مقدمة: اليوم تستنفر "الأمة" الفلسطينية كلها في معركة التوجيهي الكبرى. الأدعية والأمنيات لأبناء الشعب جميعآ أن ينجحوا ويتفوقوا. لاحظوا أن هذا يؤشر إلى عقلية تتوهم أن "الغيب" يجب أن يهب لمساعدتنا. شيء من قبيل جنود خفيين ينصرون الطلبة. بداهة، سيبذل المراقب في القاعة ما في وسعه لمساعدة الطلبة. هل هذا امتحان تعليمي ام حالة جهادية وطنية؟ هناك للأسف "هبل" رسمي مع العذر للتعبير يلف النظام التعليمي من رأسه حتى اخمص قدميه. عموماً يتمتع الطلبة هذه السنة بتعاطف رسمي وشعبي استثنائي بسبب إضراب المعلمين. في السنوات السابقة وجد تعاطف قوي أيضاً بسبب كورونا. وفي هذه الأحول مثلما حصل في اجتياح شارون للضفة سنة 2003 تكون النتائج أعلى من "المنحنى" الطبيعي تعبيراً عن معجزة النصر على العدو السياسي في تلك المرة والعدو الطبيعي أو النقابي المرات الثلاث الأخيرة. ترى متى ننتهى من تمثيلية التوجيهي المملة التي لا تسمن ولا تغني من جوع؟
أولاً: ذكريات التوجيهي 1. أيام الاحتلال المباشر: كنا نتقدم للامتحان في قاعة قرية بيت أمر في الخليل. تمكن أعيان القرية بسهولة من إقامة وليمة غداء عظيمة على شرف مدير القاعة والمراقبين. سلامتكم، بدا واضحاً من اللحظة الأولى أن جهاز المراقبة كان أقرب إلى "تغشيش" الطلبة منه الى المراقبة. القوى الوطنية المختلفة فتح، شعبية، حزب شيوعي (لم يكن هناك حماس في تلك الأيام) قامت "بواجبها الوطني" في مساعدة الطلبة. مهرجان كرنفالي للتضامن من أجل نجاح الطلبة جميعاً، نكاية بالاحتلال على ما يبدو، أو خدمة للمشروع الوطني، وإن كنت لم أعرف كيف ذلك. كنت في الفرع العلمي، علامة الرياضيات 300 علامة كاملة من أصل 1000 هي مجموع العلامات. يعني ثلث العلامة رياضيات. امتحان الرياضيات يستغرق ثلاث ساعات، لكنني بعد نصف ساعة ذهبت لتسليم دفتر الإجابة، دهش المراقب الذي كان يعرف أنني أمضيت شهرين تلك السنة في الاعتقال، وفي سياق التضامن اقترح علي أن يسأل لي بعض الطلبة "الشاطرين" لكنني أثناء ذلك كنت منهمكاً في مساعدة زميل لي لمحت إجابته الخاطئة، فقلت له هذا السؤال نسخة من سؤال تسعة صفحة 112. كنا "باصمين" الرياضيات. الفرق بين العلمي والأدبي وهمي، طلاب العلمي يبصمون مثل الأدبي بالضبط. 2. أيام الاجتياح 2003 شارون يغلق مدن الضفة بما فيها "العاصمة" رام الله معظم أيام السنة. لا دراسة ولا مقاهي ولا حبال غسيل. تعطلت الحياة الطبيعية تماماً. في آخر العام تقدم الطلبة لامتحان التوجيهي على الرغم من أنهم لم يدرسوا أبداً. لدهشتنا جميعاً حقتت الضفة أعلى نتائج في تاريخها. كان عدد الطلبة الذين حصلوا على اكثر من 99 بالمئات.
كتب أحمد حرب ساخراً: "إنهم يثبتون لشارون أن تعليمنا لا يتأثر حتى لو أغلق المدارس مئة سنة." لطيف. بالطبع لم يكن بإمكان الجامعات استيعاب الطلبة الكثيرين الذين حصلوا على التفوق الساحق.
