الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

عالم اللايقين ومصير المقهورين/بقلم: عوض عبد الفتاح

2023-06-11 08:18:11 PM
عالم اللايقين ومصير المقهورين/بقلم: عوض عبد الفتاح
عوض عبد الفتاح

 

يظنُّ الانسان العادي أن عالمَ اليقين الذي نعيشُ كوارثه، في هذه الحقبة الزمنية، عالمٌ طارئٌ على البشرية. بل حتى جزء من الفئة الاكثر إطلاعا على التاريخ وتقلباته وسخريته، تميل الى النسيان أو تغفل حقيقة أن اللايقين، وما ينتج عنه احيانا شعور بفقدان المعنى، ظاهرة لصيقة بالتاريخ البشري . وبطبيعة الحال، لا تنشغل الطبقات الأكثر غنى واستقراراً، والبعيدة عن التأثير المباشر للأحداث الجسيمة، بهذه الأسئلة الوجودية. ولكنّ مفكرين وفلاسفة، عديدين، بل شعراء أيضاً، الذين ظهروا في حقب مختلفة من التاريخ البشري، أطّروا هذا الألم في قوالب فلسفية، تأملية، وحاولوا أن يسبروا عالم الانسان الداخلي ودوافع سلوكه، في خضم البحث عن الحقيقة والمعنى، والسعادة . وانتهى بعضهم إما الى العزلة واليأس، أو الإنتحار ، بعد أن صُدموا من هول الكوارث التي تحدث على يد البشر ، وخاصة الطبقات الحاكمة، أما آخرون فقد تميز ردهم بالتمرد والعمل والتحدي. وفي العصر الحديث، وبعد عبور أوروبا المخضب بالدماء، مرحلة القرون الوسطى إلى عصر النهضة والانوار والثورات، صُدم هؤلاء من كثرة عدد زملائهم من المثقفين، الذين خانوا دورهم بالإنحياز الى السلطة الظالمة في دولهم. وكانت أشد الصدمات وقعاً على هؤلاء تلك التي أوجدتها الحرب العالمية الأولى، حيث ظنّ الانسان الاوروبي، أن انتصار العقل، كفيلٌ بخلق عالمٍ خالٍ من الحروب وسفك الدماء. فجاءت هذه الحرب، بين دول الحداثة، وهي ذاتها دول امبريالية توسعية متوحشة،لتفاجئ البشرية بحرب ضروس مرعبة، تفتك بعشرات الملايين، بعد أن كانت غالبية حروبها، قبل أن تسوطن الحداثة في نخبها ومجتمعاتها، تجري ضد شعوب الدول الاخرى، خارج القارة الاوروبية. ومن نافل القول أن تلك المجتمعات عرفت اتجاهات فكرية ثورية قادها مفكرون وثوريون ومصلحون، ردا على انحدار البرجوازية الناهضة الى مستنقع الاستغلال الداخلي، الطبقي، والتوسع الاستعماري المتوحش.

اليوم، أو منذ اكثر من عام، تشتعلُ حربٌ وحشية، يصفها البعض بأنها حربٌ عالمية ثالثة، ولكن بأشكال أخرى، في أكرانيا. هي حرب بالوكالة، بين الامبريالية الامريكية وروسيا بوتين. دولة عظمى تشن حرباً مدمرة على دولة كانت حتى وقت قريب جزءاً من الامبراطورية الشيوعية السوفييتية، أصرّت قيادتها المراهقة، بزعامة زلنسكي، على الإنحياز للامبريالية الامريكية والسعي للإنضمام لحلف الناتو بدل اعتماد نهج الحياد، وهي الامبريالية التي سعت بمنهجية لمحاصرة روسيا وتهديد امنها القومي، كما تقول قيادتها، أو تهديد طموحاتها الامبريالية كما يقول المناهضون لها ، وهو رأي تحمله فئات من اليسار، واليمين. لقد أدت حسابات الطرفين الخاطئة إلى نتائج انسانية وماديةكارثية لأفعالهما، إذ ظنت روسيا بوتين أن السيطرة على أوكرانيا وتغيير الحكم، سيتم في غضون أسبوعين أو شهر على الاكثر، أما الامبريالية الامريكية توهمت أن حصار روسيا اقتصاديا وفرض العقوبات الشاملة عليها سيؤدي الى إنهيارها، في غضون وقت قصير . وهذا لم يحصل، فأكرانيا لا تزال تقاوم بشراسة، رغم الدمار والقتل وتحوّل الملايين الى لاجئين خارج البلد، كما حصل مع السوريين، والاقتصاد الروسي لم ينهر ، بل هناك من الخبراء من يقول أن هذا الاقتصاد قد يشهد نمواً في العام القادم. وكشفت حرب روسيا أوكرانيا، مرة اخرى ازدواجية المعايير الغربية، بالمقارنة مع تعاملها مع المشروع الصهيوني الاحتلالي الاستعماري.

