بينما باتَ الانقسام داخل المجتمع الاستيطاني الصهيوني يتجذّر، وأنّ لا عودة لعهده السابق، وهي حقيقة يؤكدّها غالبية المراقبين والمختصين بالشأن الاسرائيلي، لا يستطيع أحد أن يستشرف المآلات النهائية لهذا الحدث الفريد وغير المسبوق، أي من الذي سينتصر، أم أن كلاهما خاسرٌ لما سيتمخض عن هذا الصراع من شروخ اجتماعية عميقة غير قابلة للشفاء.
فبعد تمرير قانون المعقولية، الخميس الماضي، يُخطط قادة الاحتجاج الغاضبون، والمصدومون من تمرير هذا القانون، والذين يشعرون بالهزيمة، بعد أشهر من مظاهرات واغلاق الشوارع، للانتقال الى مرحلة أكثر خشونة لمواصلة مقاومة مخطط نتانياهو وائتلافه الذي يعبرونه مشروع ل "تحويل إسرائيل إلى دكتاتورية". بالنسبة لمعسكر الاحتجاج المهدد بتجريده من امتيازاته التي شيّدها على حساب دماء وأرواح الفلسطينيين، يُشكل نجاح الإنقلاب خطراً وجودياً على نخب هذا المعسكر، وعلى إسرائيل كمجتمع ودولة.
ففي مقالٍ طويل، كتبه مناحيم كلاين، مستشار الوفد الاسرائيلي، في المفاوضات الاسرائيلية الفلسطينية، عام ٢٠٠٠، وهو باحث و واستاذ جامعي، نُشر في موقع 972mag اليساري، يقدم قراءة لميزان القوى بين المعسكرين الاستعماريين، المتنازعين، على هوية اسرائيل، وطبيعة مشروعهما الكولونيالي، ويستعرض نقاط قوة وصعف كلا منهما . وعنوان المقال يقول:
" في الحرب الاهلية الوشيكة ستكون اليد العليا لليمين". وفي الجزء الأخير من المقال يعتقد أنّه تقريبا من المستحيل أن ينتصر المعارضون في هذه الحرب الأهلية بدون مشاركة المواطنين العرب (الفلسطينيون حملة المواطنة الاسرائيلية).
ويبدأ مقاله بالقول "أن الحرب الأهلية التي تختمر، التي نشهدها الآن، ليست مشهداً عابراً، إنما عملية طويلة. وأن هذا النزاع الأهلي ما زال في طوره الأول، وأن المعسكرين المتخاصمين في قيد التشكل والتبلور "
ويمضي في التشخيص “إن الثوريين في اليمين يعتمدون على أغلبيتهم العددية في الكنيست فقط عندما يتعلق الامر بتمرير تشريع. ولكن في حرب أهليه فعلية، سيحتاجون إلى جمهور أوسع ومُجنّّد. وتتكون قاعدتهم الاساسية من المتدينين، من كافة الأطياف ابتداءً من الحريديم الى التيار الديني القومي. إن هذا الجمهور المتدين، شديد التماسك، وهو منظم حول دُور العبادة، وأحياء منفصلة، وحركات شبابية، ونظام تعليم تَحكُمه أيدلوجية دينية وقومية شديدة التطرف".
لكنه يتدارك قائلا، أن الجماعة المتدينة صغيرة بحيث لا تستطيع وحدها الإنتصار في حربٍ أهلية، وستضطر للإستعانة بالقاعدة التقليدية لرئيس الحكومة بنيامين نتانياهو وحزب الليكود، وهذه القاعدة مؤلفة من طبقة وسطى وشرقيين، وهو جمهور مهمش، من قبل النخبة الاشكنازية، ومستثنى من الجماعات المتدينة المغلقة، ويعيشون غالبا في الاطراف وبعيدا عن منافع السلطة. ويحظى نتانياهو والليكود من جانب هؤلاء بالتأييد والدعم، وذلك بفضل حملة المظلومية لخلق جماعة متخيلة تتعرض لملاحقة وتمييز منهجي، مع أن الليكود كان في الحكم منذ عقود. ويأتي تأثير هذه الحملة في السوشيال ميديا التي تعرضُ الأمر وكأنّه صراع طبقي، تخوضه نخبة جديدة ضد نخبة قديمة.
وينتقل الكاتب الى المعسكر الآخر المعارض، متحدثا عن قاعدته، المجتمعية والفكرية، فيكتب تحت عنوان فرعي؛ “سياسات هوية مقابل خطاب حقوق"، أنه على النقيض من معسكر الحكومة، فإن معظم المعارضين لخطة الإصلاح القضائي، تطغى عليهم التوجهات الفردية أكثر منها الجماعية، ويقضون معظم أوقاتهم في دوائر عائلاتهم النووية(الأسرة)، ومع أصدقائهم المقربين، وزملائهم في العمل. إنّ جماعتهم المتخيلة هي غالباً، الوحدة العسكرية التي خدموا بها. ولذلك ليس صدفةً أن أكثر المنظمات شهرة التي تمثل معارضي خطة الاصلاح، تدور حول الجانب العسكري، ويلي ذلك المنظمات التي تستند إلى الموقع الجغرافي، والمهنة، والمستوى الثقافي. هذا يعني أن قاعدة معسكر الاحتجاج أكثر شرذمة من المعسكر الآخر، وأن الرجال والنساءَ لا يعيشون في مجتمعات عضوية. ولذلك يحاول المعارضون توطيد قاعدتهم الاجتماعية من خلال مجموعات الواتس آب، والمحاضرات عبر تطبيق زوم، وبشكل خاص عبر المظاهرات. وتساعد المظاهرات في بناء والمحافظة على معسكرهم، إما من خلال تجاهل القضايا التي يمكن أن تفتت وحدة جمهورهم، أو من خلال توفير مساحة للتعبير عن الاسباب المختلفة لمعارضة خطة الحكومة. ولذلك فإن إصرارهم على النزول إلى الشوارع كل يوم سبت ليس بهدف الضغط على الحكومة فحسب، بل أيضا من أجل المحافظة على الزخم والاستمرارية ووحدة المعسكر ".
