لا يختلف إثنان من أبناء الشعب الفلسطيني على مدى الخطر الذي تواجهه القضية الفلسطينية، وعلى ما تتعرض له الحقوق الوطنية من مخططات تصفية، بما في ذلك تصفية القدرة على البقاء والوجود. تسمع مثل هذا الكلام من الأغلبية الساحقة من السواد الأعظم للناس، وتتصاعد وتيرة تحميل القيادة المهيمنة على المشهد الانقسامي وخياراتها السياسية الفاشلة" العنترية منها والمتخاذلة" المسؤولية عن هذا الواقع، و ما نجم عنه من تفكك الحركة الوطنية، وهذا صحيح مئة بالمئة، ولكن الأمر يتوقف عند ذلك رغم المحاولات الجنينية المتناثرة التي تسعى لتغييره، بينما معاناة هذه الأغلبية والقلق على مصيرها الوطني يستمر ويتعمق. كما تسمع مقولات تحذر من الخطر على المصير الوطني من هؤلاء المهيمنين على هذا المشهد والمتشبثين بمصالحهم الفئوية والخاصة، وهم يكررون بكائيات تحميل العالم مسؤولية تغول اسرائيل وعدوانيتها المتصاعدة، و رغم أن هذا أيضاً صحيح، إلا أنه لا يواجه سوى بالصراع على فتات السلطة والتهديد بحلها، من خلال سياسة استرضاء العدو سعياً لمجرد البقاء، وكأن الاحتلال مصدر شرعيتهم، وليس الشعب الذي صودر حقه الدستوري والوطني بانتخاب ممثليه واختيار قيادته وتصويب المسار واستعادة القضية لمكانتها واسترداد الحقوق من مغتصبيها، فكيف يمكن الجمع بين استرضاء العدو ومطالبة العالم بمواجهة عدوانيته ؟!
مسار التغيير أو بالحد الأدني الاصلاح الجذري واستحقاقاته بات معروفاً من حيث الهدف وخارطة الطريق التي قد توصل إليه، ولكن على ما يبدو أن سؤال ماهية القوى الاجتماعية المؤهلة لقيادة هذا التغيير ما زال غامضاً والاجابة عليه أكثر غموضاً ، ولا بد من التصدي الملموس له إن كنا جادين باحداث التغيير أو الاصلاح الممأسس ، بما يساهم في بلورة حراك مؤثر واسع النطاق، ويفتح نحو متطلبات استراتيجية كفاحية تصون حقوق شعبنا الوطنية، وتوفر مقومات قدرة الناس على الصمود والبقاء باعتبارهما العتلة الاساسية لأي مشروع وطني أو استراتيجية كفاحية لتحقيقه.
حتى الآن لم يغادر تشخيص الواقع و محاولة وصف العلاج، الاجابة على السؤال وهو فيما اذا كان بالامكان الخروج من عنق الزجاجة باستعادة رشد من أدخلنا بها، أي بالتوافق على انهاء الانقسام، أم أن مغادرة عنق الزجاجة يتطلب حاملاً اجتماعياً مختلفاً حتى لو نجم عن ذلك كسر الزجاجة نفسها. من البديهي أن من "انزلقوا" بالقضية الوطنية و واقع حال الانقسام، "وأقول انزلقوا من باب الحذر من المجازفة باستسهال الاتهامات، أو التشكيك في وطنية أي كان"، وبعد ستة عشر عاماً من استمراره نحو حالة من الانفصال، باتوا يدركون ويكررون أن ما يجري لا يخدم سوى اسرائيل، ومع ذلك لا يفعلون شيئاً لوقف هذه المهزلة، التي في الواقع شكلت قاعدة و رأس حربة تجرؤ المشروع الصهيوني على اعتماد استراتيجية مفادها أن معالجة أزمة مشروعهم الاستعماري الاحلالي يكمن في امكانية تصفية المشروع الوطني الفلسطيني، واستكمال مخططات اقتلاع الفلسطينيين من هذه البلاد كمتطلب لاخراج المشروع الصهيوني من عنق زجاجته وأزمته التاريخية، وهو ما يفسر التحولات المتسارعة في النظام الاسرائيلي باتجاه اليمين الفاشي المتصدر والقادر على انجاز تلك المهمة .
