تقوم الكثير من حكومات دول العالم بإنشاء "جهاز أمني شبه سري" تحت أسماء مختلفة، وتمويله بالمال والعتاد، دون الإعلان عن ارتباطه بتلك الحكومة، وذلك لتنفيذ الأعمال غير القانونية أو "القذرة"، التي لا تستطيع تلك الدولة إعلان مسؤوليتها عنها.
ومع انتهاء دور ذاك الجهاز أو التنظيم، سواء بتحقيق الأهداف التي أنشئ من أجلها، أو افتضاح أمره، أو خروجه عن الدور الذي خُلق من أجله، يتم التخلص من هذا التنظيم، إما بتصفية قادته أو بنفيهم، أما الأعضاء العاديين فيتم استيعابهم في أجهزة أمن الدولة المختلفة أو نفيهم إلى خارج البلاد، وهو ما يحصل الآن مع "شركة فاجنر" لصاحبها المليونير "يفجيني بريغوجين"، وهو الرجل الذي أصبح "في هذه اللحظات"، الأكثر مثارا للجدل في العالم كله (بالمناسبة:- بريغوجين لم يكن طباخا لبوتين وإنما كان صاحب مطعم في سان بطرسبرج، تشرف يوما بقدوم الرئيس بوتين إلى مطعمه، ليقدم له الأطباق بنفسه، وليتشرف بعدها الرجل بهذا اللقب).
ومع مرور بضع سنوات، تم تأسيس "شركة فاجنر للحماية" ليتوزع نشاطها المسلح في العديد من الدول وذلك بدعم لوجستي ومادي من الكرملين. واعتُبِرَ "بريغوجين" الابن المدلل "لبوتين"، حتى أن الشركة تلقت أكثر من مليار ومائتي ألف دولار .
وسيذكر التاريخ أن ما قام به "رئيس شركة فاجنر"، من تمرد مفاجئ ضد سيد الكرملين، هي "أحجية سياسية". فهناك من رأى ذلك بأنها "مسرحية" متفق على نصها ونهايتها بين بوتين وطباخه!. وهناك من رأى أن ما حدث، ما هو إلا "تمرد حقيقي" خرج عن أي نص أو اتفاق كان بين "الطباخ" وسيده. وقيل بأن المخابرات الأميركية هي التي دفعت الرجل إلى التمرد بعد أن اشترته ب 6 مليارات دولار!.
هناك "حكمة روسية" تقول، بأن (الغباء في السياسة... خيانة)، وهو ما انطبق تماما على حقبة الرئيس "بوريس يلتسين" في تسعينات القرن الماضي، الذي أضاع الرجل فيها روسيا بكل خيراتها الاقتصادية وجبروتها العسكري، لا بل وحتى بكرامة شعوبها، حتى إن "جاربتشوف" الذي ستبقى تهمة العمالة والخيانة تلاحقه، لم يستطع "تدمير الاقتصاد والجيش والكرامة الروسية"، كما حطمها ودمرها "بوريس يلتسين"، رغم حبه لروسيا!،
وكما قيل… "ومن الحب ما قتل".
والحقيقة أن مئات الملايين من بسطاء الناس في العالم كله وقفت يوم 24 حزيران 2023 حائرة أمام ما كانت تشاهده بأم أعينها من تمرد لقوات فاجنر، مصدقين سذاجة الأخبار التي كانت تقول بأن موسكو قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى بيد الفاجنر!.
ومما زاد الطين بلة، تلك التصريحات الغبية التي صرح بها "بريغوجين" عندما قال بأن الجيش الروسي يتكبد يوميا 1000 قتيل!!، أي أن روسيا فقدت حوالي نصف مليون جندي! (وهو ما لم تصدقه أية جهة معادية)!. ثم جاء تصريح بريغوجين "السياسي" بأن روسيا بدأت عمليتها العسكرية في أوكرانيا دون أي تهديد عسكري من جانب أوكرانيا بانضمامها إلى الناتو!
