى اليوم تحت سيطرة الإدارة المدنية، كيف ستعالج الشركة الوليدة علاقتها مع الإدارة المدنية، والتي قد تلغي أي قرار تتخذه هذه الشركة في أي مجال يتعلق بشبكات الكهرباء في منطقة "ج" وكل ما يتعلق بمشتريات الكهرباء من إسرائيل. وحيث أن الشركة الوليدة من المفروض أن توحد الشبكات الكهربائية وإنشاء شبكة وطنية، فكيف ستقوم بذلك في ظل عدم نقل صلاحيات الكهرباء للسلطة ومرور معظم الشبكات في المناطق "ج".
7. منذ صدور قانون الكهرباء عام 2009، لم تنجح السلطة في إقناع مئات الهيئات المحلية بالإنضمام الى شركات توزيع الكهرباء، حيث رأت هذه الهيئات في ذلك تهديداً لمصالحها وضياع مورد أساسي من مواردها المستدامة. فكيف ستنجح الحكومة الآن، وهي في أوج ضعفها وضعف التأييد للسلطة، في تأميم ملكيتها لحقوق توزيع الكهرباء وتحصيل عائد مالي محترم من ذلك يسد بعض احتياجاتها المالية؟. وما هو مصير حقوق المساهمين لديها سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات؟، ناهيك عن أن مثل هذه الخطوة تشكل اعتداءً سافرا على الملكيات الخاصة، وحق المساهم الطبيعي أو المعنوي برفض الاندماج مع شركة تسعى للاستحواذ على الأسهم، ولا توجد أي تشريعات تمنح السلطة حقوق الاستيلاء على هذه الحقوق، حتى لو قامت بالتعويض المادي.
8. تضمن مشروع القانون إلغاء شركة نقل الكهرباء الحكومية التي تتولى حاليا متابعة التخالص مع الجانب الإسرائيلي على أثمان الكهرباء المباعة للجانب الفلسطيني، وقد وقعت السلطة اتفاقية تجارية مع إسرائيل عام 2016 خولت بموجبها شركة النقل إدارة كافة نقاط الربط مع شركة الكهرباء الإسرائيلية. ويتناقض الإلغاء مع الأعراف والممارسات الدولية الفضلى التي تعتمد منظومة تتولى الحكومات فيها مسؤولية النقل بينما يتولى القطاع الخاص مهام التوليد والتوزيع.
9. وفقا للفصل السابع (مادة 22) من مشروع نظام الشركة الوليدة ستتولى السلطة تقييم أصول وممتلكات شركات وهيئات توزيع الكهرباء المحلية، ومنحهم مقابلها أسهما في الشركة، غافلة في ذلك أن هذه الأصول هي في الغالب ملكيات فردية. ناهيك عن أنه حتى لو كان ذلك ممكنا أو منطقيا، فالأصل أن تقوم الهيئات العامة للمساهمين فيها باتخاذ قرار الاندماج مع الشركة الوليدة وتحديد الشروط لإتمام ذلك، ومن ثم تحديد السعر الذي تطلبه مقابل اندماجها أو دراسة عرض فني ومالي من الحكومة وتقرر بشأنه. إن قيام السلطة منفردة بتعيين شركة استشارية لتقييم هذه الأصول وتحديد قيمتها يشكل سابقة وخطرا على هذه الحقوق، ومخالفة صريحة لنصوص قانون الشركات المتعلقة بآليات وشروط الاندماج بين الشركات.
10. قام القطاع الخاص برصد موازنات تفوق 300 مليون دولار لإنشاء محطة توليد الكهرباء قرب الجلمة، فماذا سيكون حالها بعد إنشاء الشركة بما يتعلق بالسعر "العادل" الذي ستعرضه الشركة الوليدة في حال قررت شراء الكهرباء منها، وماذا سيحصل إذا رأت شركة التوليد أن السعر غير عادل؟، وما هو موقف المساهمين من ذلك؟، وما هي الرسالة التي ترسلها الحكومة للمستثمرين محليا وخارجيا بشأن حصانة استثماراتهم في فلسطين من المصادرة أو التأميم، أو الاستحواذ القصري.
