الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

فلسطين-جنين: عطب الزمن وفعلُ التاريخ

2023-07-04 11:35:11 AM
فلسطين-جنين: عطب الزمن وفعلُ التاريخ
رولا سرحان

"إما أن تموت في المخيم أو تُهجّر منه". تلك العبارة المختصرة هي تاريخ فلسطين، والذي تختصره جنين اليوم. ما بين المخيم، والتهجير القسري، وصراخ الأطفال، والأهالي الذين يحملون بعض حاجياتهم في فزع، وعنف آلة الحرب الصهيونية داخل أزقة مخيم جنين، استحضارٌ لفلسطين النكبة التي لم تتوقف يوماً عن الحضور. تتكرر النكبةُ مع اختلاف بسيط في ترتيب مشهدية التاريخ. بدأت النكبة بعكس ما تبدأ به اليوم في جنين، بدأت بالعنف فالتهجير فالمخيم، واليوم تبدأ من المخيم فالعنف فالتهجير. هذه الثلاثية التي يختلفُ ترتيبها، ولا تختلفُ مشهديتها أو معانيها، تعيدُ أمامنا طرح حقيقةَ أن التاريخ في فلسطين لا يسيرُ بشكل خطي أبداً، إنه لا يسيرُ إلى الأمام، بل هو عالقٌ في مكانه، فآلةُ الزمن في فلسطين معطلة، مصابةٌ بعطبٍ في التقويم، فلا تتحرك إلا بشكل دائري.

وكي يتخطى الفلسطيني الهندسة الدائرية للزمن فإنه يقاومُ. يقاومُ بكل ما يقفُ معه داخل آلة الزمن المعطوبة، أحياناً بالصراخ، وأحياناً بالخوف، وأحيانا بجسده، وأحياناً بالكتابة أو بالشِّعر أو بالرسم، وأحيانا بالسلاح، وأحيانا مؤمناً بالسلام، وأحياناً من نفقٍ تحت الأرض، أو ببالون حارق، وأحياناً بمسيرة، أو بانتفاضة. يجرِّبُ كل ما يمكنُه أن يكون قابلاً لإصلاح سير الزمن، وخلقِ عطب في عطبه، فيتحرك.

وحدهم من لا يفهمون عطب الزمن يجدون حلولاً خارجه فينساهم التاريخ. وليس التاريخُ ظالماً أو عادلاً، تلك ميزةٌ اخترعت لتهدئة القلوب الضعيفة، وحجمٌ يُعطى للتاريخ أكبر من حجمه، فما التاريخُ إلا وعاءٌ فارغٌ وشفاف، ينتظرُ من يملأه. والمادةُ التي يتم بها ملؤ التاريخ تحدد شكله. وجنين تفهمُ كيف تملأُ وعاء التاريخ وتفرغه حتى تستقر المادةُ التي يرادُ لها أن تُحفظَ في التاريخ. فماذا سنجدُ لو فتشنا في الوعاء الذي تصبُّ فيه جنين كل هذه الأحداث؟ الزمن البعيدُ قريبٌ، وقريبٌ جداً، ليست الذاكرةُ بحاجةٍ لإنعاشٍ لتذكره، لأنه دائري، وفي كل مرةٍ يكملُ فيها دورانه، تكون جنين قد دقت مسماراً يُحدِثُ ثقباً في جداره فتُصَبُّ مادةُ أحداثه خارجَ دورانه في وعاء التاريخ.

تلك هي مفهمةُ الزمن المعطوب، ومفهمة التاريخ التي تُحدِّثنا عنها جنين. وهي إعادةُ مفهمةٍ للمادة التي تُصبُّ في التاريخ، فيُصبِحُ مفهومها أكثر اتساعاً من مجرد مادةٍ مكتوبةٍ عن حدثٍ ماضٍ يكتُبه من يمتلك أدوات الكتابة. فعندما تكون هنالك مقدرةٌ على الملء معناها مقدرةٌ على الفعلِ. بهذا تُخرج فلسطين- جنين الكتابة التاريخية عن مفهمتها التقليدية بحصر التاريخ بفعل الكتابة باعتباره انعكاس علاقة قوة وضعف أو نصر وهزيمة. إذ لا تستقيم هذه المفهمة لفهم ما يحدث ويتكرر حدوثه في فلسطين-جنين، فعندما يُصابُ الزمنُ بالعطبِ تُصابُ معه مسلمات المفاهيم بالإعاقة، ولا تعود صالحة للاستخدام البشري. وما هو غيرُ صالحٍ للاستخدام يُرمى ويُستبدلُ، ويُبتكرُ غيره، كي يكون مناسباً لفهم ما يحدث. فما الذي تبتكره فلسطين-جنين في زمن معطوب؟  

إنها تعلمنا استكناه شكل علاقتنا بالتاريخ، عبر نفي مقولةِ أن "التاريخ يكتبه المنتصرون"، فلا يعود التاريخُ مفعولاً به عبر الكتابة، بل يُصبِحُ التاريخُ فعلاً، ومجرد فعلٍ، أما الكتابةُ فهي فعلٌ يعبر عن الانتهاء من الفعل. فالفلسطيني ليس خارج التاريخ أو داخله، لا عبر الكتابةِ أو ما كُتب وما سيكتَبُ ومَن سيكتُب عنه، لأن معنى التاريخ في فلسطين-جنين فعلُ ملء مستمر.