وسرعان ما بدأت علامات الثقة بين فاجنر والشعب الروسي تنزلق إلى الهاوية بعد أن وصلت شعبيتها أثناء معارك باخموت إلى السماء خصوصا بعد أن ظهر "بريغوجين" أمام مخزن أسلحة عند باخموت قائلا، إنها تكفي لتسليح مليون جندي!
وبعد يومين فقط وقف الرجل يصرخ ويتهم وزير الدفاع ورئيس الأركان، "بألفاظ سوقية"، بأنهم لا يرسلون السلاح المطلوب له !.
وجاءت القشة التي قسمت ظهر البعير حين صرح الرجل، بأن "بوتين" لن يكون الرئيس القادم لروسيا، وهو ما يذكرني بحادثة يوم 1 أكتوبر 1999، أي بعد أقل من شهرين من تعيين "فلاديمير بوتين" رئيسا لوزراء روسيا المتهالكة، حين دخل مكتبه، دون موعد أو حتى استئذان أحد أقوى أباطرة المال والمافيا الروسية (الأليجارك) اليهودي "جوزينسكي" الذي كان يمتلك كبرى محطات التلفزة والراديو والصحف الروسية (70% من اقتصاد روسيا في عهد يلتسين كانت في قبضة 7 رجال منهم 6 رجال يهود روس، والسابع روسي أرثودوكسي). ووقف الرجل أمام مكتب "بوتين" مباشرة قائلا له:-
اسمع يا فولوديا (ولم يقل سيدي رئيس الوزراء!! أو حتى فلاديمير)... إن لم أحصل هذا الشهر من حكومتك على 47 مليون دولار، فلن تكون في يوم من الأيام رئيسا للبلاد!
وجاء رد بوتين بكل هدوء:- سنرى
الجدير ذكره، أن الرجل بعد أقل من عام واحد كان قد هرب من البلاد بعد أن تمت مصادرة جميع أملاكه وشركاته وعقاراته ومحطات الراديو والتلفزيون التابعة له ولعموم مجموعة الأليجارك الذين تمت مصادرة كل ممتلكاتهم قبل هروبهم من البلاد وإلى الأبد.
ويقول الكثيرون من المحللين بأن الرجل (بريغوجين) ولعدم خلفيته الثقافية والعلمية ونتيجة لطموحاته الشخصية وما أصابه من غرور إنساني، قد أدى به إلى العناد السياسي، أو لنقل… الغباء السياسي.
ومع أن بريغوجين أقسم بأن حركته كانت سلمية وبأن أي دماء روسية لم تسقط، إلا أن بوتين كان يعلم تماما بوجود ضحايا من الجيش الروسي بعد أن أسقطت فاجنر طائرة عسكرية، لينتهي الجدل بأن التمرد كان "مسرحية سياسية".
لهذا، جاء وصف "فلاديمير بوتين" لهذه الحركة ب "الطعنة في الظهر" و"بالخيانة للوطن"، وهو ما لا، ولن "يغفره" الرجل مطلقا!. وهو ما قاله مرة عندما سُئل في إحدى المقابلات التلفزيونية:-
هل أنت رجل مسامح؟... وجاء جواب الرجل الفوري:-
بالتأكيد ... إلا في أمر واحد!.
ما هو؟
الخيانة.
ومع أن "بوتين" كان يستطيع في ذلك اليوم أن يحول طريق فاجنر إلى موسكو، إلى نهر من دمائها، إلا أنه استطاع إنهاء تلك الأزمة سلميا وفقا لجميع شروطه ومطالبه قبل حلول مساء ذلك النهار، بعد أن أعلنت "فاجنر" إنهاء تمردها دون تحقيق أي من شروط "طباخها"، التي كانت تتمثل باستقالة وزير الدفاع ورئيس الأركان وغيرها من الشروط التي لم يوافق "فلاديمير بوتين" على أي منها.
ومع خروج روسيا من هذه الأزمة دون حمام من الدماء، ارتفعت شعبية بوتين في روسيا إلى السماء، خلافا لما تبثه وسائل الإعلام الغربية، بعد أن استخلص الرجل الكثير من العبر.