11. ما هو مصير موظفي هيئات وشركات توزيع الكهرباء بعد الاستيلاء عليها؟. أفهم أن تعتمد الشركة الوليدة في عملياتها على بعض كوادر هذه الهيئات والشركات، ولكن ما هو مصير حقوقهم الوظيفية المتراكمة، وما هو مصير الباقين ممن سيفقدون وظائفهم؟. ألا يشكل الاستغناء عن خدماتهم فصلا تعسفيا يرتب عشرات أو مئات ملايين الدولارت لتمويل أي تسوية، سواء داخل أروقة القضاء أو بالتراضي؟، وحيث أن معظم هذه الهيئات والشركات تقوم بترصيد مستحقات نهاية الخدمة وباقي حقوق موظفيها ورقيا فقط، فمن أين ستوفر الشركة الوليدة مبالغ التسوية، وكيف ستقوم بتعويضهم بعد أن تنفذ الاندماج إذا انطوى على دفع تعويضات مالية للمساهمين؟. وهل تملك سلطة مفلسة، غير قادرة على دفع رواتب موظفيها ومساهمتها في هيئة تقاعد موظفي القطاع العام، أي موارد مالية لتعويضهم؟، وما هي فاعلة بحقوق موظفي شركة كهرباء محافظة القدس الذين يعملون في "القدس الكبرى"، الذين تدفع عنهم شركتهم حاليا مستحقات التأمين الوطني والتأمي الصحي وغيره من الحقوق الفردية المنظمة بموجب القانون الإسرائيلي.
12. تعمل دول العالم أجمع على قاعدة السعي لضمان أمن الطاقة لشعوبها، فما هي الحكمة من الخروج عن هذه القاعدة واستبدالها بمشروع تأميم قطاع الطاقة والسيطرة عليه، بدلا من تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في توليد الطاقة وتوزيعها وتحمل المخاطر المصاحبة لذلك لوحدها، واتخاذ ما يلزم لتنفيذ برنامج إصلاح إداري ومالي في جميع هيئات وشركات توزيع الكهرباء، وعمل ما يلزم لتنفيذ بنود قانون الكهرباء العام المتعلقة بضم هذه الهيئات لشركات منطقية تعود بالنفع عليها وعلى مساهميها.
13. من المعلوم أنه هناك ما يشبه الانفلاش لدى السلطة والنظام القضائي، وخاصة في تنفيذ قرارات المحاكم وبطء إجراءات التقاضي، وعجز مهول لدى موزعي الكهرباء في السيطرة على الفاقد غير الفني المتمثل بعدم دفع الالتزامات الشهرية وسرقة الكهرباء وسوء الاستغلال، وتعاني هيئات وشركات التوزيع من عجز مزمن بسبب تخلف حصة كبيرة من المستهلكين عن السداد، فهل سيكون حال هذه الشركة أحس من حال هذه الهيئات وشركات التوزيع في تحصيل أثمان الكهرباء المستهلكة؟. بالتأكيد لا. ولذلك من المحتمل أن تولد هذه الشركة وهي عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها وغير قادرة على دفع أثمان الكهرباء التي ستشتريها من إسرائيل والمستثمرين المحليين والأردن ومصر. ومن المؤكد أن تقوم إسرائيل بجباية أثمان الكهرباء من أموال المقاصة مباشرة، بينما ستتضخم ديون الباقين على الشركة الوليدة، وسيتعاظم "صافي الإقراض".
14. لم تحاول الحكومة فتح أي حوار مجتمعي حول مشروع القانون، ولم تشرك القطاع الخاص في المناقشات حوله. وقد اكتفت باستمزاج بعض هيئات وشركات التوزيع دون الأخذ بالاعتبار أن القطاع الأكثر تضررا من أي خطوة غير محسوبة تقوم بها الحكومة هو القطاع الخاص برمته وليس حفنة شركات وهيئات توزيع. وحيث إن إقصاء القطاع الخاص خلال فترة عمل هذه الحكومة هو نهج وقرار، فلماذا على القطاع الخاص أن يتحمل وزر قرارات حكومية مرتجلة في غالب الأحيان؟. ونرى في هذا المجال أن الهيئات العامة لمؤسسات القطاع الخاص تتحمل مسؤولية عدم محاسبة مجالسها المنتخبة والمجلس التنسيقي للقطاع الخاص على هذا التقصير في التمثيل الأمين لمصالحها أمام الحكومة.