كل ذلك جاء بعد أن كانت المنطقة العربية، لسنوات طويلة، تشهد ثورات شعبية غير مسبوقة في حجمها وشموليتها، ووجهت بقمعٍ بالغ الوحشية، وغير مسبوق، من جانب أنظمة الطغيان والفساد والفشل . وخلال الأشهر الأولى للثورات العربية المجيدة، و كذلك لحركات الاحتجاج الشعبية الواسعة في مختلف أنحاء المعمورة، ضد النظام النيولبرالي المتوحش، في الدول الغربية وغيرها، وُلدت آمال عريضة، مستبدلة حالة اليأس والشعور باللايقين الذي كان مستحوذاً على الناس، وشالاً فاعليتهم.

و بطبيعة الحال، أحدثت هذه الثورات صدىً واسعاً في أوساط الشعب الفلسطيني، وأنعشت الآمال مجدداً، بإمكانية إزاحة انظمة الاستبداد، والمافيات الحاكمة، باعتبارها أنظمة تتحمل المسئوولية عن استمرار المشروع الكولونيالي الصهيوني، وفظاعاته اليومية، في قلب الوطن العربي أي فلسطين، وفي أراضي عربية أخرى؛ الجولان السوري وسيناء المصرية، ومزارع شبعا اللبنانية.
ولكن بعد سنوات من القمع الوحشي، الذي لا يتصوره عقل، الذي مارسته ولا تزال المافيات الحاكمة، بالتعاون مع دول خارجية، إقليمية وعربية، وشرقية وغربية، التي التقت موضوعيا مع مصالح منظمات اسلامية جهادية فاشية، انهارت الأحلام الكبيرة، وانتهت أفواج من الثوار ، الشباب خاصة، الى حالة من الاستسلام لليأس والانعزال، والشعور باللايقين.

ويراقب الناس، وخاصة هؤلاء الثوار، ما يجري اليوم على الساحة العربية والاقليمية، من اصطفافات جديدة، ومصالحات بين الانظمة، ويطرحون الاسئلة الكبيرة مثل ؛ أين موقعهم في هذه التحولات الفوقية، وماهو مصير اأحلامهم، وتطلعاتهم، وثوراتهم، التي دفعوا، ولا زالوا يدفعون، من أجلها ، الغالي والرخيص، ومن أجل وطن عربي حر ، ومتحرر من الاستبداد والفقر والهيمنة الخارجية.. وهل هذه المصالحات سلبية بالمطلق ام أنها يمكن أن تفتح نافذة على المستقبل!
و سؤال آخر ؛ كيف تستقيم إمكانية الاستفادة من تقارب عربي، حيث تكتسب أنظمة الاستبداد العربي استقراراً وشرعية، تمنحها لبعضها البعض، من دون الشعوب، التي لاتزال ترزح تحت طائل الملاحقة والقمع والسجن والتعذيب في السجون، ناهيك عن هروب الملايين من الاوطان العربية، وموت الالاف منهم في أعماق البحار قبل أن يلتحقوا بمن سبقهم إلى بلاد الغربة والتشرد، مع أن الكثيرين من الناجين فوجئوا بالحماية السكنية والصحية والاجتماعية، في تلك البلاد ، خاصة في الدول الاسكندفانية.
ما نشهده الآن لدى الأنظمة العربية هو تبنّي نموذج التنمية من فوق، ومن خلال تجاهل المطالب الديمقراطية والحريات وكرامة الانسان الفرد. نعم نجحت أنظمة سلطوية، لا تقيم وزناً كبيرا للحريات الفردية، في تحقيق تنمية من فوق، مثل الصين، التي سطّرت معجزةً حقيقية من حيث النجاح في الارتقاء باقتصاد البلد إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ونشل مئات الملايين من الفقر ، لكن ظروف وتاريخ وامكانيات الصين مختلفة عن أي قطر عربي، وليس لدى الانظمة العربية قيادات قادرة وحكيمة وشجاعة، ومؤهلة. هذا فضلا عن التحفظ على نموذج الحكم الصيني السلطوي.