ويواصل تحليله؛ " في حين يبرر معسكر الحكومة خطة إصلاح القضاء بالحاجة إلى الحفاظ على الهوية اليهودية للدولة، وممارسة الفوقية اليهودية على غير اليهود، بين البحر والنهر، فإن المعارضين يتحدثون عن الحقوق الفردية في إطار الهوية اللبرالية الديمقراطية، التي يريدون أن يحموها. ولهذا يواجه خطاب المعارضة مشكلة مزدوجة، ذلك أن قادته يمتنعون عن رسم حدود الجماعة التي يتحدثون بإسمها؛ هل يشمل الفلسطينيين؟ وماذا يعنون عندما يتحدثون عن الدولة اليهودية. ليس لديهم جواب على هذه الأسئلة"
وفي تطرقه للمواطنين الفلسطينيين داخل المنطقة المحتلة عام ١٩٤٨، تحت عنوان: "فرص المعارضة" ، يقول: " هولاء ( المواطنون الفلسطينيون) يعون تماما ًبأنهم سيكونون أوّل المستهدفين من قبل مؤيدو خطة الاصلاح ، لأن هويتهم مختلفة، بل متناقضة، عن الرؤية اليهودية. ولكنهم يقفون جانباً، يراقبون المعسكرين، بعضهم يشارك، ولكنهم كمجموعة ليسوا جزءا من حركة الاحتجاج"
ويفسر هذا الامتناع، بأن الفلسطينيين في إسرائيل، مترددون في المشاركة في جماعة متخيلة تهيمن عليها الطابع العسكري، كما أنه لا توجد ثقافة اسرائيلية عن تشارك اليهود مع نضالات المواطنين العرب. وفي الوقت ذاته لا ينظم الفلسطينيون احتجاجاتهم الخاصة ضد الحكومة، لشرح أسبابهم الخاصة لرفض خطة الاصلاح. ويعتقد أنه "بدون مشاركة الفلسطينيين في إسرائيل، فيمكن القول إن امكانية الإنتصار في هذه الحرب تقارب المستحيل. وسيكون صعباً على المعارضين إشراك المواطنين العرب بدون تطوير خطاب هوية، مختلف عن خطاب هوية المعسكر القومي الديني المتطرف، وبدون التعاطف الحقيقي، وتبني موقف غير استعلائي تجاه هؤلاء المصوتين.
ويوجه انتقاداً إلى معسكر الاحتجاج قائلا أنه فشل في تقديم خطاب يتحدى خطاب اليمين المتطرف، إذ فقط “يتمتم أحيانا حول إدارة الصراع مع الفلسطينيين، والعودة الى وهم " دولة يهودية وديمقراطية" التي تحتجز الفلسطينيين تحت نظام عسكري وحشي".
وفي نهاية المقال يتطرق إلى العلاقة بين الجيش والامة. ويعتقد ان التحدي الاخر أمام المعارضة، هو إزالة التماثل بين الجيش والامة.
وينهي مقاله بالقول " حتى الآن، نُظر إلى ظاهرة الرفض في أوساط الجيش بمثابة إنفصال الجماعة القومية الاسرائيلية. ولكننا، في الأشهر الاخيرة، شهدنا تزايد عدد الاسرائيليين، الذين بدأوا يتعاملون مع الجيش كآلية تقنية حكومية، وليس كقيمة بحد ذاته او قيمة عليا. إن هذا التحول التدريجي الذي يحدث داخل المجتمع الاسرائيلي جوهري، أي من مجتمع حربي ومتشكك، وذي نزعة عسكرية، ويشتهي السيطرة على الفلسطينيين، إلى جيش يؤيد السلام والعدالة".
يبقى هذا الحدث الكبير داخل الكيان الكولونيالي، موضوع تحليلات وتقييمات. وعلى المستوى الفلسطيني، سواء العام، أو الخاص بكل موقع جغرافي، لا يعدو التفاعل حتى الآن، مع هذا الحدث سوى فيضٍ من الكتابات والتحليلات والدراسات، بل حتى هذه التحليلات والدراسات لا تزال خالية تقريبا من تخيل سيناريوهات حول كيف سنرد إذا ما انتصر أي من المعسكرين، لأن ماكنة القتل والاستعمار لن تتوقف، بل يخطط الائتلاف الحكومي، الاكثر فاشية في الاندفاع اكثر وبوحشية اكثر في مشروعه العدواني. طبعاً، من الحكمة عدم إقحام أنفسنا (من الخارج ومن الداخل) في صراعهم الداخلي، الذي من المفترض أن يصب في مصلحة شعبنا، لأنه يضعف الكيان الكولونيالي، ولكن ليس معقولاً أن نظل قاصرين عن الاجتهاد وبلورة حركتنا الشعبية الكفاحية، التحررية، لأجل حماية أنفسنا مما هو اسوأ، ومن أجل إسقاط نظام الابرتهايد، والعدالة والمساواة.