توجيهي 2020: الكورونا يسيطر على المشهد، ولا أحد يجرؤ على مطالبة التلاميذ بحفظ المنهج كله، تم حذف أجزاء من المحتوى، وكانت الأسئلة مباشرة وواضحة ولاشية فيها. رافق تلك السنة اختراع عجيب هو الغش عن طريق سماعات تزرع في الأذنين ويتلقى التلميذ الإجابات من خلالها. حقق آلاف الطلبة الذين يكتبون بصعوبة بالغة نتائج باهرة تجاوزت حافة التسعينيات المخصصة للمتفوقين. وتكررت العملية سنة 21 و 22. 3. توجيهي 2023: المعركة مستمرة يتفنن الناس في "الجهاد" في المعركة المعلنة ضد التوجيهي. الأدعية والأمنيات، إضافة الى أنشطة الفتاحين والحجابين والرقى التي تنشط لمساعدة الطالب على الإفلات من وحش التوجيهي. بالطبع يجاهد كل من موقعه: المعلمون يتوقعون الأسئلة ويكتبون للطلبة مواضيع الإنشاء المتوقعة. المراقبون سيحاولون جهدهم أن ييسروا أعمال النقل والغش. الأهل في البيت يوفرون الطعام الطيب والمغذي للمناضل ابن التوجيهي الذي يعيش المحنة الرهيبة. وهناك جيوش هنا وهناك ستقتحم القاعات إن أمكن لمساعدة الطلبة.
ثانياً: تشخيص سريع للمرض ليس هذا امتحاناً عادياً لعملية تعليمية عادية تهدف إلى تدريب الصغار على أوليات العملية العلمية بغرض تهيئتهم للجامعة. هذه معركة يجب أن نربحها بالغش والاحتيال والتدرب على الأسئلة المتوقعة والاستعانة بالغيب: إنه مهرجان يعكس خيبتنا السياسية والاقتصادية والعلمية على نحو شنيع. على الرغم مما قلناه أعلاه إلا أنه لا ينفي أن هناك هالة وقلقاً ورعباً يحيط بالعملية كلها. ذلك أننا شعبياً على الأقل ما زلنا نصنع ببراعة ثقافة الرهبة من الإمتحان بما يجعله مواجهة مرعبة لمعظم الطلبة. لماذا نقوم بتوتير الأجواء، وحظر التجول في البيت، وتسليط الأضواء في الإعلام وغيره على موضوع إمتحان التوجيهي، مع إنه مجرد إمتحان عادي؟! في الدول العريقة والمتحضرة، تمر مثل هذه الأمور ولا يدري عنها أحد وتسير الحياة بشكل طبيعي، وفي الأنظمة الفاشلة تحاول الدولة تسليط الأضواء على أمور روتينية وعادية لإيهام الناس بأنها تقوم بأمور مقدسة ومهمة وخارجة عن العادة، تهويل الأمور وتضخيمها وإظهارها بأكبر من حجمها مؤشرات سلبية ولا شيء إيجابي فيها، وحينما يتقدم الطلبة للتوجيهي وتعلن نتائجه دون صخب وضجيج عديم المعنى سنكون قد خطونا خطوة مهمة نحو تقدم ورقي حقيقي. اليوم سترون كيف أن "ستي عيوش"، رحمها الله، أفاقت من سباتها وراحت تلف على قاعات التوجيهي وتمتدح سير الإمتحان، وكيف سنمتدح جميعاً "النواطير" المراقبين وهم يراقبون على التوجيهي على مضض ودون كبير اهتمام بعد أن إعتدينا في الأمس القريب على حراكهم النبيل بحثاً عن الخبز والتمثيل النقابي العادل. عذراً لكل النواطير الذي يحرسون هذا الوطن!
عموماً، كل توجيهي وأنتم بخير، ولن أقول "يا رب النجاح لكل الطلاب" لأن لجان "المنحنى الطبيعي" تفعل فعلها، وتضع نسبة النجاح في سياقها المقرر سلفاً والذي يسمح بنجاح 65% من الطلبة بغض النظر عن مستواهم، هذا ان اعتبرنا أن الامتحان يقيس أصلا اية قدرات عقلية أو مهارات علمية لدى النوع المسمى بشراً. أقول عوضاَ عن ذلك: "يا رب خذ أجل التوجيهي، امحقه من الوجود، واعفني من الكتابة عنه في العام المقبل، واعف الناس من هذه الممارسة التي لا تفيد العلم ولا التعليم ولا الجامعات ولا المدارس ولا الوطن ولا المواطنين".