ولكن من منظور الواقعية الثورية، أو الواقعية السياسية، ليس أمام الثوار والطامحين لتحرر والحرية لشعوبهم، والذين يقفون وراء المقهورين، سوى الاستمرار في الاعتماد على قدراتهم الذاتية، وفاعليتهم، و السعى لتطوير تصوراتهم النظرية والعملية، وفي الوقت ذاته السعي للإفادة من أي نافذة تُفتح تلقائيا من هذه التحولات الاقليمية والدولية. فأنصار التغيير، أو الذين ينخرطون في عمليات التغيير السياسي والاجتماعي والديمقراطي، لا بد أن يمتلكوا مهارة إدارة صراعهم ضد الاعداء والخصوم ،ويتقنوا فن العمل ضمن تحالفات واسعة ضرورية، وكذلك القدرة على المرونة والمساومة دون التنازل عن المبادئ.

يعيش العالم الآن مرحلة انتقالية كبرى، ستنتهي بنظام عالمي متعدد الاقطاب، ليس كالذي نتج بعد الحرب العالمية الثانية؛ معسكرا الشيوعية والرأسمالية، بل معسكرات اقتصادية، وعسكرية ، أساسا، تقوم على إعادة توزيع مناطق النفوذ والموارد، بحيث تتراجع فيها القيم الانسانية؛ كالمساواة والحريات الفردية، وحقوق الانسان. ولكن دون هيمنة الامبراطورية الامريكية على النظام العالمي .

لا شك أن وجود اقطاب متعددة أفضل من عالم بقطب واحد، يهيمن ويشن الحروب، يحركه مجمع عسكري؛ اقتصادي ومالي متوحش، وجشع، ولكن ليس بالضرورة أن يكون أفضل للشعوب، لأن معالم النظام العالمي المنتظر ولادته لم تتضح بعد، وقد يستقرق ذلك وقتا طويلا . وبالطبع كل هذا لن يدفع الشعوب، سواء تلك الواقعة تحت الاستعمار الاستيطاني المباشر كالشعب الفلسطيني، او التي ترزح تحت انظمة الاستغلال الطبقي والاجتماعي والانظمة الشعبوية اليمينية، الى الاستكانة والاحتفاء المتسرع بنظام عالمي جديد متوقع، الذي لا يقيم وزناً كبيرا للمثل والقيم التحررية الاجتماعية والديمقراطية وكرامة الانسان، بل سيدفع طلائع هذه الشعوب الثورية والديمقراطية، الاكثر وعياً، وثقافة، إلى تطوير فاعليتهم وتوجهاتهم للإفادة من التحولات الجديدة، التي لا يستطيع أحد معرفة مآلاتها النهائية، و الضغط على النخب التي ستتبوأ هذا النظام من أجل إجراء الاصلاحات الجذرية التي تعيد الاعتبار للانسان، و تخرجه من حالة اللايقين، وتجدد له المعنى، وتمدّه بالأمل.