ما حاجةُ الشهيدِ إلى السلاح؟ أو بالأحرى صورة الشهيد في جنازته المطبوعة على ملصقٍ وهو يحملُ سلاحاً؟ قد يبدو السؤال ساذجاً أو غير ضروري لبديهية التلازم ما بين قداسة وطهارة الشهيد مع قداسة وطهارة السلاح الذي يحمله. لكن ماذا يحدثُ عندما يحدثُ ما لا نفكر فيه، عندما يُفرضُ المنعُ على طباعة صورة الشهيد وهو يحملُ سلاحاً؟ يُطرحُ مثل هذا السؤال، غير القابلِ للطرح، عندما يتحقق، أو هنالك شبهات حول تحققه. تذكر لي إحدى الناشطات الميدانيات، أنها حاولت طباعة ملصق لأحد الشهداء في إحدى المطابع ليرفع المشاركون صورته في جنازته، لكن صاحب المطبعة رفض تنفيذ أمر الطباعة لأن الملصق لشهيد يحملُ سلاحاً، ولأنه وصله تنبيه من الأجهزة الأمنية الفلسطينية ووقع على تعهد بألا يطبع أي صورة لشهيد يحملُ سلاحاً. توجهت الناشطة إلى مطبعةٍ أخرى، ولاقت معاملةً بالمثل.
ما المزعجُ في صورة الشهيد الذي انتقل من عالم الأحياء إلى عالم الأحياء غير المرئيين وهو يحملُ سلاحاً؟ هذا السؤال هو سؤال مرتبطُ بكيف نتذكرُ الشهيد في لحظته الأخيرة، وهو الفارق بين معامل النسيان والذاكرة، وحياة متحققةٍ بقيمة وحياةٍ لا معنى فيها، وهو الفارق بين موتين: موتٌ مشرفٌ وموتٌ بادعاء الشرف؛ إنه بالأساس الفارق بين مشروعين: التحرر ومناهضة التحرر. وفلسطينياً، يمكن الادعاء بأن المشروع الوطني، الذي لم يعد مشروعاً -من المشروعية- ولم يعد وطنياً، إنما أصبح مساراً نحو تحقيق هذه الغاية المشبوهة ألا وهي مناهضة تحرر الفلسطينيين. ولعله من غير الممكن بالنسبة لنا أن نفهم سياق مرحلتنا الراهنة دون أن نصل إلى تلك النتيجة، والتي تتحرك فيها ديمومة الفعل الاستعماري مع سياق فلسطيني داخلي أُفْتِعلَ الخرابُ فيه كي لا تقوم قائمةٌ لفكرة مقاومة المستعمِر أو إمكانية طرده أو التخلص منه، وتُزرَعُ في هذا الخراب أفكارٌ عن الاستسلام، وأسئلةٌ عن جدوى الفعلِ المقاوم ونتيجته، ويتم تجريم حملِ السلاحِ المقاوم، وفرضِ تصورٌ عن الذات الفلسطينية فيه من الهشاشة والضعفِ ما يُحبِطُ الروح، فيتحوّلُ الفلسطيني إلى كائن آلي، مبرمجٍ بشكل مسبقٍ على تحقيق صورةٍ عنه لا تُشبِهُ الأصل.
وذلك تماماً معنى أن تكون صورةُ الشهداء بلا سلاح، فهي صورةٌ عن الذات التي يُتنزَعُ منها ما يحقق ذاتها، فلا تكون الصورةُ إلا محاولةً للحلول محل الأصل. وهي تلك العلاقة التي يحاولُ المستعمِرُ أن يبنيها ما بين وجودهِ ووجودنا، أي أن يحلَّ محلَّنا. وإن كان المنعُ المتقصَّدُ لصورة الشهداء بلا سلاح مهماً فقط لفهم سياقنا الحالي، فهو بالتأكيد لا يؤثر على صورةِ الشهيد، ولا على معنى فعله الاستشهادي. لأن السلاح لا يحملُ الشهيدَ فالشهيدُ من يحملُ السلاح، والأهم هو أن الشهيد دائماً ما يحملُ سلاحهُ معه: جسدهُ.
وإن كانت صورةُ الشهيد مع السلاح يرادُ لها أن تذهب في طي النسيان إلا أنها تأبى أن تذهب، وتظلُّ تظهرُ في صورٍ أكبر وأضخم وأجمل، فيذهب الشهداء حيث يذهبون دون حاجةٍ للسلاح المطبوع على الورق، فهنالك ما يُطبعُ في الذاكرة ولا يُنسى.