15. مع إلغاء المنافسة بعد قيام "شركة كهرباء فلسطين"، من سيضمن أن هذه الشركة ستقوم بالعمل على تحسين مستوى الخدمات كما يبشر مشروع القانون، وما هو حافزها للقيام بذلك في ظل غياب منظومة المساءلة بعد حل المجلس التشريعي، ومن يقنعنا بأن مجلس تنظيم قطاع الكهرباء غير القادر على محاسبة شركات التوزيع الحالية لغياب الصلاحيات، ستكون له أسنان حقيقية لمساءلة شركة حكومية زميلة، يدها مطلقة في هذا القطاع بإرادة وقرار الحكومة؟.
16. ما هي الضمانات بأن هذه الشركة ستستطيع تمويل نفسها من عائدات بيع الكهرباء؟، وليس من الاقتراض وإثقال نفسها ومساهميها بالديون والتسهيلات التجارية، وما هي الضمانة بأن لا تقوم هذه الشركة الاحتكارية برفع الأسعار بين الفترة والأخرى لتتمكن من تسديد التزاماتها وتعظيم أرباحها من بيع الكهرباء؟. ناهيك أن القطاع الخاص سيحجم عن الاستثمار في هذا القطاع لكونه أصبح حكوميا، وبالتأكيد ستمتنع المؤسسات الدولية والدول المانحة عن منح أي مساعدات لقطاع الكهرباء بعد سيطرة السلطة عليه.
خلاصة القول، دأبت هذه الحكومة منذ تنصيبها إلى الاستفراد المطلق بصياغة القوانين وقولبتها لمصلحتها غير عابئة بمبادئ الاقتصاد الحر، والاستفادة من تجربة السلطة لمدة ربع قرن سابقا عليها، وهي بذلك تؤكد مرة أخرى أنها مستعدة لعمل أي شيء لتأمين الموارد للصرف على نفسها ومحاولة الظهور بأنها قادرة على الإيفاء بالتزاماتها أمام موظفيها والمواطنين.
إن العبث في هوية الاقتصاد الفلسطيني سيؤدي في نهاية المطاف إلى تدميره، وإن حل مشكلة "صافي الإقراض" لا يتأتى من خلال الاستحواذ على مقدرات شركات وهيئات توزيع الكهرباء، وإنما بالإدارة الحصيفة والإصرار على جباية أثمان الكهرباء من مستهلكيها، ورفع قدرات الهيئات المحلية إدارياً وفنياً لتتمكن من تحسين إدارة مواردها، والسير ببرنامج إصلاح إداري ومالي في جميع شركات وهيئات توزيع الكهرباء، وبسط نفوذ مجلس تنظيم قطاع الكهرباء على جميع الموزعين وليس الشركات فقط، وتحصين استقلال المجلس بإعادة إنشائه بقرار بقانون ورصد التمويل المطلوب لرفع قدراته وتمكينه من الرقابة الحقيقية على أعمال شركات وهيئات توزيع الكهرباء ومحاسبتها، واتخاذ قرارات جادة في تصويب أي تجاوز للقوانين، إن وجدت.
أخيراً، تحصل السلطة على ضريبة القيمة المضافة عن مبيعات الكهرباء، وإن كان هناك تقصير في جبايتها، فهذه مشكلة السلطة وليس مسؤولية شركات وهيئات توزيع الكهرباء لوحدها، وإنني لعلى يقين بأن هناك من زين للسلطة بأن مثل هذا الإجراء سيؤدي إلى حصولها على دخل إضافي من أرباح بيع الكهرباء مباشرة، غير آبهة بالأعباء القانونية والإدارية والمالية الناتجة عن هذا الاستحواذ، والمخاطر المرافقة له. آملا أن يتريث الرئيس قبل توقيع قرار بقانون من المؤكد أنه سيولد ميتا. والله من وراء القصد.