لقد بات جلياً أن من أوصل "الحمار على الميذنة" غير راغب أو بأحسن الاحوال غير قادر، و ربما ما زال يعتقد أنه من غير مصلحته أنزال ذلك الحمار ، أي أنه لن يكون جزءاً لا من المراجعة،ولا من مستقبل فتح الطريق لمشاركة الشعب في عملية التغيير ، بل سيعرقلها بكل ما يتبقى له من قوة، بما في ذلك المزيد من التنازلات للعدو وليس مجرد استرضاء له من أجل البقاء والفوز بعطاء الوكالة الأمنية، وبالتاكيد ليس رواية شعب دفع ومستعد أن يدفع كل أثمان الحرية والعدالة .
والحال هكذا؛ فما العمل لصون التضحيات والانجازات التي دفع ثمنها شعبنا غالياً من دماء أبنائه ومعاناة شعب بأكمله منذ “نكبة 48 مروراً بهزيمة 1967 التي تصادف ذكراها يوم أمس الخامس من حزيران ؟ سبق وأن أشرت إلى أن هذا يتطلب بناء جبهة شعبية عريضة لاسقاط ثقافة الانقسام والهيمنة والاقصاء واحتكار السلطة والموارد، والعودة لمتلازمة الوحدة والديمقراطية، ولكن السؤال الذي لم تتم الاجابة عليه بعد، هو : كيف يمكن أن يتم ذلك ؟ هنا ومن موقع ادراك أن الاغلبية الشعبية متضررة وتستشعر مدى الخطر المحدق، ولكنها تعقد بصعوبة التغيير بسبب ترابط المصالح الفئوية والانتهازية الذاتية للممسكين بتلابيب المشهد ومساندة القوى الاقليمية و المصلحة الاسرائيلية لابقاء الحال على ما هو عليه.
إن امكانية استعادة القضية الوطنية من براثن الانقسام وصون الحقوق نحو استعادتها من بين أنياب جرافات ومخططات الاحتلال هي مسؤولية متكاملة من أدني إلى أعلى وبالعكس. هنا يجب أن يتركز النقاس حول من هي الشخصيات المؤهلة لذلك من حيث وطنيتها ومكانتها المحلية والاقليمية والدولية ونظافة يدها وخبرتها، لتطلق مبادرة جماعية واضحة ومحددة وملموسة تتحمل فيها مسؤولياتها التاريخية بأن تلقي حجراً جدياً في البركة الآسنة، وبما يتلاقى مع طموحات الأغلبية الصامتة وتستجيب لها، وتعطيها الأمل بامكانية التغيير حتى لو تطلب ذلك ثورة اجتماعية والاستعداد لدفع أثمانها، وبما يفتح الامكانية الواقعية لاستعادة مكانة القضية الفلسطينية ومؤسسات الوطنية الجامعة وبوصلة الكفاح الوطني ضد الاحتلال، وأن تحقيق ذلك يبدأ ليس فقط في اسقاط الانقسام و مغادرته، بل و بما يضع الانقساميين أمام ضرورة التحلي ولو بالحد الأدنى من المسؤولية بعدم مواجهة مثل هذه المبادرة والاستجابة لما تقدمة من خارطة طريق انتقالية سيما لجهة اشراك الجميع في قيادة المصير الوطني تمهيداً لاجراء انتخابات ديمقراطية نزيهة وشفافة، أو يكونوا وضعوا أنفسهم خارج نطاق المسؤولية المناطة بهم وما يعنيه ذلك من استحقاقات .